وضعت سيان فنجان الشاي برفق على الطاولة، وقد عزمت أمرها.
“قلتي أن الطفل الذي تحدثتِ عنه كان قريبًا بعيدًا لكِ، أليس كذلك؟ لكن هناك شيءٌ لا أفهمه…..كيف عرف ذلك الطفل أن الذي يعيش معه يملك التنين الأسود؟
لو كان فعلًا سيدًا لتنين كهذا، وله نوايا خفية، فلابد أنه أخفى هويته بإحكام.”
“يبدو أنه شاهده مصادفةً، في ليلة بلا قمر…..عيون حمراء لوحشٍ يتوهج وسط الظلام، لا تُنسى.”
“وهذا الطفل، الذي واجه ذلك التنين الأسود الرهيب، خرج من تلك المواجهة حيًّا…..ليحكي لكِ ما رآه؟”
لأول مرة، ترددت ريفينانت في الرد. ولم تنتظر سيان، بل مالت برأسها قليلًا وكأنها تتساءل ببساطة،
“غريب…..لو كنت أنا من يملك تنينًا كهذا، وظهر طفل عادي رآه بالصدفة، لتخلصت منه فورًا حتى لا يبقى أي أثر أو دليل. كيف نجا طفلٌ عادي من تنين أسطوري كهذا؟”
قالت سيان ذلك بنبرة مشرقة وخالية من أي توتر، وكأنها تتحدث عن أمر لا أهمية له، لكن تلك البرودة البسيطة التي غلفت كلماتها، جعلت الصمت الذي خيّم فجأةً على الغرفة أشد قسوة وإرباكًا.
السيدات النبيلات، اللواتي لم يعتدن سماع حديث عن قتال أو قتل، ارتجفن بخفة، وارتعشت أكتافهن دون وعي من وطأة الخوف.
“آنسة…..إنك تقولين أشياء مرعبة…..ووجهكِ ما زال مبتسمًا!”
“آه، آسفة إن كنت أخفتكن. يبدو أنني تحمّست دون أن أشعر، فأنا أحب هذا النوع من القصص كثيرًا.”
“التصديق من عدمه يظل قرارًا شخصيًا في النهاية. لا أحد يعرف حقًا كيف نجا ذلك الطفل من التنين الأسود…..لكنني فقط أروي ما سمعته.”
“لا أظن أنني قد أكذب في شيء كهذا. خصوصًا ونحن نتحدث عن التنين الأسود، العدو المرعب الذي كاد أن يغرق العالم في فوضى كبرى. من المستحيل أن أختلق شيئًا كهذا.”
“حتى لو لم يكن كذبًا، فقصص كهذه، مبهمة المصدر، يجب أن تُقال بحذر. خصوصًا حين تكون بهذا القدر من الرعب والخطورة.”
“آه يا إلهي، كنت أتحدث للتسلية فقط، لا تكوني صارمة هكذا، آنسة.”
رغم أن سيان كانت تدرك تمامًا أن ريفينانت قالت ذلك فقط لاستفزازها، إلا أن نظراتها أصبحت أكثر حدّةً رغمًا عنها.
“التنين الأسود هو عدو يغدراسيل، مؤسس الإمبراطورية…..لا أظن أنه موضوعٌ يصلح للمزاح، أختي.”
“…..أحقًا؟ معك حق، ربما كنت قاسيةً قليلًا. لا سيما وأن سيد إيدلين، وهو من سلالة يغدراسيل المباشرة، هو خطيبكِ يا آنسة…..فلا بد أن هذه القصة بدت مزعجةً للغاية بالنسبة لكِ.”
كانت سيدات النبلاء يكتفين برشف الشاي بصمت، متجاهلات حديث ريفينانت وسيان، ولا يجرؤن إلا على تبادل النظرات المتوجسة.
“لا تأخذي الأمر بحساسية بالغة، يا آنستي الجميلة، فأنتِ لستِ سيدة التنين الأسود، أليس كذلك؟”
قالت ريفينانت ذلك مبتسمةً وهي تضيق عينيها.
“تخيّلي فقط…..سيكون أمرًا بالغ الإزعاج، أليس كذلك؟ أن يكون سيد إيدلين، الوريث المباشرة ليغدراسيل، خطيب سيدة التنين الأسود، الوريث المباشر لبيغادراسيل، خصمه اللدود.”
‘تباً…..’
تمتمت سيان بالشتيمة في نفسها عاجزةً عن كبحها.
“آه…..سيدة كارتر، مهما كان اجتماعنا هذا مصغرًا، أليس من اللائق أن يكون اللقاء الأول لخطيبة سموه أقل كآبة؟”
“أجل، دعونا نتحدث عن أمور أكثر بهجة.”
وضعت روز أندرسون وكايتي، اللتان ظلّتا صامتتين غير قادرتين على إيجاد مدخل للحديث، أكواب الشاي، مقاطعتين ريفينانت.
“إن كنت قد أفسدت الأجواء، فأنا أعتذر… لكن رؤية خطيبة سيد إيدلين أيقظت هذه الأفكار في رأسي.”
“أما أنا فأجد الأمر شيقًا للغاية…..لو كان التنين الأسود ما زال حيًّا، فهل يكون هو من اغتال ملكة التنانين؟”
“يا إلهي، سيدة لوتيس! ما هذا الكلام المرعب؟”
ارتعبت روزا أندرسون، المعروفة بخجلها رغم مظهرها الواثق، وعلّقت بصوت مرتجف.
أما سيان فعضّت على لسانها قهرًا، في حين ارتسمت ابتسامةٌ باردة على وجه ريفينانت.
“أليس هذا منطقيًا؟ سمعت أن سموه عرض أمام مجلس النبلاء أدلةً عجيبة حصل عليها من معبد التنين، أليست تلك بمثابة براءة من المعبد لنفسه؟ إذًا من غيره كان ليقتل ملكة التنانين؟”
“لكننا لا نعلم حتى إن كان التنين الأسود موجودًا حقًا، فضلاً عن كونه من نسل بيغادراسيل.”
حاولت سيان بحذر تهدئة رأي السيدة لوتيس، لكن حتى روز أندرسون وكايتي سانز، اللتين لم ترغبا بالخوض في موضوع التنين الأسود، بدا عليهما الانجذاب لفكرة لوتيس.
“ألم يقولوا أن أحد أقارب السيدة كارتر الصغار رآه بعينيه؟ يا إلهي، يبدو أن الأمر حقيقي! ثم من غير تنين أسود يمكنه التجرؤ على اغتيال ملك التنانين؟”
“يا للعجب..…”
بكلمة واحدة من لوتيس، ساد الاعتقاد في القاعة أن القاتل ليس سوى التنين الأسود.
‘يا لهنّ من نساء رقيقات الآذان*…..’
*يعني مايصدقون يسمعون شي عشان يبربرون فيه
عضّت سيان باطن شفتها بقوة؛ فلا يقين لديهم، ومع ذلك ضجّوا بأقصى ما لديهم من تهويل.
“لا يمكننا الجزم بعد، سيداتي، وأظن أنه من الأفضل توخي الحذر في هذا الشأن.”
ومع أن الجميع أدركوا أن ريفينانت هذ من حرّكت دفة الحديث عمدًا، إلا أنها رفعت إصبعها إلى شفتيها عابسة.
“إن كان التنين الأسود موجودًا حقًا وله صلةٌ باغتيال ملك التنانين، فهذا أمر سيتولى كبار القوم التحقيق فيه وكشفه.”
“ومع ذلك، كيف سيعرفون بما رآه قريب السيدة؟ مثل هذه الأمور يجب أن تنتشر لتوقظ الحذر في نفوس الناس. ألا ترون كم ما زالت الإمبراطورية تضج بأحاديث اغتيال ملكة التنانين الذي لم يُكشف فاعله؟”
“صحيح، حتى أننا لم نعد نقيم حفلات بسببه…..لقد فقدت الحياة بهجتها مؤخرًا.”
“أتمنى أت يظهر أي خيط يقود للقبض على القاتل سريعًا، حتى نعود إلى حياتنا الطبيعية.”
تمتمت سيدات النبلاء بذلك مجتمعات بشكواهن.
***
“ذلك التنين الأسود الشرير… لا علاقة له ببيغادراسيل.”
“…….”
“ليس كل من تشابه لون شعره وعينيه إنسانًا من دم واحد. أعلم ذلك…..بل أنا أكثر من يعرفه.”
تمتمت سيان بهذه المناجاة المظلومة، و هي تعضّ على شفتها بأسى.
“……ما الذي قلته يا سيدتي؟”
“لا شيء.”
رفع ماكس، المرافق الشخصي، حاجبيه بدهشة وقد سمع همهمة سيان، لكنها أسرعت في تدارك الأمر، رغم أن شعورها لم يكن أفضل مما كان عليه حين غادرت القصر.
‘من نسل بيغادراسيل، إذاً…..لقد كانت النية منذ البداية أن تُشاع هذه الأقاويل.’
أُثقلت خطى سيان وهي تعيد شريط ما دار في حفلة الشاي كلمةً كلمة. لقد استخفّت بريفينانت أكثر مما ينبغي، والآن لم يتبق لها سوى الندم على سوء تقديرها.
لم يكن ليخطر ببالها أنهم سيتجرأون على نشر شائعات عن التنين الأسود.
لقد حاولت مرارًا إقناع سيدات النبلاء بأن الأمر لا يُمكن أن يُتداول بخفة، لكن محاولاتها باءت بالفشل.
إذ بات واضحًا أنهن متعطشاتٍ للقصص المثيرة في زمن مُنع فيه إقامة الحفلات والتجمعات الكبرى بسبب اغتيال ملك التنانين.
ستعود كل منهن إلى بيتها ولن تكفّ عن الثرثرة بشأن التنين الأسود أمام أزواجهن وخدمهن على السواء.
ومع ذلك، لم يظهر قط للعيان ولو لمرة واحدة، فإن انتشرت الشائعات فستظل بلا دليل ولا مصدر واضح، وستخمد سريعًا كما خمدت كل مرة من قبل، ما داموا يلوذون بالصمت وكأنهم موتى، ويعيشون كأنهم غير موجودين.
“أختي.”
حاول سيان تهدئة نفسها وهي تهمس: ‘لا داعي للقلق الكبير’، لكن رأسها ازدحم بأفكار مربكة لم تستطع كبحها، وقد تملكها قلقٌ غامض لم تجد له تفسيرًا.
هل سينتهي الأمر عند هذا الحد؟ وهل ستتوقف ريفينانت فعلًا عند ذلك؟
لم تكن واثقة، لكن حدسها كان يهمس بأن الفخ الذي استهانت به أعمق بكثير مما ظنت.
‘من يُنكر وجوده لن يملك شيئًا أبدًا.’
استمدت الشجاعة من كلمات الكاهنة الكبرى، وتهيأت لمواجهة كل ما قد يعترضها حين جاءت إلى العاصمة، لكنه حين أصبح هذا كله حقيقة، شعرت برعبٍ يجمد الدماء في عروقها.
ذلك التنين الأسود الذي لم يعترف به حتى والداها، لم يكن سوى مخلوق مسكين يحمل قشورًا سوداء، لا يمتّ بصلة لبيغادراسيل، عاش مختبئًا دهورًا طويلة تحت وطأة أحكام العالم المسبقة، و لم يذق نور الحياة ولو مرةً واحدة.
وسيّان، التي اختارها ذاك التنين وارتبط بمصيرها، عاشت المصير ذاته.
هل يمكنها أن تغيّر كل ذلك؟ أن تحطم هذه القيود؟
هل ستمنحها هذه الحادثة، سواءً كانت فرصةً أو محنة، القدرة على الاعتراف بنفسها أخيرًا كسيدة التنين الأسود ورفع رأسها عاليًا؟
كان الأمر مخيفًا، فأن تواجه العالم بثبات لم يكن شيئًا يسيرًا.
“أختي!”
كانت سيان غارقةً في أفكارها عن ريفينانت إلى حدّ أنها لم تسمع صوت ماكس، حتى أفزعها النداء العالي في أذنه فأفاق فجأة.
“فيما تفكرين بعمق هكذا؟”
“آه…..الأمر ليس..…”
اقترب ماكس بوجه متجهم حتى صار أمام سيان مباشرة، فيما كانت تتلعثم محاولةً التبرير.
“يُستحسن أن تُلقي نظرةً هناك.”
أشار ماكس نحو بوابة قصر كارتر. خلف الحديقة الفسيحة، فقد توقفت عربةٌ غريبة أمام المدخل.
“سمو الأمير كارلستون وصل وهو بانتظاركِ.”
انحنى خادم الكونت كارتر الذي خرج لوداعهم احترامًا وهو يوضح الأمر.
ثم عقدت سيان حاجبيه لا إراديًا. لقد أراد الأمير مرافقتها في طريق القدوم، وها هو قد جاء لاستقبالها في طريق العودة أيضًا.
“يبدو أنكِ تتلقين محبةً كبيرة.”
قال الطبيب جيفي ذلك بابتسامة باهتة، لكن صوته حمل ضيقًا واضحًا. فتنهدت سيان بعمق دون أن تشعر.
‘هل أنا حقًا محبوبة؟’
كل ما ترتديه من رأسها حتى أخمص قدميها لم يكن فيه شيء لم يمنحه إياها كارل. حتى أنها لم تكن تتخيل يومًا أن تحظى بمثل هذه الرفاهية طوال حياتها…..
لكن كلمات ريفينانت عادت لتوخزها كشوكة.
‘أليس أمرًا بالغ الإزعاج أن يكون سيد إيدلين، الوريث المباشر ليغدراسيل، خطيبة سيدة التنين الأسود، الوريث المباشر لبيغادراسيل، خصمه اللدود؟’
__________________
ياليل ريفينانت الحماره لو انها ساكته وجايه تهددها بهدوء كان احسن
مشاعر سيان الحين بتتضارب ثم تخاف كارل يدري ثم يمكن مانشوف رخص الا بعدين😔
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات