***
هيندريك كلاوس كان يحدّق بصمتٍ في نقطة واحدة.
عيناه الزرقاوان بلون البحر توقفتا عند صندوق عرضٍ صغير على الطاولة. و في داخل صندوق العرض كانت هناك قشرة تنين مختومة.
القشرة الكبيرة كانت تعكس سحرًا فضيًا متلألئًا. وكأن ذلك البريق الفضي قد يكشف عن صورة ذهنية أخرى، فراح هيندريك يحدق بها دون أن يرمش.
“سمو ولي العهد، الماركيز دانيال. غريغوري يطلب المثول بين يديكَ.”
رافقت صوت الطرقات الخفيفة على الباب صوت الخادمة من الخارج. فحوّل هيندريك نظره عن قشرة التنين.
“دَعيه يدخل.”
فُتح الباب ودخل رجلٌ في منتصف العمر ذو شعر أسود.
رجل يرتدي بدلةً سوداء مطرزة بخيوط ذهبية، تقدم بضع خطواتٍ إلى داخل الغرفة وانحنى بأدب.
“ماذا جرى للورد كارتر؟”
“في الوقت الحالي، أمرناه بالبقاء في منزل المدينة للتأمل. و لم يتم التوصل إلى توافق داخل مجلس النبلاء بعد……”
عند التقرير الهادئ الذي أدلى به الماركيز، ويداه مضمومتان أمامه، خمد بريق العيون الزرقاء لهيندريك ببرود.
“فارسٌ من العامة ألحق إصابةً قاتلة بكارل، الذي هو لورد وأمير. رغم أننا أكدنا مرارًا قبل التحرك أن هدفنا هو تحييد إيدلين وأسر سيده، إلا أنه فعل ذلك.”
“…….”
“حتى وإن كانت الشكوك تحوم حول كارلستون، لورد إيفاريد، فهذا تجاوزٌ واضح للصلاحيات وتمردٌ صريح. ومع ذلك، كانت العقوبة مجرد تأمل في منزل المدينة؟”
من دون حتى أن يُطلب منه الجلوس، تعمّقت تجاعيد وجه الماركيز من الحرج أمام سيل التوبيخ المفاجئ.
“لكن يا سمو الأمير، كما قلتُ سابقًا، كانت ظروفًا لا مفر منها. أنتَ أعلم مني بماهية إيدلين.”
“أعرف. أعلم جيدًا. ولهذا خرجت معكم في المهمة من دون أي إخطارٍ مسبق.”
فقد الماركيز كلماته أمام حدة كلام هيندريك، وراح يحكّ ما بين حاجبيه.
“استخدام ثلاثة تنانين في إيفاريد التي كانت دون دفاع، كان احتياطًا لأي طارئ غير متوقّع قد يحدث. كنا نحاول ضمان القبض على كارلستون بأمان.”
“يا سمو الأمير، صاحب السمو كارلستون كلاوس يُشتبه به حاليًا في قضية اغتيال ملك التنانين.”
“لكن لم يتم إثبات أي شيءٍ بعد. حتى المعبد لم يصدر مذكرة توقيف، أليس كذلك؟”
تنهد الماركيز بعمق.
“إصدار مذكرة التوقيف من المعبد مسألة وقتٍ فقط. فقد ظهرت أدلةٌ قاطعة على جثة ملك التنانين المقتول……”
تحوّل نظر الماركيز نحو صندوق العرض الموضوع على الطاولة. ذلك الشيء الذي كان هيندريك يحدّق فيه قبل دخوله مباشرة.
عبس هيندريك بخفة فوق ملامحه الباردة الخالية من التعبير.
“إن كانت هذه حقًا أفعال كارل، فلا بد من معرفة السبب، وكيف تمكن تنينٌ مثل إيدلين من دخول القصر الإمبراطوري دون أن يُكتشف، وغير ذلك الكثير من الأسئلة التي لم تُحل بعد. من الخطير للغاية أن نجزم بأن إيدلين هو الفاعل لمجرد وجود قشرة واحدة من قشوره.”
“لكن يا سمو الأمير، لقد وافقتَ على القبض على سموه كارلستون لأنكَ اعترفتَ مؤقتًا بشبهة التهمة……”
“لقد أسأتَ فهمي يا عمي. أنا لم أعترف أبدًا بتهمة كارلستون. كل ما في الأمر أن ظهور أدلة يستدعي الحذر، لذا أردت فقط إحضار كارلستون وإيدلين إلى العاصمة للتحقيق معهم بدقة. واصطحبتكَ معي تحسبًا لأي طارئ. وأنا لا أذكر أنني منحت الإذن لأي شخص بإلحاق الأذى بكارل، ولو لمرة واحدة.”
قال هيندريك كلاوس ذلك بصرامة وهو يضع ذراعيه متشابكتين ويميل بجسده نحو الطاولة.
كان صوته حازمًا، باردًا ومنخفضًا إلى حدٍ لم يترك للماركيز مجالًا للرد.
حتى لو كانت لديه كلماتٌ ليقولها، فقد ساد جوٌ بارد مشحون لا يسمح له بذلك. فأطبق فمه في حرج وانحنى برأسه إلى الأسفل.
“أعتذر يا سمو الأمير. إذاً، ما الذي تقترحه بشأن معاقبة اللورد كارتر؟”
“خفض راتبه لمدة سبع سنوات، ومنعه تمامًا من التواصل مع التنين لمدة ثلاثة أشهر.”
قطّب الماركيز حاجبيه.
‘ثلاثة أشهر؟’
رابطة السيد والتنين علاقة مصيرية لا يُمكن الفصل فيها. حتى وإن لم يكن من الممكن التواجد معًا دائمًا بسبب حجم التنين وهيبته، فإن التواصل الدوري بينهما ضروري.
“……مفهوم. سأفعل ما أمرتَ به.”
رأى الماركيز أن هذه العقوبة كانت قاسية بحق سيد التنين، لكن لم يكن بوسعه قول المزيد. فقد كان البرود المتصاعد من ولي العهد، الذي لم ينظر إليه حتى، شديدًا.
“إذاً، ما الذي ينبغي أن نفعله بشأن اختفاء صاحب السمو كارلستون كلاوس؟ ألا يجدر بنا تشكيل فرقة بحثٍ للعثور عليه؟”
“فرقة بحث؟”
ردد هيندريك كلمات الماركيز بنبرة ذات مغزى، وحدّق فيه.
“بما أن سيدها تعرّض لهجوم من قِبل اللورد كارتر وأُصيب إصابةً بالغة، فلا شك أن حذر إيدلين قد بلغ ذروته. في مثل هذه الحالة، من برأيكَ يستطيع العثور على كارل، يا عمي؟”
“لقد فكرت في الأمر مليًّا، وكما تفضلتَ يا سمو الأمير، من غير المجدي إرسال أي شخص عادي، فمن الصعب العثور على سموه دون أن يلحظه إيدلين. لذا، لا بد من الاستعانة بشخص يملك معرفةً عميقة بالتنانين.”
“……مثل من؟”
عند سماعه كلام الماركيز، بدا أن هيندريك قد أُثير اهتمامه، فغيّر من جلسته وواجهه مباشرة.
ارتسمت ابتسامةٌ حذرة على شفتي الماركيز إزاء هذا التفاعل الإيجابي النادر.
“قبل نحو عشر سنوات، كان هناك صيّاد تنانين يُدعى ريفينانت، وقد دخل غابة الأرواح الساقطة. ذلك الرجل يعرف عن بيولوجيا التنانين أكثر من أي شخصٍ آخر، وقد يكون مفيدًا في هذه المهمة……”
“صيّاد تنانين؟”
عاد الانزعاج الطفيف ليظهر على ملامح هيندريك بعد أن كانت نبرته لبرهةٍ أكثر وُدًّا. لكن الماركيز لم يعر ذلك اهتمامًا كبيرًا، فهكذا عادةً ما يكون حال جميع أسياد التنانين.
“هل ما زال شخصٌ منحطٌ كهذا موجودًا حتى الآن؟”
“حسب علمي، لقد تقاعد منذ زمن. ولهذا السبب بالتحديد أقترح الاستعانة به يا سمو الأمير.”
قال الماركيز ذلك بأقصى درجات الحذر، بينما أطلق هيندريك ضحكةً ساخرة باردة.
“هذا عبث. كيف يمكننا الاعتماد على شخصٍ تافه وفاشل مثله؟”
“لكن الوضع عاجل، يا سمو الأمير. الشائعات قد انتشرت بالفعل في أرجاء العاصمة بأنكَ تحاول القضاء على سمو كارلستون، قاتل ملك التنانين. وأغلب الظن أن سموه وإيدلين قد صدّقا هذه الشائعات أيضًا. عليكَ العثور عليهما وتسوية الأمر قبل أن يتفاقم الصراع أكثر.”
زمّ هيندريك شفتيه بصمت، وارتسمت على وجهه ملامح ثقيلة.
الخطة التي كانت تهدف إلى تأمين كارلستون كلاوس بهدوء وسلام قد انهارت بالكامل. و السبب في ذلك أن الفارس أنطونيو كارتر، حين رأى كارلستون يبدأ في الاندماج مع التنين قبل حتى أن يظهر إيدلين، استعجل باستخدام القوة.
وفي النهاية، أُصيب كارل بجراحٍ خطيرة وهرب بمساعدة حراسه الشخصيين، وخلال اشتباكه مع الجنود الذين حاولوا منعه، تحوّلت أسوار إيفاريد الخارجية إلى خرابٍ تام.
وبسبب ذلك، انتشرت شائعةٌ مفادها أن ولي العهد هيندريك كلاوس، الذي كان يكنّ الغيرة لكارلستون كلاوس، سيد التنين النبيل إيدلين والذي يشكّل تهديدًا محتملاً لمكانة ولي العهد، حاول التخلص منه باتهامه زورًا بقتل ملك التنانين.
لكن كما قال الماركيز، فذلك كان تشويهًا كاملاً للحقائق.
رغم ذلك، كان في كلام الماركيز شيء من المنطق. لكن…… “صيّاد تنانين”؟
تجهم وجه هيندريك وراح يتمتم بانزعاج، وقد ظهر الغضب واضحًا بين حاجبيه.
“فهمت وجهة نظركَ يا عمي. سأفكر بالأمر.”
“يا سمو الأمير، الوقت لا يسعفنا. لا بد من الإسراع-”
“مهما بلغت الأمور من استعجال، هناك قضايا تتطلب الحذر، يا عمي. في إمبراطوريةٍ عريقة تأسست على أسطورة مجد التنين، أن نستعين بصيّاد تنانين؟”
ومع إلحاح الماركيز المتكرر، خرج صوت هيندريك في النهاية مشوبًا بالضيق. فأغلق الماركيز فمه وقد ارتسمت على وجهه علامات التوتر.
“يكفيني صداعًا مجرد التفكير في ما قد يقوله المتفرجون والثرثارون. لذا، دعنا نمنح القرار بعض الوقت.”
انحنى الماركيز بصمت، وكأنه قد نسي كيف يتحدث.
“……بإمكانكَ الانصراف.”
رغم أنه جمع يديه بانضباط وانحنى بأدب، فإن ملامحه كانت لا تزال تحمل شيئًا من التردد والتعلّق، مما جعل هيندريك يصدر أمره ببرود حازم.
تجعدت المسافة بين حاجبي الماركيز، وقد ظهرت فيها آثار السنين. و انحنى في صمت دون أن يرد، وأدار ظهره وغادر.
وسط سكونٍ ثقيل، تردّد صوت الباب وهو يُفتح ويُغلق، و أعقبه صوت نقر خفيف بأسنان هيندريك ولسانه.
بقي هيندريك يحدّق طويلًا في الباب الذي خرج منه الماركيز، وعلى وجهه تعبير منزعج وكأن ماءً مالحًا قد رُش عليه.
ثم، وهو لا يزال يحدق في الباب، راح ينقر بأطراف أصابعه على الطاولة، غارقًا في التفكير.
“ميكايل، هل أنتَ هناك؟”
بعد فترة طويلة من التفكير العميق، رفع هيندريك نظره عن الباب ووجه صوته نحو الباب الآخر في المكتب. و سرعان ما فُتح الباب الداخلي وظهر رجلٌ ذو شعر أحمر.
“أنا هنا، سمو الأمير.”
عندما ظهر الرجل مرتديًا زي الفرسان، استند هيندريك على مسند المقعد وذراعيه متشابكتين.
“هناك أمرٌ عاجل يجب أن تقوم به.”
قال هيندريك ذلك بنبرة باردة، وعيناه الزرقاوان تتألقان ببرودة، بينما أومأ ميكايل ذو الشعر الأحمر برأسه في صمت.
“سأفعل ما تأمر به، سمو ولي العهد.”
***
كانت سيان تحدق في شيءٍ ملفوف بقطعة قماش صغيرة وهي عابسة، عاقدةً ذراعيها.
……كانت قد نسيت تمامًا أنها كانت تنوي السؤال عن هذا الشيء. كان ذلك هو نفسه ما قال الدكتور جيفي أنه استخرجه من جسد الأمير.
تذكارٌ مصنوع من عظم تنين حي. شيء رديءٌ للغاية من النوع الذي قد يستخدمه أقل القتلة شأنًا.
كانت قد علمت أن من استخدم التذكار مباشرةً ضد الأمير لم يكن هيندريك ولي العهد، بل كان الفارس أنطونيو. لكن ذلك لم يحل جميع الأسئلة.
أولاً، كان أكبر تساؤل هو ما إذا كان هجوم أنطونيو قد تم بأمرٍ من هيندريك كلاوس، أو أنه كان تصرفًا منفردًا.
لم تلتقِ سيان بهيندريك كلاوس من قبل، لكنها سمعت أنه شخصٌ شديد الفخر بكونه سيدًا للتنين.
لكن استخدام وريث إمبراطورية بهذا الفخر لتذكارٍ مصنوع من عظام تنين حي لقتل شقيقه……كان الأمر يشوبه شكوكٌ تجعل من الصعب تصديقها بشكل تام.
بالطبع، لم يكن أمرًا يمكن الوصول إلى إجابته من خلال التفكير وحده. فحتى لو سألت الأمير كارلستون، فإنه لن يكون قادرًا على تقديم إجابة مؤكدة أيضًا.
ومع ذلك، كان السبب الوحيد الذي جعلها تفكر في الأمر مرارًا وتكرارًا هو شيءٌ واحد.
‘إذا كان العدو بهذا المستوى من الحقارة، فالأفضل أن نُبادر إلى بناء الجدران في وقتٍ مبكر……’
الأمير ولي العهد الذي لا ينقصه شيء: المال، والسلطة، والتنين. إضافةً إلى ذلك، إذا كان شخصًا بهذه الحقارة من حيث الأخلاق، فلا داعي للتفكير أكثر.
إذا تم القبض على شخصٍ يساعد الأمير الذي وُصم بالخيانة، فإن الأمر لن يتوقف عند مجرد وضعه في قائمة المطلوبين. سيكون الأمر على الأقل قطع أطرافه، وأقصى الاحتمالات قد تكون تعليق رأسه على بوابات المدينة.
بالإضافة إلى ذلك، كان هو الشخص الذي تعرض بالفعل لهجومٍ من ثلاثة تنانين! هذا يكاد يعني أنه حول إمبراطوريةً كاملة إلى أعداء.
حتى لو كان منصب أمير إيفاريد ثابتًا، وكان يفكر في تقديم المساعدة أو لا، فلا شك أن الأمور ستكون أكثر تعقيدًا إذا كان الشخص في حالة هروب مع إصابات خطيرة.
بعد أن نظمت سيان أفكارها، أخذت التذكار الذي كان موضوعًا على الطاولة.
______________________
يعني وش؟ ولي العهد صدق يكره كارل؟ ولا يحبه؟ ياشيخ ارس على بر
المهم ايديلين شكلها حلوه لونها فضي صافي✨
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 6"