ظهر طائرٌ أبيض شقّ زرقة السماء الصافية دون أن تعترضه غيمةٌ واحدة.
كان الطائر يحلق بجناحيه الصغيرين المنبسطين تمامًا، منسابًا بخفةٍ فوق التيارات الهوائية.
وبينما كان يحافظ على ارتفاعه الشاهق، امتدّ خلف رأسه مشهد قصر الإمبراطورية، قصر إيغريون الإمبراطوري، بكل ما فيه من فخامة وهيبة.
الطائر المدرب اتجه مباشرةً نحو المبنى العالي من القصر الذي بدا أمامه. وفي نهاية الطابق الثالث، خلف الشرفة، كانت ستارةٌ بيضاء ترفرف بلطف، والباب هناك كان مفتوحًا على مصراعيه.
رأى كارل الطائر قادمًا، فأطبق شفتيه وأطلق صفيرًا قصيرًا مألوفًا. و الطائر الذي كان يهمّ بتغيير مساره خفق بجناحيه، لكنه ما لبث أن انعطف نحو صاحب الصوت الذي اعتاد عليه.
بهدوء خبير، مدّ كارل يده واستقبل الطائر على راحته.
وقد كان على صدر الطائر أسطوانةٌ صغيرة مربوطة بخيط، تحوي رسالة سرّية.
“أحسنت.”
فكّ الرباط وأخرج الرسالة، ثم أطلق سراح الطائر. فطار الطائر بسرعة خارج الباب المفتوح، وقد أدى مهمته دون سابق إنذار، كمن تخلّص من عبء ثقيل.
تأمل كارل الطائر وهو يبتعد، ثم خفض بصره ليتفحص المرسل.
كان الاسم الذي خطّ على الرسالة: “ريكايل”، من فرسان القصر الملكي، وأحد رجال ولي العهد.
{إلى صاحب السمو الأمير المحبوب.
كان من الواجب أن أتشرف بمقابلتكَ وإيصال كلمتي شخصيًا، غير أنّ التوتر الظاهر بين سيدي ولي العهد وسمو الأمير جعَلني أعتذر عن الاكتفاء برفع هذا التقرير الخطي.
أرفع إلى سموك نتيجة مراجعة سجل النبلاء، وذلك تنفيذًا لأمرك، بدءًا من عشرين عامًا مضت وحتى خمسة أعوام خلت، أي خلال خمسة عشر عامًا كاملة.
وللدخول في صلب الموضوع، لا توجد أي سيدة نبيلة تم طردها رسميًا من عائلتها خلال تلك الفترة.}
قرأ كارل الرسالة حتى هذا الجزء، مسندًا ظهره إلى إطار الباب.
لقد جاءت هذه الرسالة متأخرة، بعد أن انكشفت له الحقيقة بالفعل. فمنذ أيام، كان قد أوكل إلى “ريكايل” مهمة التحقيق في خلفية “سيان”، تلك الفتاة التي أثارت فضوله مرارًا.
لم يكن يعرف عمرها الدقيق، لكن مظهرها يشير إلى أنها في أوائل العشرينات، ولذا طلب من ريكايل أن يراجع أرشيف النبلاء من فترة خمس إلى عشرين عامًا مضت، بحثًا عن أية نبيلة جرى طردها من عائلتها.
لكن الحقيقة التي انكشفت له مؤخرًا كانت أوضح من أن تُنكر: “سيان” هي ابنة الكونت “تشاندلر”، سيّد الحدود، الفتاة التي قيل أنها ماتت بسبب مرض مستوطن.
لذلك، لم تُصبه خيبة أمل حقيقية من فحوى رسالة ريكايل. لم تكن لتُسجَّل كمنبوذة أبدًا. فوفاتها كانت مذكورةً رسميًا.
لكن شعور الذنب راوده، فقد تكلّف “ريكايل” مشقةً غير قليلة بتفحص أرشيف النبلاء لخمسة عشر عامًا، وليس من السهل الخوض في تلك السجلات القديمة.
رغم أن حماسه للرسالة تلاشى، إلا أن احترامه لجهد ريكايل دفعه لإكمال القراءة حتى النهاية.
{أعتذر بصدق عن عدم تمكني من تنفيذ المهمة كما يجب. لكنني سأواصل هذا التقرير، لأنني، أثناء مراجعةً السجلات، عثرت على أمر مريب لا يمكن تجاهله.}
في تلك اللحظة، تغيّر بريق عيني كارل، وقد كان يقرأ الكلمات بلا اكتراث وهو يعبث بذقنه بأطراف أصابعه.
{في عام 1624 حسب التقويم الإمبراطوري، تُوفيت “إيرا تشاندلر”، الابنة الوحيدة للنبيل “وينستون تشاندلر” حاكم منطقة ويكريا، بسبب مرضٍ مستوطن.}
…..إيرا تشاندلر.
قطّب كارل جبينه دون أن يشعر، فهذا هو الاسم الحقيقي لـ”سيان”.
ولكن، رغم أن مطلع الرسالة أكد عدم وجود أي سيدة نُبذت من عائلتها، ها هي الآن تُذكر في السجلات على أنها “حادثة مريبة”، ضمن تقرير أُرسل خصيصًا له.
…..مصادفة؟
مسح كارل ذقنه بيده الأخرى، مفكرًا.
مستحيل أن تكون مجرد مصادفة. وبسرعة، انطفأت ملامحه وصار وجهه باردًا كالجليد.
{قبل وفاة الابنة الوحيدة، لم يُر القمر في سماء ويكريا طيلة نصف شهر.
وفي إحدى تلك الليالي التي اختفى فيها القمر، أصيبت الآنسة إيرا تشاندلر بحمى غامضة لا تفسير لها. وبعد مرور أسبوعين بالتمام، في اليوم الذي وافق وفاتها، ظهر قمر مكتمل في السماء.
هذا هو نصّ السجل الذي بقي في أرشيف النبلاء. لا أعرف السبب الحقيقي الذي دعا سموك لطلب البحث عن سجلات السيدات المنبوذات، لكنني أرفق هذا التقرير لعلّه يعينك على كشف ما تبحث عنه.}
هنا انتهت رسالة “ريكايل”.
“…..القمر؟”
تمتم كارل بصوتٍ خافت دون أن يشعر، كأنما نطق بالكلمة وهو غارقٌ في تفكيره.
صحيح أن القمر قد يختفي أحيانًا بسبب الغيوم ليوم أو يومين، لكن أن يغيب لخمسة عشر ليلة متواصلة؟ هذا أمرٌ غير طبيعي.
[لم يكن هناك قمر وقتها أيضًا.]
انطلقت تلك العبارة فجأة من إيدلين، التي بقي صامتاً طوال الوقت، قبل أن يتدخل فجأة.
[…..حين كان ذلك الصياد الجريء يتعقب خطواتنا.]
“هل تقصد ما ذكرته لي في المرة السابقة؟”
استعاد كارل تلك الذكرى القديمة. كانت قبيل مغادرته معبد التنين، في اللحظة التي سأل فيها إيدلين باستياء: [لمَ لم تسألني عن القشور؟]
حينها، وبعد أن استمع لقصة سيان، قال إيدلين أنه تذكّر أمرًا ما، وبدأ يروي ما حدث.
تمامًا كما انشغل كارل بإقامة القلعة في إيفاريد والسعي لتأمين سبل العيش، كان إيدلين بدوره بحاجة إلى العثور على عش جديد يأوي إليه.
وبحكم خصائص العائلة الإمبراطورية، التي قد يظهر فيها أكثر من سيد تنين في الجيل الواحد، كانت هناك العديد من الأعشاش القديمة الخالية قرب القصر الإمبراطوري، استخدمها التنانين السابقون.
لكن في الوقت الذي وصلا فيه كارل و إيدلين إلى إيفاريد، كانت المنطقة أرضًا قاحلة أقرب إلى الخراب منها إلى مدينة.
لذلك، بدأ إيدلين يجوب أطراف إيفاريد بحثًا عن موضعٍ مناسب لبناء عشه الجديد، وفي خضم تلك الجولات، قابل فتاةً شابة كانت تبدو كصائدة تنانين.
قال إيدلين أن نظرة تلك الفتاة لم تكن مريحة البتّة،
ولهذا لم يرغب حتى في مواجهتها، بل تلقّى منها عدة ضربات دون مقاومة، ثم انسحب من المكان.
وربما، لو كانت تلك المرأة هي صائدة التنانين “ريفنانت”، فليس من المستبعد أنها حصلت صدفةً على قشرتين أو أكثر، أثناء تلك المواجهة العارضة.
“ألم تقل أن سيان لم تكن هناك في ذلك الوقت؟”
[هذا مؤكد. كنت وحدي.]
“إذًا، فالأمر لا علاقة له بـ’سيان’. ليالٍ بلا قمر؟ إنها كثيرة، ولا معنى للربط بينها وبين تلك الحادثة. هذا مجرد حدس، لا أكثر.”
عند هذا الحد، أنهى كارل كلامه، وهمّ بقطع الاتصال السحري مع إيدلين. لكنه، على غير عادته، لم يُنهِ الرابط السحري، بل تمسّك به بإصرار.
[صائدة التنانين ظهرت لي بعد أن افترقنا عن الآنسة سيان مباشرة.]
تابع إيدلين حديثه بنبرة تنذر بشيء عميق، لكن رغم ما في كلماته من دلالة، لم يتمكن كارل من فهم المغزى الخفي، فاضطر إلى التحديق فيه بعبوس حائر.
“ما الذي تقصده؟”
[آه، يا له من سيّد بليد. كنت ذكيًا يومًا ما، لكن يبدو أنك تحولت إلى أحمق منذ أن بدأت علاقتك بالآنسة سيان.]
“وماذا لو لم أفهم؟ ما علاقة كل هذا بما نتحدث عنه؟”
غضب كارل من سخرية إيدلين، واشتدّ تجهمه. فأطلق إيدلين صوت “تش” مستنكرًا داخل رأسه، كأنه يوبخه من داخله.
[فكر جيدًا. ألم تقل الآنسة سيان أنها دخلت في شجار عنيف مع تلك المرأة المسماة ريفينانت ثم انفصلت عنها؟ وأنا لم أغب أكثر من شهرين في رحلتي بحثًا عن عشٍ جديد، فهذا يعني أن ريفينانت، بعد انفصالها عن سيان، أتت إليّ مباشرة. صحيحٌ أن كل واحدة سلكت طريقًا مختلفًا، لكن هذا لا يعني أن الآنسة سيان قد غادرت إيفاريد بالكامل.]
ثم تذكّر، في تلك الفترة، كانت الليالي تمر واحدةً تلو الأخرى دون أن يظهر القمر.
عضّ كارل شفتيه بشدة.
رغم إسهاب إيدلين في شرحه، لم يتمكن من فهم الرابط بين ذلك الحدث واختفاء القمر في الليالي التي توفيت فيها إيرا تشاندلر.
هل أنا من صار غبيًا؟ أم أن إيدلين يقول أشياء لا علاقة لها بالسياق؟
وبينما غرق كارل في حيرة عميقة……
[أنا فقط أتساءل، يا سيّدي…..أليس اختفاء القمر يحدث في كل مرة تواجه فيها الآنسة سيان خطرًا كبيرًا أو أزمةً حقيقية؟]
قال إيدلين أخيرًا ما في داخلها بوضوح. وعندها فقط، فهم كارل المغزى، وارتفعت حاجباه بدهشة.
“لكن…..أليس هذا استنتاجًا مبالغًا فيه؟ أيعقل أن تكون سيان جنّية قمر؟ كلما واجهت أزمة، يفرّ القمر من السماء؟”
تفحّص كارل كلام إيدلين بجدية للحظة، ثم انفجر فجأة بابتسامة ساخرة خرجت من أعماق صدره.
أما إيدلين، الذي كان قد تكلم بكل جدية، فأطلق سعالًا خفيفًا كما لو كان يحاول تلطيف الموقف.
[صحيح…..معك حق…..]
حتى هو، بدا وكأنه بدأ يدرك أن ما قاله لا يملك الكثير من المنطق، فبدأ صوته يتلعثم في خجل.
ثم ضحك كارل من جديد، وهو يهز رأسه ساخرًا.
“أظنه سيكون أكثر منطقية لو قلنا أن التنين هو من يحجب القمر باستخدام سحره. بما أن ‘سيان’ هي سيّدة التنين، فعندما تواجه خطرًا، ربما يقوم التنين بسحب الغيوم بقوته السحرية..…!”
[……..]
توقف فجأة. و في لحظة، شعر بشيء يشبه الصدمة الكهربائية الخفيفة يمرّ في داخله.
الكلمات التي قالها بلا اكتراث، فقط ليُحرج بها إيدلين، بدت له فجأةً وكأنها أشعلت فتيل الحقيقة.
لو كان إيدلين واقفاً أمامه بهيئته البشرية، لكانت نظراتهما تلاقت طويلًا في صمت مشحون.
[هذا يبدو…..معقولًا؟]
ردّ إيدلين بتأييده الغريب والمذهل، فوقف كارل عاجزًا عن تحديد مشاعره، هل يجب أن يشعر بالامتنان؟ أم بالذهول من غرابة الموقف؟
ضحك في حيرة، متسائلًا في نفسه من منهما أصبح الأغبى.
“…..القمر. القمر، هاه..…”
خمسة عشر يومًا ليست بالمدة القصيرة أبدًا. إنها الفترة التي يتحوّل فيها الهلال إلى قمرٍ مكتمل.
ثم، وكأنما انبعث صوت في ذهنه، همس،
“الصباح والليل يتعايشان…..لكن لا يمكن لهما أن يكونا معًا.”
كلمات سيان التي سمعها ذات يوم علقت في ذهنه بشكل غريب ومزعج، ولم تغادره منذ ذلك الحين.
شكّه القديم بأنها قد تكون في الحقيقة سيّدة تنين لم يكن وليد اللحظة، بل رافقه منذ زمن بعيد.
لكن…..هل يُعقل أن تكون حقًا كذلك؟
“لكن إن كانت كذلك، فكيف تعاملت مع عظام تنين حيّ بكل هذه البساطة؟”
[إنها امرأةٌ كانت تعرف الكثير عن عظام التنانين الأحياء. ربما كانت تعلم كيف تتعامل معها دون أن تسبب الأذى.]
“ومع ذلك…..أنتَ أيضًا رأيتَ ما حدث. تلك العظام ليست شيئًا يمكن حتى لسيدة تنين أن تتحمله بسهولة.”
[هذا صحيح…..]
ارتجف إيدلين وهو يستعيد ذكرى المرة التي أخرجت فيها سيان السلاح الملعون من جسد كارل، وكيف اندلعت من ذلك السلاح هالةٌ قاتمة من الألم والسحر الهائج، لا يمكن نسيانها.
“وفوق هذا، إن كانت ‘سيان’ فعلًا سيّدة تنين…..فلماذا؟
ما الدافع الذي يدفع الكونت ‘تشاندلر’ إلى تزوير موت ابنته الوحيدة والتخلي عنها؟ هؤلاء النبلاء الذين يعيشون في مناطق الحدود معروفون بحساسيتهم الشديدة تجاه القوة العسكرية، و كان الأولى أن يتبنّوا سيدة تنين لا أن يتخلّوا عنها.”
***
“في قديم الزمان، عاشت طفلةٌ صغيرة في بيتٍ فقير للغاية. كانت حياتها شاقة، تكافح لتأمين لقمة العيش يومًا بيوم. وفي أحد الأيام، رفعت بصرها إلى السماء فرأت تنينًا يطير، ومن تلك اللحظة، وقعت في غرامه من النظرة الأولى.”
بدأت ريفينانت تروي الحكاية.
رغم أن النبيلات الحاضرات لم يُبدين اهتمامًا كبيرًا، إلا أنهن أنصتن بدافع المجاملة، خاصة أن ريفينانت كانت المضيفة لهذه الجلسة.
“ثم ماذا حدث؟”
تفاعلت روزا بسؤال، وكانت الوحيدة التي أظهرت بعض الفضول.
_____________________
القمر يختفي ؟ جا في بالي على طول يوم قلنا ان تنين سيان يمكنه اسود بس ليه كارل وايدلين مافكروا فيها؟😂
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات