“سأكتفي بالامتنان في قلبي فقط. و على أي حال، أظن أن ريفينانت بما أنني أعرف طباعها جيدًا، لن تختار إلا أشخاصًا يليقون بأن يكونوا مجرد مرافقةٍ رمزية. لذا لا أرى داعيًا للتعرف عليهم مسبقًا، بل ربما لو عرفت الكثير عنهم فستبدو الأمور مصطنعةً وغريبة.”
نظر هندريك إلى كلام سيان بتعبيرٍ يصعب تفسيره. لكن لم تكن سيان، التي توجهت إليها النظرات، من لاحظت ذلك أولًا، بل كان كارل الواقف بجانبه من قطّب حاجبيه قليلًا وهو يراقب ملامح هندريك.
“من الأفضل ألا يتدخل سموّك كثيرًا في هذا الأمر. وإن احتجنا شيئًا، فسوف نلجأ إلى مساعدتكَ. لا يمكننا المخاطرة بأن يُكتشف أمرنا.”
مال سيان برأسه قليلًا، وقد بدا له سؤال هندريك عن ماضيه مفاجئًا تمامًا ولا يحمل أي سياق واضح.
“لكن، بالنسبة لمرتزقة، تبدين مطّلعةً جدًا على المجتمع النبيل……”
“أصلها من عائلةٍ نبيلة.”
وكان من أجاب هو كارل بدلًا عن سيان. فرفع هندريك حاجبيه، وقد بدت عليه لمحة اهتمام واضحة.
“حسنًا، هل أقدّم لكَ المزيد من الحلوى، أخي؟”
كارل، الذي كان يلومه دائمًا على حبه للحلويات، غيّر نبرته فجأة. و لم يكن من الصعب على سيان، ولا حتى على هندريك، أن يلاحظ أن ذلك كان محاولة من كارل لصرف انتباهه عن سيان.
“إذًا، هل لذلك اتخذتَ قرار الخطوبة بتلك السهولة؟ ……نبيلة، من أي عائلةٍ بالضبط؟ لا أذكر أن هناك من العائلات النبيلة في الآونة الأخيرة من كانت ابنتها مضطرةً للعمل كمرتزقة بسبب الفقر.”
هندريك لم يكن ولي عهد ساذجًا ليسهل خداعه بحيلة مكشوفة.
و كارل، وقد أدرك أن محاولته للتشويش لم تنجح، عبس بشكلٍ واضح وهو يحدّق في هندريك الذي استمر في استجوابها دون تردد.
“على أي حال، لقد اتخذت اسمًا جديدًا، لذا لا يهم ما كان الاسم القديم. إن كانت قد وُلدت نبيلة لكنها اضطرت لتصبح مرتزقة، فلا بد أن وراء ذلك ظروفًا قاسية……لذا دعنا نغضّ الطرف عن تلك المسألة.”
قال كارل ذلك بصوت جافٍ و حازم، لم يكن فيه رجاء أو تلميح بل تحذير صريح.
فابتسم هندريك بسخرية، ملتويًا بشفتيه.
“هل هذا ممكن؟ مهما كانت من أنقذت حياتكَ، فهي خطيبتكَ المستقبلية، بل وقد تصبح دوقة، وهي الآن في أرضي، داخل القصر الإمبراطوري.”
“ألستَ أنتَ من دعوتها للدخول من أجل الإمساك بصيّادة التنانين؟ فكيف تشككُ فيها الآن؟”
رفع كارل نظره بتحدٍ وهو يواجه هندريك دون أن يتراجع.
“حتى لو استدعيتها بدافع الحاجة، يجب أن نكون دقيقين. طالما ركبنا القارب معًا، فلا ضير أن نعرف من معنا، تحسّبًا لأي طارئ.”
أما سيان، فظلت صامتةً كأن على شفتيها صمغ، تتابع الحوار بين الاثنين دون أن تنطق بكلمة واحدة.
“ثم، إن كانت الآنسة سيان تعرف الكثير عن صيّادة التنانين ‘ريفينانت’، فبالمقابل، من المؤكد أن تلك المرأة تعرف الكثير عنها هي الأخرى.”
رمق هندريك سيان بنظرةٍ قصيرة دون أن تظهر أي تعابير على وجهه.
“هل أنا فقط أُفرط في الحذر؟”
“……أخي.”
لو أردنا الدقة، فإن كلام هندريك لم يكن يفتقر إلى المنطق.
فكما أن سيان تعرف الكثير عن ريفينانت، من الطبيعي أن تكون ريفينانت بدورها تعرف الكثير عن سيان، وربما يحمل ماضي سيان، الذي لم يكن كل من كارل وهندريك على دراية به، سكينًا خفيًا قد يُشهر في وقت غير متوقع.
ومع ذلك، وبما أن كارل قد اختار أن يثق في سيان، لم يكن يرغب في نبش ماضيها أكثر.
“أسرتنا لم تنهَر ماديًا بشكل مباشر. أنا من مقاطعةٍ ويكريا الحدودية، التي تقع على حدود الغرب الإمبراطوري. لقد وُلدت هناك.”
قالت سيان ذلك بهدوء، بعد أن كانت تكتفي بالاستماع لاستجواب هندريك دون أن تنبس ببنت شفة.
حتى هندريك، الذي بدأ بالحديث، فتح عينيه بدهشة، وكذلك كارل الذي سمع بأصلها للمرة الأولى.
“ويكريا الحدودية……إذًا أنت ابنة الكونت تشاندلر؟”
نظرًا لأصله النبيل، وبرغم مغادرته القصر الإمبراطوري منذ زمن طويل، كان كارل لا يزال على دراية عامة بأسماء النبلاء في الإمبراطورية.
ويكريا في الغرب، مقاطعة الكونت وينستون تشاندلر.
هندريك، الذي كان على احتكاك دائم بالنبلاء بحكم مقامه في القصر، تذكّر وجه الرجل فورًا وقطّب جبينه بشدة.
“لكن، الكونت لم يكن لديه ورثة……”
“كنت ابنته الوحيدة. يُفترض أنني توفيت بسبب وباءٍ مستوطن عندما كنت في السابعة من عمري.”
نظر هندريك نحو كارل، لكن كارل لم يلحظ نظراته، فقد كان يحدّق في سيان بعينين متسعتين، مندهشًا مثل هندريك تمامًا.
عندها أدرك هندريك أن هذا أيضًا كان أمرًا يجهله تمامًا.
“ربما كان ذلك عقابًا على تخلّيه عن ابنته، إذ لم يُرزق بورثة بعدها. أما ريفينانت، فلا تعرف شيئًا عن والديّ أو عن أصلي، لذا إن كان هناك من يخشى أن تفضح هويتي الحقيقية، فلا داعي للقلق.”
“ولِمَ تخلّى عنكِ، و أنتِ ابنته الوحيدة؟”
“كان هناك سبب……في الواقع، السبب الذي يدفعني الآن لأكشف عن أصلي لكم، رغم أنني لم أنوِ يومًا إخبار أحد، هو هذا بالضبط……”
توقفت سيان عند هذا الحد، وعضّت شفتيها في حرج.
الحقيقة التي تقول أنها توفيت منذ زمن لم تكن صعبةً على لسانها، فقد كانت قديمة ومنتهية.
لكن هناك سرٌ آخر، السرّ الحقيقي الذي قد تستخدمه ريفينانت كسلاح مضاد……ذلك لم تستطع حتى التفكير في البوح به.
“……سأحاول أن أتعامل مع الأمر بنفسي، بطريقةٍ ما.”
قالت ذلك بصوت مرتجف، وهي تعبث بأطراف أصابعها التي بدأ يتصبب منها العرق البارد.
لم يكن ذلك الصوت يشبه سيان الواثقة التي عرفها الجميع، وهذا ما جعل كارل يعبس بملامح معقّدة. و حتى هندريك لم يستطع إخفاء انزعاجه من تلك الإجابة.
“تقولين ‘سأتدبّر الأمر’……وهل هذه إجابة؟”
كاد أن يُطلق كلماتٍ لاذعة حين أمسك كارل بنظراته، يوقفه عن الإكمال.
“إن حصل أي شيء، فسأتحمّل أنا المسؤولية.”
“ما الذي تعنيه بذلك؟”
قال هندريك ذلك بنبرة ضيق ظاهر.
“في النهاية، من أقنع الآنسة المترددة بالمجيء إلى هنا لم يكن أحدًا غيري. نعم، قد تكون لك بعض المسؤولية، أخي، لكن القرار كان بدافع أنانيتي أولًا.”
الشخص الذي عرض على سيان القدوم إلى القصر الإمبراطوري برفقة كارل من معبد التنين، لم يكن سوى هندريك نفسه.
وحين واجهه كارل بهذه الحقيقة التي لا مجال لإنكارها، عجز هندريك عن الرد، وارتسم على وجهه صمتٌ ثقيل.
“لذا، ومهما حدث لاحقًا، سأتحمّل المسؤولية وحدي. لا تتدخّل في الأمر، أخي.”
قال كارل ذلك بلهجةٍ حاسمة وملامح لا تسمح بأي نقاش، مانعًا هندريك حتى من التفكير في استجوابها أكثر.
لو كانت مجرد مرتزقةٍ مغمورة بلا نسب، لما كان الأمر يستدعي القلق.
لكن أن تكون ابنة وحيدة لطَرفٍ نبيل مثل كونت مقاطعة حدودية، ويتخلى عنها بتلك الطريقة؟ فلا بد أن وراء الأمر سرًا ثقيلًا، لا يمكن أن يكون بسيطًا أبدًا.
وهندريك، الذي لا يعرف بعد طبيعة ذلك السر، لم يشعر بالارتياح لفكرة أن يترك كارل وسيان يواجهان قاتلة ملك التنانين، دون أن يتدخل أو يعرف شيئًا.
بالطبع، من المؤكد أن كارل قد فكّر في كل ذلك. ومع هذا، فقد اختار ألا يسأل، و ألا ينبش، بل أن يثق بها بالكامل. وكان ذلك في نظر هندريك تصرفًا لا يصدَّق، أقرب إلى التهور الأحمق.
كان يرى في كارل شخصًا قد لا يكون مثاليًا، لكنه لم يكن من أولئك الحمقى الذين يغامرون برؤوسهم في المجهول بلا تفكير.
وبينما كان ينظر إليه مليًا بوجهٍ عابس متشكك، وقع بصره فجأة على يد سيان الجالسة إلى جواره.
هي نفسها التي رفضت سابقًا كل محاولة لمعرفة تفاصيل عن مجموعة ريفينانت، تلك التي قالت بثقة أنها لا تحتاج إلى أي معلومات……كانت الآن تضم قبضتيها فوق ركبتيها. وظهر يدها المستقر بهدوء كان يرتجف ارتجافًا خافتًا.
عند رؤيته لذلك، ازدادت الحيرة في وجه هندريك، وغطت نظراته سحابةً من الاضطراب العميق.
‘……يبدو أن ماضيها يحمل بثقلاً هائلاً.’
فكّر هندريك بذلك.
وإن كان كذلك، فالأجدر ألا يُترك الأمر للقدر، ولا أن يُلقى على عاتق شخص آخر.
هل يفعل كارل كل هذا لأنها أنقذت حياته؟ أم أن ما بينهما أعمق من ذلك؟
هل خاضا معًا محنةً لم يعرفها هو، حتى صارا مستعدَين لتحمّل خطرٍ لا يُقاس، لأجل بعضهما البعض؟
كان أمرًا لا يستطيع هندريك فهمه أو إدراكه.
“……افعل ما تشاء.”
قال ذلك أخيرًا بعد طول تفكير، بصوت مستسلم كأنما انسكب عليه ماءٌ مالح لا يعرف كيف يزيله.
عندها فقط ارتخت ملامح كارل المتصلبة، لكن سيان، التي كانت تضم يديها فوق ركبتيها وتهتز بخفة، لم ترفع رأسها.
“لكن، لنكن واضحين في أمر واحد. إن حدث لاحقًا ما يحمّلك مسؤوليةً كبرى بسبب ماضي الآنسة، فسأساعد قدر استطاعتي، لكن فقط ضمن حدود إمكانياتي.”
“……كلامكّ في محلّه، سموّك.”
كانت سيان هي من أجابت. و هندريك، الذي ظن أنها أصبحت منهارةً تمامًا، وأدار وجهه عنها، فوجئ بشجاعتها هذه فالتفت إليها مباشرة.
“ريفينانت أيضًا ستكون في موقف حرج لو كُشف أنها كانت في الماضي صيّادة تنانين. لذا لن تكون قادرةً على إيذائي بشكل مباشر كما قد يُظن. لهذا، سواءً بالنسبة لكارل أو لك، سموّك، سأحرص على ألّا يتورط أيّ منكما بأي مسؤولية. سأتولى كل شيء بنفسي.”
قالت ذلك وهي لا تزال ترتجف من أطراف أصابعها، لكنها قبضت على يديها بشدة، ونظرت في عيني هندريك بثبات.
هل كانت تلك شجاعة……أم نوعًا من الجبن؟
جميع الناس يحملون في حياتهم أسرارًا يصعب البوح بها، لكن أن ترفض البوح، وتكتفي بعبارة “سأتدبر الأمر بنفسي” دون أي خطة واضحة……لم يكن أمرًا يمكن تقييمه أو الحكم عليه بسهولة.
لكن، أياً كانت الحقيقة، فإن مجرّد الإرادة في مواجهة الأمر وجهًا لوجه كانت جديرةً بالتقدير. فابتسم هندريك أخيرًا، وتنفس ضاحكًا بسخرية خفيفة.
“تمسّكي بكلماتكِ، يا آنسة.”
“هل تودّ مني توقيع تعهّدٍ رسمي؟”
سأل كارل، مستفسرًا عمّا إذا كان عليه كتابة تعهد بذلك. و ظنّ هندريك في البداية أنها مزحة، لكنه ما لبث أن رأى الجديّة في ملامح كارل، فارتسمت على وجهه ابتسامةٌ مدهوشة وهو يضحك بخفة مجددًا.
“لا داعي، لا حاجة لكل هذا التهويل.”
قال ذلك وهو يرد ببساطة، لكنه في ذات اللحظة لمح، من زاوية عينيه، يد كارل تمسك بقوة بمعصم سيان المرتجف، كما لو أنه يثبتها أو يمدّ لها دعمًا صامتًا.
فازدادت ملامح هندريك غموضًا، وقد بدا عليه قليلٌ من التوتر.
هل هذا الضيق الغريب الذي بدأ يتسرّب إليه مجرّد وهم؟ أم أن هناك ما يزعجه فعلاً؟
مال برأسه قليلًا، كمن يحاول طرد الشعور دون أن يلتقطه تمامًا.
“بالمناسبة……ألا يوجد شيءٌ آخر من التحلية؟ شيء أكثر حلاوة؟ لقد بدأت أملّ من طعم المربى.”
يبدو أن جسمه كان يطالب بالمزيد من السكر. فنظر إلى الطاولة بنظرات متحسّرة.
“……ستُصاب بالسمنة، يا أخي.”
قال كارل ذلك بنظرة متقزّزة، يوبخه بلا حيلة، لكن هندريك لم يفعل سوى أن هزّ كتفيه بلا مبالاة.
____________________
ياعمري يا سيان 😔
الحين باقي السبب ذاه طردوها عشانها ماتبي تصير سيدة تنين؟ لوء به شي اكبر
وكارل حنون يحليله 🤏🏻
المهم هيندريك يومه يقول بينهم شي كبير مستحيل يتوقع انهم راحوا يسرقون بيت كارل سوا 😂
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات