حقًا، كانت المنطقة المزدهرة في عاصمة الإمبراطورية تختلف من حيث الحجم عن المدن الصغيرة والمتوسطة الأخرى.
كان هناك طريقٌ واسع وممهد بما يكفي لتمر فيه العربات في الاتجاهين بسهولة، وعلى جانبيه تنتشر الأكشاك التي تبيع بضائع متنوعة الأشكال والألوان.
مبانٍ ومتاجر شاهقة يصعب العثور فيها على طابق واحد فقط. وحشودٌ كثيرة تتنقّل ولكل منها غاية مختلفة.
“واو، القروي المسكين لا بد أنه سيخاف من الضياع عن أمه وسط هذا الزحام.”
تمتم باسكال مذهولًا وهو ينظر إلى الشوارع الواسعة والمعقدة في العاصمة.
“صحيح. حتى أنا، بسبب أنني أتيت بعد وقتٍ طويل، أشعر بصعوبة في التأقلم.”
رطّبت سيان شفتيها.
الناس الذين يتجولون في شوارع العاصمة كانوا جميعًا تقريبًا من النبلاء، فقد كانت أناقتهم لافتة للنظر.
و حتى أعضاء فرقة مرتزقة مخلب التنين قد ارتدوا أفضل ما لديهم استعدادًا لزيارة العاصمة، لكنهم لم يستطيعوا مجاراة من وُلدوا فيها. فمن المجموعة التي وقف فيها سيان ورفاقه، كان عبق الريف يتصاعد بوضوح.
“إذا تجاوزنا هذا الطريق، سنصل إلى القصر مباشرة. استعدوا نفسيًا جميعًا. ستكون تجربةً خانقة أكثر مما تتصورون.”
قال كارل ذلك بينما كان يتفحص سيان والآخرين في مدخل الشارع المزدحم.
“نحن؟ هل نحتاج أصلًا للاستعداد نفسيًا؟ كل ما علينا هو إغلاق أفواهنا والتزام الصمت، أليس كذلك؟”
“صحيح. ما يعنيه كارل هو أن نستعد لإغلاق أفواهنا جيدًا. لا تتحدثوا عن كونكم مرتزقة أو غيره. مفهوم؟”
هددتهم سيان بنبرة صارمة. فتبادل المرتزقة النظرات فيما بينهم ثم أومأوا برؤوسهم.
“حسنًا، لنتأكد للمرة الأخيرة. ما اسمي؟”
“….هيل…..أكان اسمها هيلي؟”
قبل دخول القصر، تلعثم بيل في آخر اختبار شفهي، فحدّقت فيه سيان بعينين ضيقتين عند إجابته غير الواضحة.
“هييلي دور! من عائلةٍ بارونية عريقة تمتلك ضيعةً صغيرة على حدود إيفاريد، لكن العائلة انقرضت بعد حادث عربة أودى بحياة جميع أفرادها!”
رفع الطبيب جيفي، الذي استخدم عقله قليلًا أثناء دراسته للطب، يده بسرعة وأجاب بثقة.
حينها فقط هدأت ملامح سيان قليلًا.
“عندما وقع حادث العربة، كان لدى البارون دور ابنة صغيرة جدًا، لكنها لم تتمكن من وراثة اللقب رسميًا، فبقي لقب العائلة البارونية موجودًا بالاسم فقط دون ضيعة. أنا حفيدة حفيد ابنه، وأنا الابنة الوحيدة، ووالداي توفيا مبكرًا. أنتم خدمٌ مخلصون لي، وقد أَنقذْنا الأمير عندما كان بين الحياة والموت، ورافقناه حتى هذا المكان. احفظوا هذا جيدًا!”
“هذا…..هذا صعبٌ جدًا يا أختي..…”
قال باسكال ذلك بوجه باكٍ متذمرًا، فقطعت سيان الحديث بنقرة لسان.
“إن لم تستطعوا حفظ كل شيء، فتذكروا فقط أن اسمي هييلي دور، وأنتم من نسل عدد قليل من خدم العائلة. وإن حصل التباس، تظاهروا بعدم الفهم!”
“مفهوم.”
أجاب ماكس نيابةً عن الجميع.
كان يمكن الوثوق بماكس والطبيب جيفي على الأقل، لكن البقية لم يُطَمئنوا سيان، التي نظرت إلى المرتزقة بنظرةٍ مليئة بالقلق والريبة.
ضحك كارل بخفة وهو يشاهد جدال سيان ورفاقها دون أن يقول شيئًا.
“حسنًا، إن كنتم مستعدين، فلننطلق. نحتاج إلى وقت لعبور هذه المنطقة المزدحمة.”
“لكن…..هل يمكن أن نذهب بهذا الشكل؟ أليس من المفترض أن نرتدي ملابس لائقة لدخول القصر؟ نحن نبدو كالقرويين حتى مقارنةً بالناس العاديين..…”
“حتى لو كان خادمًا من عائلة نبيلة منهارة، فكم من الأناقة يمكن أن تكون لديه أصلًا؟ هذا المظهر كافٍ.”
قضت سيان بحدة على كلام رون الذي كان قد فقد ثقته بنفسه بسبب أناقة سكان المدينة.
“…..انتظروا لحظة.”
رفع كارل حاجبيه وكأن فكرةً ما خطرت له، بعد أن كان يستمع بصمت. غير أن نظره لم يتجه نحو المرتزقة الذين بدا من وجوههم المحروقة أنهم يعملون في الخارج.
“صحيح، البقية لا يحتاجون إلى أي تأنق إضافي..…”
تفحّص كارل سيان من رأسها حتى أخمص قدميها.
“لكن أليس مظهركِ شجاعًا أكثر من اللازم على من يُفترض أنها نبيلةٌ منهارة أنقذت الأمير وخُطبت له؟”
رمشت سيان بعينيها بدهشة.
كان شعرها مربوطًا بإحكام حتى لا يعوق حركتها، وحزام السيف مشدودٌ حول خصرها في هيئة واثقة، ومع ذلك لم تتخلَّ عن مكياجها الأنيق، وأقراطها، وقلادتها، وخواتمها.
تفحّصت سيان نفسها بنظرة محرجة، ثم عدّلت أطراف قميصها وهمست،
“هل يبدو كذلك فعلًا؟”
“يجب أن نُكمل القصة ببعض التفاصيل. ما دمنا قد وصلنا إلى هنا، لنُحسن إخراجها تمامًا.”
“كيف ذلك؟”
اتسعت عينا سيان وهي تنظر إلى كارل باستفهام.
***
كان الطقس رائعًا. و السماء زرقاء بلا غيمة واحدة، والجو لا حارٌ ولا بارد، مثاليٌ تمامًا لنزهة في الطبيعة.
أما الحرس الملكي الذين يحرسون قصر إمبراطورية إيغريون، حيث يقيم الإمبراطور والعائلة الإمبراطورية، فقد ظلوا واقفين كتماثيل لا يبدون أي تعبير أو حركة رغم هذا الطقس الجميل.
كانت ظهيرةً عادية لا شيء مميزٌ فيها. و كان الجنود يحرسون بوابة القصر وفق جدول المناوبات المعتاد.
لكن الأحداث غير المتوقعة لا تأتي أبدًا بتحذير أو نذير.
اقتربت أصوات حوافر الخيل وعجلات العربة على الطريق المُعبّد باتجاه بوابة القصر. و لم يلتفت الحراس الملكيون سوى بأبصارهم نحو العربة التي كانت تتقدم بخطٍ مستقيم نحو القصر.
كانت العربة التي يجرّها حصانٌ بني تبدو من الخارج بلا شيء خاص، إنها واحدة من العربات المستأجرة التي يستخدمها أحيانًا نبلاء من الطبقة المتوسطة أو الدنيا حين يزورون العاصمة من مناطقهم البعيدة.
كل العربات التي تتحرك بتصريح من العائلة الإمبراطورية تُطلى باللون الفضي، لون الإمبراطورية الرسمي.
لكن الحرس الملكي لاحظوا شيئًا غير مألوف في هذه العربة كلما اقتربت.
كان الحصان يترنح على غير العادة. و كانت عضلات ساقيه بارزة وهو يخطو بقوة، لكن سرعته في الاقتراب كانت بطيئة على نحو غريب.
سواءً بسبب السفر الطويل أو لأن العربة تجر شيئًا ثقيلًا، فقد بدت على وجه الحصان والسائق علامات التعب الشديد.
وعلى الرغم من أنها ليست عربة شحن، إلا أن العربة التي اقتربت ببطء توقفت أمام البوابة الرئيسية للقصر بدقة وفق توجيهات السائق.
كان وجه السائق مليئًا بتعبيرات التذمر والانزعاج التي لم يتمكن من إخفائها.
“قلت لا تدوسني!”
“آااخ! ساقي، ساقي!”
“تمزقت ملابسي، تبًا لكَ أيها الوغد!”
في داخل العربة، كانت الضوضاء مكبوتةً لكنها حاضرة.
والحقيقة أن الوضع كان على هذا النحو طوال الطريق.
“لقد وصلنا، سيدي الزبون.”
أطلق السائق سعالًا مصطنعًا بصوت عالٍ، ثم قال بصوت مهني مهذب رغم وجهه المتجهم الممتلئ بالامتعاض.
أما الحراس الملكيون، الذين لا يُسمح لهم بإظهار تعبيرات الوجه أثناء المناوبة، فلم يستطيعوا إخفاء اهتزاز أعينهم عند رؤية العربة ترتجّ وهي متوقفة.
“انزل! قلت انزلوا!”
“الباب لا يفتح!”
“لا تدُس…..آاااخ!”
ما الذي في داخل هذه العربة بحق؟
بدأ التوتر يتصاعد في عيون الحرس الملكي. فنوافذ العربة كانت مغطاة بالستائر، و لم يكن بالإمكان رؤية أي شيء داخلها.
لكن من خلال ظلمة الستائر والاهتزاز المستمر للعربة، كان من الواضح تمامًا أن شيئًا هائلًا بداخلها.
“يا سيدي! قلت لكَ أننا وصلنا!”
عندما بدأ الضيق يتسلل إلى ملامح وصوت السائق، الذي حاول الحفاظ على احترافه قدر الإمكان، عمّ الصمت فجأة داخل العربة. ثم فُتح الباب بعنف.
“آه، ستهدم الباب!”
صرخ السائق غاضبًا، إذ فُتح باب العربة بصوت صاخب وكأنه سيتحطم. وتبع ذلك سقوط مجموعة من الناس دفعةً واحدة.
“تبًا، قلت لكم أننا نحتاج لعربة أخرى!”
“وهل تسبح في المال؟ نحن مفلسون أيها الأحمق!”
نزل رجلان في آنٍ معًا وكأنهما تدحرجا خارج العربة. و لم يكن في مظهرهما ما يدل على أنهما من سكان العاصمة، مما بدّد توتر الحراس قليلًا.
ثم تبعهما اثنان آخران، ثم اثنان آخران مجددًا.
من عربةٍ مخصصة لأربعة ركاب فقط، نزل ما مجموعه ثمانية أشخاص على مرأى من الحراس.
كان من المدهش كيف تمكن كل هذا العدد من التكدس في الداخل.
هل هم فرقة سيرك؟
فكّر أحد الحراس من خلف ملامحه الجامدة التي أجبر نفسه على الحفاظ عليها.
ثم نزل شخصٌ آخر من العربة.
كان شابًا طويل القامة، واضحٌ من مظهره الأرستقراطي أنه من النبلاء، ووسيم الملامح.
وما إن وطئت قدماه الأرض، حتى تنهد بعمق وكأن الأرض ابتلعت أنفاسه، ثم بدأ يُصلح هندامه وشعره المبعثر بعناية.
بعد أن رتّب ملابسه ليبدو أنيقًا تمامًا، مدّ الرجل يده نحو باب العربة. وعندها نزل منها شخصٌ آخر.
فاهتزت عينا الحارس الملكي وكأن زلزالًا أصابهما. فمن نزلت هذه المرة كانت امرأة.
كانت تغطي وجهها بوشاح أسود، و أمسكت بيد الرجل الممدودة بيدٍ واحدة، وباليد الأخرى أمسكت بطرف تنورتها الطويلة، ثم نزلت بخفة ورشاقة تامة.
كانت تلك هي سيان، التي قبل قليل فقط صاحت، “وهل نحن نسبح في المال؟!”
“أحسنتَ العمل.”
قال كارل ذلك، بنبرة أرستقراطية تفيض باللباقة، وهو يرافق سيان بخطى واثقة. ثم مدّ إلى السائق كيسًا مليئًا بالنقود.
نظر إليه السائق بنظرة غيظ، ثم انتزع الكيس من يده انتزاعًا.
“المرّة القادمة، التزموا بعدد المقاعد!”
قال السائق ذلك بنبرة غاضبة، ثم صعد مجددًا إلى مقعده وأدار العربة دون حتى أن يغلق الباب، وانطلق مبتعدًا بسرعة وكأنه يريد أن يهرب من هذا الكابوس.
…..ما هذا بحق.
لو كان الحارس الملكي مسموحًا له بالكلام، لكان بالتأكيد قد تمتم بهذا الكلام وهو في حالة ذهول.
كارل، الذي كان يعلم تمامًا أنهم قد أظهروا منظرًا لا يليق، تنحنح بتصنّع.
ثم، تاركًا سيان ورفاقها المزعومين يستنشقون الهواء الخارجي بحثًا عن توازنهم، اقترب بخطوات هادئة من الحارس الملكي.
“أوصلوا هذه الرسالة إلى ولي العهد.”
تحدّث النبيل – أو من يُظن أنه كذلك – الذي خرج من فرقة السيرك الغريبة، بصوت منخفض.
لم يتمكن الحارس من إخفاء تعابير الدهشة على وجهه، فهذه كانت زيارةً غير متوقعة تمامًا.
“اللورد كارلستون كلاوس، سيد إقليم إيفاريد، وصل حاملًا دليل براءته من معبد التنين.”
و جاءت العاصفة من دون سابق إنذار.
***
“كارلستون عاد؟!”
صاح الماركيز دانييل وهو ينهض من مقعده بغضب.
“ما هذا بحق؟ ألم يقولوا أن مجرد التعرض لتلك الطعنة يعني الموت المحتوم؟!”
كان على الطرف الآخر من الطاولة فارس التنين ذو الشعر البني أنطونيو، وإلى جواره امرأةٌ ترفع شعرها الأحمر إلى أعلى.
ورغم أن أنطونيو لم يُظهر اضطرابه بشكل صريح كما فعل الماركيز، إلا أن ملامحه كانت في غاية الحرج.
فبعد هجومه على ولي العهد، تم تخفيض رتبته، ومُنع من التواصل مع التنين. لكن بالنظر إلى حجم الخطة التي يمتلكونها، كان ذلك الثمن مقبولًا ويمكن تحمّله.
_________________
جام المووت ياتارك الصلاة😭
كارل يضحك منغز معهم😭 توقعت بيجي هو وسيان لحالهم يضحكون
شكلهم وهم ينزلون من العربة ذكرني بمقطع بحطه في قناتي تلقرام يشبه ذاه😂
هيزو بحط رابط القناة في التعليقات اما غير هيدو تعالوا لي في التلقرام هنا اعطيكم dan_xor
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 49"