من جهةٍ ما، كان الأمر عظيمًا إلى حد جعل التظاهر بالهدوء أسهل.
إذ إن العلاقة التي تقدّمت فجأةً في لحظة وبشكل غامض، كانت مذهلةً لدرجة أنها لم تشعر بها تمامًا.
“سنكتب عقدًا جديدًا موثقًا من المعبد. نحن، فرقة مرتزقة مخلب التنين، سنرافق من الآن وصاعدًا الأمير الثالث لإمبراطورية إغريون، كارلستون كلاوس، المتهم زورًا بقتل ملك التنانين، وسنساعد في إثبات براءته.”
“…..ماذااا؟”
صرخ المرتزقة الذين عادوا لتوهم لتناول الطعام قبل أن يبتلعوا لقمتهم كاملة.
“في النهاية لقد أقنعكِ، أليس كذلك؟”
“أقنعني؟ لقد كنت أفكر بالأمر من الأصل. لا بد للإنسان من بعض الوفاء.”
قالت سيان ذلك ببرودٍ وثبات دون أن يبلل شفتيه حتى.
‘كذب.’
فكر المرتزقة جميعًا في اللحظة ذاتها وهم يحدقون بها بنظرات باردة فجأة.
“قريبًا سنستعد ونتوجه إلى العاصمة. لذا كلوا جيدًا وارتاحوا.”
“إلى العاصمة؟”
“نعم، هذه الرحلة إلى العاصمة ستكون طويلة، ومختلفةٌ من حيث الحجم والخطر عن كل ما قمنا به من قبل. لذلك من لا يرغب في مرافقتنا إلى العاصمة، فليخبرني مسبقًا.”
عند كلمات سيان وهي تمسك بالقلم، تبادل المرتزقة النظرات فيما بينهم.
“وماذا لو قرر أحدنا عدم المرافقة؟”
“للأسف، عندها سنفترق هنا.”
عندما سأل المرتزق الذي يُدعى مون، والذي كان لا يزال لديه بعض التردد، أومأت سيان برأسها وكأن الأمر لا يستحق القلق.
“هل هذا يعني طردًا فرديًا، أم تفككًا للفريق كله؟”
“…..لا أدري. أنا أيضًا لا أرغب في حلّ الفريق. لكن يبدو أن هذا الأمر سيكون خطيرًا إلى حد أنني أردت منحكم الخيار مسبقًا.”
في الحانة بمدينة إيفاريد، كان المرتزقة قد وافقوا بسهولة على مرافقتهم لنزع التهمة عن كارل، لكن عندما سمعوا عن العاصمة وإنذار سيان، بدت عليهم علامات التوتر.
فساد صمتٌ ثقيل في الغرفة لوهلة.
“…..لنذهب. سأذهب.”
كان أول من رفع يده عاليًا هو باسكال. فتوقف بقية المرتزقة حتى عن الأكل، يراقبون الوضع بصمت.
“سأرافقكم أنا أيضًا.”
“وأنا كذلك.”
أخذ بقية المرتزقة وقتهم مترددين قليلاً، ثم بدأوا واحدًا تلو الآخر يعلنون عن موافقتهم. و لم يقل أحدٌ أنه سيرحل.
“وأنتَ؟”
وحده ماكس، الذي جاء ووقف قرب سيان، ظل صامتًا.
أدارت سيان نظرها حول الغرفة ثم توقفت عيناها أخيرًا عند ماكس.
“أنا؟ بالطبع معكِ يا سيدتي سيان. من دون تردد، سأذهب.”
وهكذا وافق الجميع على الذهاب إلى العاصمة. فارتسمت ابتسامةٌ لا إرادية على شفتي سيان.
رحلة إلى العاصمة. اختيار ذلك الطريق، الذي كان واضحًا أنه سيضعهم وسط صراع سياسي، كان في الحقيقة قرارًا شخصيًا بحتًا من سيان.
فإذا كان من بين القوى التي تتطلع إلى الاستفادة من الصراع بين ولي العهد والأمير ذلك العدو القديم، ريفينانت، فمن المؤكد أن وجودها بجانب الأمير سيكون ذا فائدة، باعتبارها الشخص الذي تعرفها أكثر من أي أحد آخر.
لكن سبب تغيّر رأيها لم يكن ذلك وحده.
“أتمنى فقط أن تجدِ الطريق الذي يجعلكِ سعيدًا.”
حتى الآن لا بأس. هكذا فكّرت سيان وهي تتذكر كلمات الكاهنة التي ترددت في رأسها.
لم يكن كاذبًا حين قالت أنها سعيدةٌ بالفعل في هذه اللحظة. فلديها رفاقٌ يثقون بها بلا شروط، وهي قادرةٌ تمامًا على اختيار طريقها وتحمل نتائجها.
لكن بهذا فقط. لا يمكنها أن تنال ما تريده حقًا إذا أنكرت نفسها.
تذكّرت سيان ما حدث في الحديقة التي لم يكن فيها سوى الصمت. و لا تزال يشعر بملمس أصابع كارل التي داعبت شعرها آنذاك.
مدن يدها قليلًا لتمسك أطراف شعرها التي لامستها تلك اللمسة الدافئة، وكأنها ما زالت تشعر بحرارتها.
‘أنا أحبه.’
اعترفت سيان بمشاعرها بصدق. و أرادت أن تردّ ذلك الشعور البريء النقي من شخص لا يعرف عنها شيئًا، بل ربما كان عدم معرفته بها هو ما جعله أنقى.
كان أشبه بوميض فضيّ سطع في أحلك لحظات حياته.
و أرادت صباحًا تمسك فيه بذلك الضوء.
“إذا غيّرت رأيكَ في أي وقت، فلا تتردد في قول ذلك. قلتها مرارًا، رفع التهمة عن سمو الأمير أمرٌ جلل يخص العائلة الإمبراطورية.”
“وماذا قال مبعوث ولي العهد؟”
“لحسن الحظ، لا يبدو أن ولي العهد يشك في كارل. ولهذا اتخذتُ أنا أيضًا قراري بالتدخل.”
رمش ماكس بعينيه أمام كلمات سيان.
“إن كان لا يشك فيه، فلماذا حصل كل هذا؟”
“يبدو أن هناك قوى وسيطة أخرى. حتى اقتراح الذهاب إلى العاصمة جاء من جانب ولي العهد.”
“…..الأمر عظيم إلى حد أنني لا أستطيع حتى استيعابه. أن نتبع سمو ولي العهد وسمو الأمير معًا.”
قال باسكال ذلك، الذي كان أول من رفع يده معلنًا موافقته، بوجهٍ مذهول تأخر ظهوره. فابتسمت سيان بمرارة.
“في الحقيقة، أنا كذلك.”
عند هذا الجواب الصريح من سيان، سكت المرتزقة جميعًا للحظة.
“لكن إن التقطتَ قطة، فعليكَ أن تتحمل مسؤوليتها حتى النهاية.”
وسط صمتٍ مليء بالمشاعر المعقدة، حرّكت سيان حاجبيها وهي تمسك قلمها.
“سمعت آراءكم، فكونوا مستعدين جيدًا.”
أضافت سيان هذه الكلمات، لكن صوتها في تلك اللحظة كان أكثر جديةً وصلابة من أي وقت مضى، ولم يكن موجّهًا للآخرين، بل موجّهًا لنفسها.
“إنه لشرف لي، سيدتي.”
ذلك الصوت الهادئ الحنون الذي هزّ سمعها.
“يا لكِ من امرأة لا تعرف حتى معنى الجميل.”
وفوقه امتزج صوت ريفينانت البارد كحد السيف.
فأطبقت شفتا سيان وحرّكت رأسها نافيةً، وكأنها نطرد مزيج الذكريات الذي صنعها خوفها.
‘سأفعل كل ما أستطيع فعله.’
فكّرت بذلك وهي تحدق في الورقة البيضاء أمامها.
حتى لو كانت الرحلة التي ستخوضها إلى العاصمة مع كارل تعني مواجهة مصيرها الذي ظلت تتهرب منه طويلًا.
لم تتخيل كيف سيكون ردّ كارل إن عرف ذلك الجانب منها الذي لم تعترف به حتى لنفسها. و ستكون كاذبةً لو قالت أنها لا تخاف من ذلك.
مع ذلك، ما دامت تريده حقًا، فقد أرادت أن تحاول.
حتى لو أنكرها كارل كما فعلت ريفينانت، فسيؤلمها قلبها، لكنها على الأقل لن تبقى أسيرةً للندم.
فالألم يشفيه الزمن، لكن الندم والحسرة على استسلام لم تحاول فيه شيئًا كانا سيعذبانها مدى الحياة.
تماسكت سيان وأمسكت بالقلم، وبدأت تكتب على الورق.
***
“إن عدلتَ عن رأيكَ، فهذا في بعض الجوانب مدعاةً للسرور.”
قال ريكايل ذلك بابتسامة باهتة. و كان كارل الجالس أمامه يبتسم أيضًا بخفة.
“لكن، لا أريد أن أعرّضها للخطر. يكفيني أن أحصل من سيان على معلومات عن صيّادة التنانين، ريفينانت. لن أطلب منها أكثر من ذلك، فأرجو أن تبلّغ أخي بهذا بالتحديد.”
“كما تأمر.”
رد ريكايل مسرورًا. ثم نظر مجددًا إلى كارل بنظرة وتعابير بدت لكارل محمّلةً بمشاعر معقدة.
“يبدو حقًا أنك تحبها كثيرًا، سموّك. حتى أنكما تعاهدتما على الخطبة في هذه الأثناء.”
كاد كارل أن يسعل لكنه ابتلع ذلك الشعور بصعوبة حين سمع كلمات ريكايل.
‘…..خطبة.’
كانت كلمةً نطق بها بلسانه هو، ومع ذلك وخز ضميره بشدة.
فقد كانت كذبةً قالها بلا تفكير، لأنه شعر أن من المستحيل أن يأخذ سيان معه إلى مكان يلزمه فيه الحفاظ على السرية دون حجة قوية.
“إنها خطيبتي.”
حين همس له بذلك، بدا ريكايل وكأنه اقتنع فورًا تمامًا كما توقع كارل.
ثم أمام ولي العهد الذي استغرب وجود سيان، لوّح ريكايل بذكاء بخاتمٍ في إصبعه ورفع إصبعه البنصر مشيرًا إليه.
‘زواج، أو حبيبة’
ففهم ولي العهد المعنى فورًا، ولهذا أظهر تلك النظرة ذات المغزى نحو سيان.
“ذاك…..احم. سيان، رغم ما تبدو عليه، إنها فتاةٌ شديدة الخجل. لذا أرجو ألا تظهر أي شيء أمامها.”
ولم يستطع كارل هذه المرة أن يكتم السعال الذي كان قد قمعه من قبل.
فلو علمت سيان بأنه لفّق كذبةً وجعلها خطيبته من تلقاء نفسه، فقد لا تكتفي بركله في خصره، بل قد تقطع عنقه هذه المرة.
تذكّر ريكايل موقف سيان الشامخ حتى أمام ولي العهد ناثان، فأمال رأسه مستغربًا.
“بدت لي امرأةً قوية جدًا.”
“في الحقيقة، هي امرأةٌ تحمل في داخلها الكثير من الرقة.”
قال كارل ذلك.
ومع ذلك، لم يكن بينهما وعد خطوبة حقيقي. ولولا أن علاقتهما تقدمت خطوةً مؤخرًا، لكانت مصيبةً أكبر.
“لو عَلفت أنكما، أنت وأخي، على علم بهذا الأمر، فسترتبك كثيرًا. لذا أرجوك، لا، أبدًا! لا تلمح بشيء أمامها. فهمت؟”
“..…؟ فهمت، طبعًا..…”
لم يفهم ريكايل تمامًا لماذا بدا كارل بهذه الجدية التي تشبه الاستبسال، لكنه أجابه بخضوعٍ سريع.
“على أي حال، سأرافقكما بنفسي حتى العاصمة الإمبراطورية.”
“لا، من الأفضل أن نذهب بهدوء وحدنا. أنت عد إلى أخي أولًا.”
“لكنني تلقيت أمرًا من سمو ولي العهد بأن أعيدكَ سالمًا.”
قال ريكايل ذلك بوجه متحير بعد رفض كارل عرضه. لكن كارل هز رأسه نافيًا.
“معي سيان ورفاقها، وإيدلين أيضًا، فلا داعي للقلق على سلامتي. بل على العكس، إن رآكَ الناس تدخل معنا بصفتك فارسًا تابعًا للعائلة الإمبراطورية، فسينتشر خبر تصالحي مع أخي. وحينها سيصبح أولئك الذين حاولوا التفرقة بيني وبينه أكثر حذرًا وربما أكثر عدوانية.”
عند كلمات كارل أطلق ريكايل صوتًا منخفضًا يدل على الفهم.
“رفع التهمة الظالمة عني أمرٌ عاجل، لكن كشف من قتل ملكة التنانين إلينا ومن يقف وراءه هو أمرٌ أكثر إلحاحًا وخطورة.”
فلو علموا أن علاقته بولي العهد قد عادت كما كانت، لوضعوا خططًا جديدة لإعادتهما إلى القطيعة.
“لذلك، يجب أن يبدو في الظاهر لفترةٍ وكأنني أنا وأخي قد افترقنا تمامًا.”
____________________
يحليلهم المرتزقه ماخلوا سيان لحالها🤏🏻
المهم طلع صح على كازوها ريكايل أشّر على البنصر😭😭😭😭
وكارل شطح اخوه لو يشوف سيان بيقول متى العرس؟😘
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 44"