“…..سيان؟”
عندما صمتت سيان بعد أن كانت تعترف بالكثير بنبرة هادئة، ناداها كارل وكأنه شعر بالقلق.
حتى نبرة صوته كانت دافئةً للغاية.
وفجأة، بدأت سيان تفهم لماذا انفجرت بالبكاء فور رؤيتها لكارل.
“…..هل يمكنني أن أستعير كتفكَ؟”
رغم أنها كانت تطلب منه ببرود، إلا أن كارل اتسعت عيناه دهشةً من هذا الطلب غير المتوقع.
“إنه لشرفٌ لي، يا سيان.”
ثم ابتسم كارل وجلس قريبًا منها و ربت على كتفه،
“تفضلي.”
فابتسمت سيان بسخريةٍ مرة وأمالت رأسها لتتكئ على كتفه.
كان كتف كارل صلبًا حيث لامس صدغها. فشعرت بأنه ثابت، ودافئٌ أيضًا.
كان إحساسًا يدفعها إلى الاعتماد عليه. وكان أيضًا شعورًا ترغب في امتلاكه.
دفء شخصٍ ما يحمل مشاعر طيبة، ذلك الإحساس الذي نسيته منذ زمنٍ طويل.
شعرت سيان أن دموعها التي توقفت بالكاد، ستعود من جديد، فأغلقت عينيها.
كان شعور الوحدة يرافقها منذ وقت طويل. و لم تستطع الاعتماد على أحد، بل حتى هي نفسها لم تستطع الاعتراف بأصلها لفترةٍ طويلة جدًا.
وفي عيني كارل، اللتين أصبحتا دافئتين دون أن تدرك ذلك، أدركت فجأةً وحدتها العميقة التي لم تكن تعرفها من قبل.
وكان ذلك سببًا لانفجارها المفاجئ بالبكاء.
“هل يمكنني أن أسألكَ شيئًا؟”
“اسألي ما شئتِ.”
فأجاب كارل برحابة صدر.
“كيف شعرتَ حين اختاركَ التنين؟”
سألت سيان وهي تضع رأسها على كتفه، وتحدق في الفراغ. فأدار كارل رأسه لينظر إليها، لكنه لم يرَ سوى خصلات شعرها البلاتيني المتلألئة.
“….لا أتذكر. كان ذلك عندما كنت في الرابعة من عمري. حتى أنني لم أعرفه إلا لأن من حولي قالوا لي ذلك.”
“أتتذكر ما رأيته مرة واحدة قبل 12 سنة، لكنكَ لا تتذكر هذا؟”
قالت سيان ذلك ممازحة وضحكت.
“إن تذكرتُ شيئًا حدث في الرابعة من عمري…..ألن يكون ذلك خارجًا عن قدرة البشر على التذكر؟”
لم ترد سيان على كلام كارل، بل اكتفت بالابتسام.
وكان كارل يراقب خصلات شعرها البلاتيني الجميل وهي تهتز بهدوءٍ فوق كتفه.
“و أيضاً…..لقد لفتِّ نظري.”
بدافع غريب، بدأ كارل يلامس خصلات شعرها المنسدلة بأطراف أصابعه بحذر.
لكن سيان، التي أبدت سابقًا ردة فعل حساسة حتى من مجرد لمس شعرها، لم تُبدِ أي دهشة من لمسته هذه المرة. بل اكتفت، كما لو أنها ترغب بذلك أيضًا، بالتحديق بصمت في يده التي تلامس أطراف شعرها.
“تحت القبعة البالية، كانت خصلات شعرٍ بلون نقي كقشور إديلين تتطاير في الهواء. كانت لحظةً قصيرة، لكن المشهد انغرس في عينيّ كأنه طُبع هناك بطريقةٍ غريبة. رغم أنها مجرد ذكرى مجزأة.”
أضاف كارل بصوتٍ منخفض هادئ، وكأنه يهمس. فعَضّت سيان شفتها لا إراديًا.
“لأجل ماذا تهتِ لكل ذلك الوقت؟”
كان سؤال الكاهنة البديلة اللطيف يدور في رأسها بلا توقف.
‘لأجل لا شيء. لم أكن أرغب في شيء، ولم أطلب شيئًا.’
استعادت سيان الإجابة الصادقة التي لم تستطع قولها في حينها.
حتى لو رغبت بشيءٍ بشدة، لم يكن هناك ما يمكن أن تحصل عليه.
لم تكن تريد أن تُطرد. و لم تكن تريد أن تبقى وحيدة.
ومع ذلك، كان عليها أن تُمحى من الوجود داخل عائلتها، بسبب حسابات الكبار الأنانية، لتُترك وحيدة.
كانت طفلةً صغيرة، لم تتعلم شيئًا، لا تعرف ما يجب أن تفعله أو من أجل ماذا تعيش، تاهت في هذا العالم بلا وجهة، وهناك فقط أدركت – بشكل أقسى من أي أحد – أن العالم لا يمنح ما ترغب فيه بسهولة مهما كنت تريده بشدة.
وفي تلك الفترة الضائعة، كان الأمير وإيدلين، اللذان رأتهما صدفة، نورًا ساطعًا أكثر مما يمكن الطمع به.
فسيان، التي حُذفت كل سجلات ولادتها ونشأتها، والتي تم نفيها، لم تكن لتجرؤ حتى على الحلم بمثل تلك الكيانات.
في هذا العالم، هناك من يولد وفي يده كل شيءٍ ويعيش حياةً فاخرة، وهناك من يُسلب منه كل شيء منذ ولادته، ويُجبر على عيش حياةٍ بائسة.
سيان كانت تظن أن قدرها من النوع الثاني.
شخص حتى عائلته أنكرت وجوده، على ماذا يمكن أن تطمع أكثر؟
ومع ذلك، بعد كل هذا الدوران، ها هي تعود إلى المعبد الذي حاولت تجنبه بكل وسيلة.
ربما، حتى هذا كان قدرًا مكتوبًا.
من جهة، كان هناك إهمالْ غير مسؤول، ومن جهةٍ أخرى، حبٌ لا محدود.
تساءلت سيان في نفسها، ما الذي كانت الكاهنة، التي تعرف كل شيء، تأمل أن تسمعه منها؟
كانت تعرف الجواب بالفعل.
“……هل يمكن لي أن أرغب بشيء؟”
لكنها لم تكن تملك الثقة لتصديق ذلك.
هل يمكنها الحصول على شيء لمجرد أنها تريده؟ وهل يحق لها أصلاً أن تطمع به؟
لأول مرة، شعرت سيان بعاطفةٍ لطيفة موجهةٍ نحوها. لكنها لم تكن تملك الشجاعة لتطمع بها.
ظنّت أن كارل لن يفهم المعنى الحقيقي لسؤالها الذي همست به وكأنه حديثٌ مع نفسها.
ولهذا طرحته بسهولة. لكن كارل خالف كل توقعاتها.
و كأنه كان يتذكر بوضوح تلك اللحظة العابرة التي التقيا فيها بنظرات، رغم مرور أكثر من عشر سنوات، تلك اللحظة التي ظنت أنها لم تُسجَّل أبدًا في ذاكرته.
كان كارل يمرر أصابعه برقة بين خصلات شعرها، ثم قبض بلطف على أطرافها.
“إن كان ما تعنينه هو ما أفكر فيه..…”
كانت سيان تستمع إلى صوته وهو ينساب من فوق رأسها وكأنه موجهٌ إلى شخص آخر.
“…..فسيكون ذلك شرفًا لي أيضًا، يا سيان.”
ثم طبع قبلةً خفيفة على خصلات شعرها الفاتحة.
***
“التنين العظيم.”
قال بيل ذلك بتأثر.
“فليصل مجد يغدراسيل العظيم إلينا.”
قال الطبيب جيفي ذلك بوقار وهو يضم يديه بتقوى.
“……كل هذا مجاني، صحيح؟”
“سيجعلني أبكي من التأثر.”
أمام المائدة العامرة، لم يتمالك المرتزقة أنفسهم وراحوا يهتفون جميعًا بمجد يغدراسيل.
حتى السرير الفاخر، الذي لا يُقارن بغرف النزل الحقيرة، كان ناعمًا ومريحًا لدرجة أنه يمنح نومًا عميقًا بمجرد الاستلقاء عليه، وجميع الأطعمة المعدّة للضيوف كانت دافئةً يتصاعد منها البخار، و تذوب في الفم حال دخولها.
وقبل كل شيء، كان ما أثر فيهم أكثر هو أن كل هذا مجاني.
و أمام هذا الكرم، أعاد المرتزقة نقش إيمانهم وهم يغمرهم التأثر.
“كما هو متوقّع، لا بد من الانضمام للطرف الصحيح. من كان يتخيل أن الأمير الذي وجدته أختنا سيجلب لنا كل هذه النِعم؟”
“وهكذا يُجنّ الناس بسبب السلطة.”
قال باسكال ذلك ضاحكًا وهو ينهش قطعة لحم.
“لكن، ما مصيرنا الآن؟ يبدو أن سيدتنا لا ترغب في الاستمرار مع سموه.”
“مع ذلك، تلقّينا مالًا وفيرًا دون أن نفعل شيئًا يُذكر. والوفاء يقتضي أن نبقى معه حتى تُبرأ ساحته، أليس كذلك؟”
“لكن الطريق وعرة جدًا لنسيرها فقط بدافع الوفاء. سيدتنا لم تكن متحمسةً لمساعدة الأمير منذ البداية، أليس كذلك؟”
كان ذلك عندما أجاب ماكس، و فُتح باب غرفة الضيوف فجأةً دون حتى طرق.
“……أنتم حقًا تعيشون كالكسالى.”
كانت سيان.
“سيدتي!”
“أين كنتِ؟ ظننا أن الكهنة قد التهموكِ.”
استقبل المرتزقة سيان بمزيج من السخرية واللوم، لكنها لم تُعرهم اهتمامًا، بل حركت حاجبيها ونظرت حول الغرفة بنظرةٍ سريعة.
كانت الغرفة الواسعة تحتوي على عدة أسرّة، وفي وسطها تمامًا كانت مائدة عامرة نُصبت للضيوف.
على كل طاولة كانت هناك أطباقٌ من اللحم المطهو تفوح منها رائحةٌ شهية، واليخنة، والسلطات المغطاة بالتتبيلة، والخضار المشوي.
سيان، التي وقعت عيناها على تلك المائدة الفاخرة التي تُرضي البصر والشم في آنٍ واحد، شدّت زاويتي شفتيها بابتسامة واسعة.
“كلوا كثيرًا. وارتاحوا جيدًا قبل أن نغادر.”
قالت ذلك وهي تبتسم بعذوبة، وعيونها تنحني بليونة.
“……؟”
أسدلت سيان شعرها فاتح اللون، الذي اعتادت ربطه دائمًا. وكان وجهها، الذي بدا من بين خصلاته المتموجة وهي تبتسم بهدوء، جميلاً جدًا حتى من منظورٍ موضوعي.
“…..لماذا…..لماذا تبتسمين هكذا، سيدتي.…؟”
لكن المرتزقة، بحكم تجاربهم الطويلة، كانوا يعرفون جيدًا…..الوجه الجميل فخ.
وكلما ابتسمت سيان بذلك الجمال، كان ذلك نذيرًا لشيء رهيب قادم.
“هل حصل شيءٌ سيء بينكِ وبين سمو الأمير..…؟”
سأل ماكس، الذي كان أقرب المرتزقة إلى سيان وأكثرهم مرافقةً لها، بصوتٍ مرتجف.
لكن سيان، دون أن تتوقف عن الابتسام، أمالت رأسها نافيةً فقط.
“لا يمكنني القول أنه شيءٌ سيء تمامًا.”
هل كانت في مزاج جيد؟ أم أن هذا هو الهدوء الذي يسبق العاصفة؟
توقف المرتزقة جميعًا عما كانوا يفعلونه وركزوا أنظارهم عليها. أما سيان، فعبرت الغرفة بتعبير لا يمكن قراءته، متجهةً نحو أمتعتها لتبحث عنها.
“……أختي، ألا تريدين أن تتناولي الطعام؟”
“ابدؤوا أنتم أولاً.”
لكن اللحم، الذي كان يذوب في أفواههم قبل لحظات، فقد طعمه فجأة تحت وطأة شعور غريب بالقلق.
فاجتمع المرتزقة أمام المائدة يتبادلون النظرات المتوترة فيما بينهم.
إن لم يعرفوا سبب تصرف سيان الغريب، فلن يستطيعوا حتى أن يشبعوا بطونهم رغم هذا الطعام الفاخر.
وفي النهاية، تقدم ماكس.
“سيدة سيان.”
“هم؟”
كانت سيان قد جلست على حافة السرير بعد أن أخرجت شيئًا من بين أمتعتها.
“لماذا أخرجتِ الورق؟”
راقبها ماكس فرأى سيان تبتسم ابتسامةً مشرقة وهي تمسك بورقة وقلم، وقد أحضرت حتى زجاجة الحبر معها. فأجابت مبتسمة،
“آه، هذا؟ أكتب عقدًا جديدًا.”
ثم ابتسمت ابتسامةً ناعمة لا تناسب الموقف، فيها قليلٌ من الخجل لسببٍ ما.
“هل حصل شيءٌ بينكِ وبين سمو الأمير؟”
سأل الطبيب جيفي من بعيد، وهو ينهش قطعة لحم، لكنه التقط الوضع بسرعة وضيّق عينيه بشك.
“ما الذي تقوله؟ لا يوجد شيءٌ كهذا.”
عادت ملامح سيان لطبيعتها حين ردت على سؤال الطبيب جيفي الذي التقط الجو بسرعة.
عندها فقط، اطمأن المرتزقة، بعدما رأوا الوجه البارد المعتاد الذي يعرفونه، واستأنفوا تناول طعامهم الذي توقفوا عنه.
“لكن إن لم يحدث شيءٌ بينكما، لماذا تكتبين عقدًا جديدًا؟”
“أعني أنه لم يحدث شيءٌ شخصيٌ بيننا.”
أجابت سيان على سؤال ماكس بهدوء تام.
و بالطبع، لم يكن الأمر أنه لم يحدث شيءٌ شخصي…..بل على العكس، حدث أمرٌ هائل بالفعل.
__________________
وش صار اعترفوا مره ثانيه؟
طب شسمه ليه ينطزون غش
كارل اليوم حنوووون
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 43"