لكن لا يمكن أن يكون ذلك هو السبب.
حتى لو لم تكن تعرف تمامًا لماذا انفجرت بالبكاء فور أن رأت وجه كارل، فهي متأكدةٌ تمامًا من أن السبب ليس مجرد اقتراحه.
إنه أشبه بشيءٍ آخر…..
شخصٌ ظنّت منذ زمن بعيد أنه بعيد المنال، مستحيل الوصول، وفجأة بات يحدّق بها بتلك النظرة الحانية، وكأن العالم كله ينهار في عينيه من أجلها—كان من الصعب تصديق ذلك في لحظتها.
“…..كارل.”
نظرت سيان إليه بهدوء.
“هل تذكر أول مرة التقينا فيها؟”
قالت ذلك بعد تفكير طويل، وكأنها تعترف بخطيئة قديمة في طقس اعترافٍ ديني.
أدار كارل رأسه نحوها. لكن بدلًا من الرد، مال برأسه قليلًا مستفسرًا، بينما سيان بادلته النظرات.
كانت تعابيره تقول: لماذا تطرحين هذا الآن؟
“في ذلك الوقت، سألتني إن كنا قد التقينا من قبل، أليس كذلك؟”
فجأة تذكّر كارل تلك اللحظة، حين كان يصارع الموت، وتنهّد قائلاً “آه..…” بصوتٍ خافت.
حتى وسط الألم وغياب الوعي، شعر بتلك الغرابة، وسألها إن كانا قد التقيا من قبل—لكنه تلقّى منها توبيخًا على “عبارة التعارف المبتذلة من زمن قديم”.
رغم أن تلك اللحظة لم تكن بعيدة زمنيًا، فقد بدت له الآن كأنها من زمن سحيق.
وفي خضمّ استغرابه من سبب إثارتها لهذا الحديث فجأة، رمش كارل نحوها بتساؤل صامت.
“…..في الحقيقة، رأيتكَ منذ زمنٍ بعيد.”
قالت سيان ذلك وهي تحدّق فيه بنظرة غامضة. بينما اتسعت عينا كارل بصدمة.
“كان ذلك في الأيام التي كنت فيها أتجول مع ريفينانت من مكان لآخر. في تلك الفترة، انتشرت شائعةٌ في هذا البرّ القاحل، و البارد، مفادها أن الأمير الصغير، سيد إيدلين، سيأتي ليصبح الحاكم هنا.”
“…..إذاً، فهذا قبل أكثر من عشر سنوات.”
حاول كارل أن يسترجع ذكرياته. لكن حتى من دون جهد كبير، كانت ذكرى مغادرته للعاصمة لأول مرة ووصوله إلى أرض قاحلة حاضرةً بوضوح في ذهنه.
كان عمره آنذاك أحد عشر عامًا فقط. أي قبل اثني عشر عامًا بالضبط.
“كنت صغيرةً أنا أيضًا. في ذلك الوقت، كنت أظن أن ريفينانت—التي كانت تجنّ حين ترى التنانين—امرأةٌ رائعة، جميلة، ذكية، وقوية فحسب. و كنت أريد أن أكون مثلها، لذا كنت أتّبع كل ما تقوله تقريبًا.”
كان اقتراح الذهاب لرؤية إيدلين الفضي، الذي ينحدر من سلالة يغدراسيل، من ريفينانت.
ارتدى كلّ من سيان وريفينانت عباءاتٍ ثقيلة بقبّعات تخفي ملامحهما، واختبآ مترقّبين مرور موكب الأمير.
في ذلك اليوم، رأت سيان الأمير لأول مرة، كارلستون كلاوس، وسيد إيدلين.
“أهو طفل؟”
كطبعًا هو طفل. عمره فقط أحد عشر عامًا.”
ضحكت ريفينانت بهدوء على تذمّر سيان المفاجئ.
“إنه محظوظ، أليس كذلك؟ رغم صغر سنه، هو أمير، وبما أنه سيد إيدلين، ها هو محاطٌ بكل هؤلاء البالغين من حوله.”
كان الأمير بالفعل يسير في الطريق، محاطًا برجالٍ مسلحين تسليحًا خفيفًا، تمامًا كما وصفت ريفينانت.
سيان وريفينانت اختبآ خلف جذع شجرةٍ في الغابة، على بعد مسافة من الطريق، خوفًا من أن يلاحظهما أحد.
“حقًا، كما قلتِ.”
و تحدثا بصوتٍ خافت جدًا.
رغم أن إيدلين لم يكن موجودًا بالجوار، فإن سيد التنين يشترك مع تنينه في الحواس.
وقد كانت المسافة بعيدة بما يكفي لأن لا يسمع الإنسان العادي شيئًا، لكن لم يكن هناك ما يضمن أن الأمير، الذي يملك حواس التنين، لن يلاحظ شيئًا.
“ما الأمر، سموّك؟”
رغم أن حديث سيان وريفينانت كان خافتًا جدًا، إلا أن الأمير الصغير التفت فجأةً ناحيتهما، وكأنه سمع شيئًا.
فأسرعت سيان بالاختباء خلف جذع الشجرة.
“…..لا شيء.”
صوت الأمير، بصغر سنّه، كان هادئًا حين نطق بتلك الكلمات. ثم عاد صوت حوافر الخيول يُسمع من جديد بعد أن كان قد توقف.
كان صوت طفل لم يبلغ حتى سن البلوغ، لكن رغم ذلك، في صوته كان هناك شيءٌ غريب…..هيبة مهيبة لا تليق إلا بالأمراء.
فدفعها الفضول لتُطلّ برأسها مرةً أخرى ببطء.
“لنذهب، سيان. سنُكشف إن بقينا.”
قالت ريفينانت ذلك محاولةً منعها من التحديق مجددًا في موكب الأمير. فأومأت سيان برأسها، لكنها لم تستطع تحريك قدميها.
المسافة كانت بعيدة، ووجه الأمير كان صغيرًا من الأساس، فلم تستطع تمييز ملامحه بوضوح. لكن شعره الأسود القاتم—كذلك الذي قيل أن التنين الأسود الشرير “فيغادراسيل” امتلكه قبل أن يُهزم على يد إيغدراسيل الفضي—وعيناه المتألقتان بلون فيروزي نقيّ،
هذان فقط، هما ما ترك انطباعًا شديد الوضوح في ذاكرتها.
حين تفكر الآن، هل كان ذلك غيرة؟ أم إعجابًا؟
أم أنها، من الأساس، وقعت في حب ذلك الأمير الصغير في تلك اللحظة؟
مرت عشر سنوات، ومع ذلك، ما إن رأته مجددًا حتى عرفت فورًا أنه هو نفس الأمير الصغير. فتلك الذكرى، بالنسبة لسيان، كانت مميزةً للغاية.
“…..أتذكّر.”
سيان التي كانت غارقةً في ذكرى بدت وكأنها حدثت بالأمس، رمشت بدهشةٍ حين سمعت صوت كارل المنخفض، المختلف تمامًا عن صوته آنذاك.
“كان هناك شخصٌ يختبئ خلف الشجرة على التل في مكان بعيد جدًا. و تبيّن أن ذلك الشخص كان أنتِ.”
هذه المرة، كانت سيان هي من اتسعت عيناها بدهشة.
…..ماذا؟
كلماته التي قالها بكل بساطة بدا من الصعب تصديقها. فالمسافة التي كانت تفصلها عن موكب الأمير حينها، كما تتذكّر، كانت بعيدةً جدًا—لا يمكن إيصال الصوت إليها إلا بالصراخ بأعلى صوت.
وفوق ذلك، كانت تختبئ بحذر خلف جذع الشجرة، ومع ذلك، يقول أنه رآها؟
نظرت إليه سيان بثبات، تراقبه و كأنها تحاول التأكد إن كان يمزح أو يتلاعب بمشاعرها.
حتى لو كان قد رآها فعلًا، فكيف له أن يتذكّر ذلك بعد اثني عشر عامًا؟
بدأ الشك يتسلل إليها، متسائلةً إن كان يقول ذلك لمجرد مجاراتها في لحظتها العاطفية. لكن عندها، أكمل كارل بهدوء،
“بعدها مباشرة، أوقفت الموكب واستدعيتُ إيدلين، أليس كذلك؟”
فتحت سيان شفتيها بدهشة وصمت. فقد كان كلامه دقيقًا تمامًا.
بينما كانت تتردّد في مغادرة المكان، بعدما عجزت قدماها عن الحركة، توقف موكب الأمير بأمرٍ منه.
ثم نادى الأمير اسم “إيدلين” بنبرةٍ حانية، كما لو كان ينادي حبيبته، فظهر إيدلين فجأة، باعثًا عاصفةً قوية بجناحيه الضخمين المضيئين بخطوط فضية متلألئة.
“…..إذاً، عندما قلت لي لاحقًا أننا التقينا من قبل..…”
نطقت سيان بالكلمات وهي في حالةٍ من الذهول، غير مصدقة لما تسمعه.
“أنا لا أتذكّر الأمر بوضوح. فلم أكن في حالة تسمح بذلك حينها…..فقط شعرت أنني رأيتكِ من قبل، لذلك سألت. لا داعي لأن تندهشي إلى هذا الحد.”
قال كارل ذلك بنبرة عادية وكأن الأمر ليس بهذه الأهمية، لكن لم يخطر ببالها أنه قد يتذكّر حقًا ذلك المشهد العابر.
“أظنني رأيت فتاةً صغيرة ذات شعر بلاتيني…..وكان من غير المألوف حينها رؤية فتاةٍ تتجوّل في منطقة مثل إيفاريت، لذلك ظننت أنها من السكان المحليين الذين يتحفظون من الغرباء، ولهذا السبب تحديدًا ناديت إيدلين عن عمد.”
قال كارل ذلك بنبرة جانبية وهو يعقد ذراعيه. ما يعني أن ظهور إيدلين لاحقًا كان جزءًا من خطّته المدروسة أيضًا.
فضحكت سيان ضحكةً قصيرة فارغة.
“…..كانت ريفينانت تريد أن تصبح سيدة تنين.”
أضافت سيان ذلك. فظهرت على شفتي كارل ابتسامةٌ ساخرة باردة.
“وهل هذا شيءٌ يمكن تحقيقه بالرغبة وحدها؟”
“بالضبط. حتى سبب الخلاف بيني وبين ريفينانت…..في الحقيقة، كان لما رأيناه في ذلك اليوم أثرٌ كبير فيها.”
فبينما كانت سيان تُركز على الأمير، سيد إيدلين، الذي ظهر متألقًا تحت ضوء الشمس، كان ريفينانت قد أُسرت بالكامل بقوة إيدلين السحرية المتلألئة بالفضة، التي زيّنت السماء كالشمس.
“أريده.”
تلك النظرة في عيني ريفينانت، بعينيها الخضراوين اللامعتين نحو ذلك الكائن الساطع كالشمس، لا تزال محفورةً بوضوح في ذاكرة سيان.
“لنأخذه.”
قالت ريفينانت ذلك، لكن الأمر كان جنونيًا.
سيان، التي كانت في الأصل سيدة تنين ثم أنكرت ذلك الدور بنفسها، كانت تعلم أكثر من أي شخص أن هذا مستحيل.
“ذلك مختلف عن باقي التنانين. إنه نسلٌ مباشر من يغدراسيل، تنينٌ نبيل. ربما…..يمكننا التحدث إليه.”
كانت تحمل سيفًا أبيضًا ذا نصل دقيق، تحتفظ به دائمًا،
وكانت نظرتها في ذلك الحين أقرب إلى الطمع منها إلى الطموح.
“أتعلمين؟ اختيار التنين لسيده هو أمرٌ يعود له بالكامل. لا يمكنكِ ببساطة انتزاعه بالقوة.”
“أنتِ ساذجة، سيان. كل كائن عاقل، حين يُواجه قوةً ساحقة، لا يمكنه سوى الخضوع. فما الذي يساوي الحياة نفسها؟ لا شيء أهم منها.”
قال ريفينانت ذلك، وهي تبتسم ابتسامةً ممزوجة بالمرارة والدم. و رغم أن سيان كانت عمياء بالجهل والبراءة، فقد شعرت بخوف غريزي واضح لا لبس فيه.
كانت تشعر بشيء مخيف، بشيء خاطئ للغاية، ومع ذلك حاولت تجاهل الأمر بكل ما أوتيت من جهد، مرددة في داخلها: ‘لا يمكن أن تكون ريفينانت، التي كانت مثاليةً في كل شيء، مخطئةً في كلامها.’
لكنها لم تعلم إلا بعد وقت طويل، كم عدد التنانين التي ذبحتها ريفينانت بذلك السيف الذي كانت تعتز به أكثر من حياتها.
“لكن حراسة الأمير، سيد إيدلين، كانت صارمةً للغاية.
وريفينانت، التي اعتادت على اصطياد التنانين البرية غير المروّضة، لم يكن من السهل عليها اختراق نظام الحراسة الملكية المنظّم. أما العثور على عش إيدلين، فكان أصعب من ذلك.”
“….…”
ظل كارل يحدّق في وجه سيان بصمت، بينما كانت تسترجع ذكرياتها وتتحدث بهدوء.
“إن كانت كذلك، لماذا افترقتِ عنها؟ أعني، ألم تواصلي السفر معها لفترةٍ طويلة حتى بعد أن بدأت تطمع في إيدلين؟”
سأل كارل بتردد، بعد أن صمت للحظات.
و سيان، التي كانت تحدّق في الفراغ، أدارت وجهها ونظرت إليه مباشرة.
“لأن ريفينانت، التي أغاضها كثيرًا عدم تمكنها من الحصول على إيدلين، بدأت تطمع في تنين آخر…..وأرادت قتله.”
“تنينٌ بري؟”
سأل كارل مجددًا. لكن سيان لم تجب، بل فقط شدّت طرف شفتيها بصمت.
لو كان هدف ريفينانت التالي مجرد تنين بري، لربما لم تتدهور علاقتهما بهذا الشكل.
لكن ما رغبت فيه ريفينانت بعد إيدلين…..كان تنين سيان نفسها.
“كنتِ سيدة تنين؟!”
المرأة التي كانت تؤمن بها كرفيقة روح حتى وقتٍ قريب، أمسكت سيفها فجأة، وقد تغيّرت نظرتها بالكامل في لحظة واحدة.
“ناكرةٌ للجميل مثلكِ…..”
كانت تلك الكلمات الحادّة أكثر قسوةً من نصل السيف المصقول، ومزّقت ثقة سيان العمياء التي كانت تغطي عينيها.
كانت ريفينانت هي من علمت سيان كيفية استخدام السيف. وبتلك المهارة التي تعلّمتها منها أول مرة، خاضتا قتالًا عنيفًا، لكن لم تُحسم المعركة.
ومنذ ذلك الحين، لم ترَ ريفينانت مجددًا.
تجولت سيان وحدها بلا وجهة، من مكان إلى آخر، حتى التقت بماكس، الذي كان وقتها مجرد مرتزق مبتدئ، وتبعته لتصبح مرتزقةً مثله.
كانت الذكرى واضحةً كأنها حدثت بالأمس، فتمسّكت سيان بالمنديل بكلتا يديها، دون أن تنطق بكلمة.
بل لعل عبارة “لم تستطع أن تتكلم” كانت أصدق وصفًا لحالها.
___________________
ياعمري هي ☹️
طيب علمي كارل انس سيدة تنين
ودي بعد توصف تنينها شكله حلو🤏🏻 ودامها دافعت عنه يعني تحبه 🫂
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 42"