صوت الكاهنة الكبرى كان في منتهى اللطف، لكن ملامح سيان لم تكن لتلين.
حقًا، كانت نصيحةً تليق بمراقب يعرف كل شيء ولا يتدخل.
أن تختار الطريق، وأن تتحمل النتائج والمسؤولية الناتجة عنها، هذا ما كانت الكاهنة الكبرى تحذر منه بنبرة هادئة.
افعلي هذا، أو افعلي ذاك—لو أنها قالتها بوضوح لكان وقعها أقل إزعاجًا. لكن كانت تلك النصيحة ذات المسافة الغريبة أشبه بتدخل غير مسؤول.
نقرت سيان لسانها وسرحت يدها في شعرها.
ما هو الصواب يا ترى؟ لا، وهل هناك صوابٌ من الأساس؟
هبّت الريح، وكانت تيارًا لا يُعرف من أين بدأ ولا إلى أين يتجه.
وفي خضمّ ذلك، رفعت سيان رأسها ونظرت إلى الشجرة العظيمة، مصدر الإمبراطورية.
و الشعر الذي سرّحه مرارًا تطاير من جديدٍ وتبعثر.
***
كانت سيان تسير بلا هدف، تحدّق في الأرض بشرود.
الأفكار المتشابكة لم تكن مرتبة، ولم يكن لديها رغبةٌ في ترتيبها أصلًا.
“لا تخَافي من المضيّ قدمًا. حتى وإن تخلّيتِ عن كونكِ سيدة التنانين وجُبت العالم تائهة، فإنكِ وصلت في النهاية إلى هذا المكان، لأن المصير لا مهرب منه، ولذلك فهو مصير.”
هكذا نصحتها الكاهنة الكبرى في آخر لقاء، بينما كان قلبها مضطربًا.
المصير. كم مرةً ردّدت تلك الكلمة مازحةً أو ساخرة، لكنها ما زالت تتساءل إن كان هناك مصيرٌ محتوم فعلًا.
“سأقوم بمحو كل سجلاتكِ.”
في تلك الليلة السوداء، الليلة التي سُلب فيها كل شيء، كان الصوت الذي سمعته يتشابك في رأسها مع صوت الكاهنة الكبرى، ليخلق فوضى عارمة في ذاكرتها.
“اختيار طريق الحياة، هو مسؤوليتكِ وحدكِ.”
عندما أعادت التفكير، وجدت أن كلمات الكاهنة الكبرى لا تتسق.
لقد اختيرت لتكون سيدة التنين، لكنها لم ترغب في ذلك، فرفضت الطريق وهربت، وقرّرت أن تعيش كـ”لا أحد” تتجول في هذا العالم.
ومع ذلك، ها هي في النهاية تصل إلى شجرة يغدراسيل، التي مرّ بها جميع سادة التنانين من قبلها، وكأن طريقًا مرسومًا لا يمكن الهروب منه قد ساقها إليها.
‘فهل إرادتي لا تهم إذًا؟’
شعرت سيان بضعفٍ لا اسم له، جعلها في مزاج سيء بلا سبب واضح.
ما الذي أستطيع فعله؟ ما الذي يمكنني امتلاكه؟
‘الكاهنة الكبرى التي تعرف كل شيء، على أي أساس أعطتني تلك النصيحة؟’
سيان التي ما زالت تائهةً بلا وجهة، لم تستطع فهم الأمر مهما حاولت التفكير.
“…..آه.”
لم يكن هناك مكانٌ تذهب إليه. أو بالأحرى، لم تكن تعرف إلى أين يجب أن تعود.
ولهذا السبب، وبينما كانت تتجول بلا هدف في أروقة المعبد تاركةً أفكارها المتشابكة معلّقة، لم تلحظ سيان حتى ظلّ الشخص الذي اقترب منها.
عند سماعها لتنهيدة منخفضة وظلال داكنة تخيّمت أمام عينيها، أدركت فجأةً أنها كادت تصطدم بشخصٍ ما.
“سيان؟”
رفعت رأسها، فوجدت وجهًا مشرقًا في مجال رؤيتها المرتفع.
وجهٌ وسيم كمنحوتةٍ اقتحمت فجأة نظر سيان الغارق في ظلمة أفكارها.
و كان الأمر أشبه باستعادة بصرها فجأة.
“كارل..…”
“في ما كنتِ غارقةً بالتفكير به بهذا العمق؟”
وكأن كل الأحاديث التي جرت في قاعة استقبال المعبد قد مُسحت من ذاكرته، ابتسم كارل وسأل سيان بلطف.
هل هو مجرد وهم؟
في وجه كارل الذي بدا طبيعيًا جدًا، ومشرقًا، بل وحتى ودودًا، حدّقت سيان بفم نصف مفتوح، وهي تتساءل في ذهول.
‘منذ متى ينظر إليّ هذا الرجل بتلك العيون المليئة باللطف؟’
لم تكن قد أدركت ذلك من قبل.
“لست أريدكِ كي أعرفكِ، بل أرغب في معرفتكِ لأنني أريدكِ.”
تذكّرت فجأةً تلك الكلمات التي قالها كارل ذات مرة، بنظرات رجل جاد.
هل كانت عيناه بهذا الشكل حينها أيضًا؟ لم تستطع سيان أن تتذكّر جيداً.
كل المشاعر التي كانت مثقلةً بذكريات مؤلمة و تمنّت نسيانها، اندفعت فجأةً بقوة وحرارة اجتاحت كيانها دفعةً واحدة.
“….آه.”
ففاضت دموعٌ في عينيها. ومع الشعور بأن طرفي عينيها قد ابتلّا بحرارة، أطلقت سيان تنهيدةً خافتة من المفاجأة.
“هاه؟”
و أصدر كارل صوتًا مرتبكًا.
“ما هذا، أتبكين الآن، سيان؟”
سيان، التي فوجئت هي الأخرى، خفضت رأسها بسرعة.
“لا، ليس كذلك.”
‘يا لي من حمقاء.’
فكّرت سيان بذلك وهي تمسح دموعها. ومع ذلك، ومن دون حتى أن تشعر بالحزن، انهمرت الدموع فجأةً وبدأت تتساقط بلا توقف.
نظر كارل إليها بوجه شديد الارتباك، كان ينظر إليها تارة، وحول المكان تارةً أخرى.
لم يكن هناك أحدٌ بالجوار، لكنهما كانا في منتصف الرواق، وقد يمر به أي شخص في أي لحظة.
“…..تعالي.”
قال كارل ذلك وهو ينقر لسانه بخفة، ثم أمسك بذراع سيان وسحبها إلى مكانٍ ما.
كان بإمكانها ألا تتبعه، لكنها لم تكن في حالةٍ تسمح لها بالرفض أصلًا.
وما كان يربكها أكثر، هو أنها لم تكن تعرف لماذا تبكي.
لم تستطع حتى تذكّر آخر مرة بكت فيها، ما جعل الأمر أشدّ غرابة.
بينما كانت سيان تائهةً لا تعرف إلى أين تتجه، بدا كارل وكأنه يعرف المعبد جيدًا.
عبرا الرواق وتجاوزا عدة زوايا حتى ظهرت الحديقة. كانت مختلفةً عن الحديقة التي تحتوي على شجرة يغدراسيل، أصغر بكثير، ومفتوحةً للجميع.
وعلى الجانب الآخر من الممر الصغير، وُجد مقعد خشبي واحد.
“سأحضر شيئًا لتجفيف دموعكِ، انتظري هنا قليلًا.”
قادها كارل إلى هناك وأجلسها، ثم قال لها ذلك بصوته اللطيف المعتاد.
أومأت سيان برأسها المنحني بنعومة إلى أعلى وأسفل. بينما كانت الدموع التي بدأت بالسقوط لم تتوقف، واستمرت تنساب بصمت.
سمعت خطوات كارل وهو يعود من حيث أتى ويختفي، لكنها لم تنظر إلى ظهره المغادر، إذ كانت رؤيتها مشوشةً بدموعها على أي حال.
في هذه الحديقة التي تختلف كثيرًا عن تلك التي توجد فيها شجرة يفدراسيل، لم تكن هناك رياحٌ تهب. ولا صوتاً لحشرات العشب التي يجب أن تكون موجودة، ولا زقزقة طيور.
لا صوت على الإطلاق. بل صمتٌ تام وكامل.
الهدوء في هذه الحديقة التي تغمرها الشمس لم يكن أمرًا طبيعيًا.
كان الصمت عميقاً لدرجة أن أوراق الأشجار لا تُصدر حتى صوت احتكاك، و ذلك السكون الغريب منح سيان شعورًا غامرًا بالسكينة.
“…..هُهْ.”
و بدلًا من أن تتوقف، انفجرت بالبكاء في النهاية.
لم تعد تحاول المقاومة، وأطلقت العنان لدموعها وهمومها لتخرج دفعةً واحدة.
كانت هناك لحظاتٌ كهذه من قبل. تلك اللحظات التي لا تعرف فيها لماذا تبكي، ولا يوجد ما يدعو للحزن أصلًا،
لكنّ تراكماتٌ كثيرة انفجرت بلمسة صغيرة.
“ما الذي تبقّى لكِ يا سيان؟”
تذكّرت صوت الكاهنة الكبرى.
“من ينكر نفسه، لا يستطيع أن يمتلك شيئًا.”
لا تعلم لماذا، لكن تلك الكلمات اشتعلت في صدرها وأشعلت نوبة بكاء مؤلمة.
“…..هل أنتِ بخير؟”
فجأة، همس صوت منخفضٌ قرب أذنها.
عندها فقط أدركت أنها كانت تحدق في الفراغ بذهول، والدموع قد جفّت من عينيها.
ثم امتدت يد تحمل منديلًا نحوها.
سيان، التي ما زالت شهقتها تترنح في صدرها، مسحت أنفها بخفة و أخذت المنديل الذي قدّمه لها كارل.
“شكرًا.”
قالت سيان ذلك بصوتٍ مبحوح، فابتسم كارل بخجل خفيف.
لم تكن توليه الكثير من الانتباه، و فتحت المنديل الذي أعطاها إياه ونفّت أنفها بقوة، كما لو كانت تتخلص من كل ما بداخلها.
فتعكّر وجه كارل بتعبير معقد ومربك.
“لم…..لم أعطه لك كي تستخدميه لأنفكِ..…”
ومع ذلك، استخدمته بكفاءةٍ مذهلة.
عبس كارل وهو يضغط على جسر أنفه، وملامحه تقول أنه كان يريد قول أشياء كثيرة.
“سأغسله جيدًا وأُعيده لك، فلا تقلق.”
قالت سيان ذلك وهي تمسح آخر دموعها حتى لم يتبقَ شيء. عندها، ارتاح وجه كارل قليلًا وأومأ برأسه.
هل ظن أنها ستعيد له المنديل كما هو بعد أن نفّت فيه أنفها بهذا الشكل؟
نظرت إليه بنفاذ صبر، لكنها فجأة لاحظت رائحةً مألوفة تتصاعد من المنديل الذي استخدمته لتوّها. ر لقد تعرّفت دون قصد على رائحة كارل الشخصية.
بدا عليه الحذر وكأنه يتحسس ردّة فعلها، وكأن في نفسه شعورًا بالذنب. ففتح فمه وسألها، محافظًا على مسافة محرجة بينه وبينها لا تتجاوز شبرين.
“…..لا أعلم.”
“إن كان الأمر يزعجكِ، يمكنكِ الرفض. لا بأس. لكن أن تنهاري من البكاء لمجرّد أنني ذكرت الأمر…..هذا كثير..…”
يبدو أن كارل اعتقد حقًا أن بكاءها كان بسبب اقتراحه الذهاب إلى العاصمة، وكان واضحًا من ملامحه أنه يشعر بالذنب، ويقول كلامًا لا يؤمن به لمجرد محاولة التخفيف عنها.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات