خرجت من سيان تنهيدةٌ طويلة من بين شفتيها دون أن تشعر.
“…..التظاهر بالجهل لا يجدي نفعًا، أليس كذلك؟ حتى لو لم تتدخلوا مباشرةً في شؤون الإمبراطورية، إلا أن المعبد يعلم بكل شيء.”
بدلًا من الرد على كلمات سيان المليئة باليأس، اكتفت الكاهنة الكبرى بابتسامةٍ دافئة أخرى.
“إن لم تكوني ترغبين في تناول الطعام، فهل تفضلين كوبًا من الشاي؟ أو ربما جولةً في أرجاء المعبد؟”
“وإن تهربت، فستواصلين ملاحقتي مثل الآن، صحيح؟”
‘ما هذا الحظ العجيب مؤخرًا مع أصحاب المقامات العالية؟’
تمتمت سيان بذلك في نفسها بفتور، ثم سألتها.
و الكاهنة لم تجب بالكلام، بل اكتفت بضحكة مكتومة خافتة، لكن سيان لم تكن بحاجة إلى سماع الجواب لتفهم أنه تأكيد.
“حسنًا، أريني الطريق. وبما أنكِ انتظرتِ طويلًا، فمن الأفضل أن نذهب إلى أعمق وأخفى مكان في هذا المعبد الواسع. فلا بد أن لديكِ الكثير لتقوليه.”
“ذكيةٌ كما توقعت. تفضلي واتبعيني، سأريكِ أجمل مكان في معبد التنين.”
رغم أن الحجاب الطويل الذي ينسدل حتى قدميها كان يعيق حركتها، إلا أن الكاهنة الكبرى مشَت بخفة وسرعة، حتى أن سيان وجدت صعوبةً في اللحاق بها.
أعمدة ضخمة نُحتت عليها أشكال التنانين في كل زاوية، جدران وأرضيات ناصعة البياض، ونباتات خضراء تظهر هنا وهناك.
كان المعبد، المحجوب تمامًا عن أعين غير المصرح لهم، أكثر اتساعًا بكثير مما خُيّل من بوابته الأمامية.
أما الداخل فكان أنيقًا إلى حد الغرابة، ممراتٌ وصالات وغرفٌ فارغة لا يُعرف الغرض منها، كلها متشابهةٌ لدرجة أن من يسير بلا هدف قد يضيع بسهولةٍ و يتوه.
“…..واو.”
بعد أن دارت في ممراتٍ متشابهة لا تُحصى، يمينًا ثم يسارًا، ثم إلى الأمام، حتى فقدت القدرة على التمييز أو التذكّر، وشارفت على فقدان صوابها، فُتح أمام عيني سيان مشهدٌ جديد تمامًا.
لم تكن كلمات الكاهنة الكبرى، حين وعدت بأن تُريها أجمل مكان في المعبد، مجرد مجاملة.
بأشعة الشمس المنسكبة، رائحة الغابة العذبة والماء النقي.
المكان الذي فُتح أمامها من نهاية الممر لم يكن إلا حديقةً غنّاء لم ترَ سيان مثلها قط، على الرغم من أنها جابت أغلب أرجاء الإمبراطورية.
“من هذا الاتجاه.”
سمعت صوت خرير الماء. بينما مدّت الكاهنة يدها وهي تمشي بخفة بين ممر صغير شقّ طريقه وسط الزهور المتفتحة بكثافة، وصوتها العذب ينساب بأناقة.
لم تكن هناك حاجةٌ لأن تمسك بيدها، هذا ما فكرت فيه سيان للحظة، لكنها رغم ذلك أمسكت يد الكاهنة دون اعتراض.
كانت حرارة يدها أعلى بكثير من حرارة يد الإنسان العادي. و لم تكن تعرف إن كان ذلك فقط بسبب ارتفاع درجة حرارة جسدها، أم لأنه شيء يميز كهنة التنانين.
“هذا المكان يحمل معنى عظيمًا. حتى بين من يعيشون في المعبد، لا يُسمح إلا لعدد قليل جدًا من الأشخاص بالوصول إليه.”
تجمدت تعابير سيان للحظة.
كل ما قصدته هو الذهاب إلى مكان لا أحد فيه، لكن أن يتم إحضارها إلى منطقةٍ ممنوعٌ دخولها على معظم الناس…..
“…..أليس من الخطير أن تحضري شخصًا من الخارج إلى مكان كهذا؟”
“بدقة، أنتِ لستِ من الخارج. أنتِ فقط تزورين هذا المكان للمرة الأولى.”
“…….“
لم تجد سيان ما تقوله، فصمتت أمام كلام الكاهنة.
كانت الأصوات الباردة لمياه متدفقةٍ تملأ أذنيها، وعطر الأزهار الحلو يتسلل إلى أنفها برقة.
وبينما تعبران ممرًا ضيقًا تحيط به الأعشاب والزهور من الجانبين، انكشفت أمامهما مساحةٌ واسعة.
وفي مركز تلك المساحة، وقفت شجرةٌ ضخمة هائلة.
كان جذعها غليظًا لدرجة أن عدّة بالغين لو حاولوا تطويقه بذراعهم لما استطاعوا، وأغصانها الممدودة إلى كل الجهات امتدت كأنها سقفٌ وارفف تُظلّل كل ما تحتها.
فقدت سيان الكلمات ونظرت إلى السماء. بينما تتسلل أشعة جميلة لامعة بين أوراق الأشجار المتشابكة.
رغم أن المكان حديقة داخل المعبد، إلا أن نسيمًا مجهول المصدر هبّ وحرّك خصلات شعر سيان.
كان مكانًا جميلًا وساحرًا كما قالت الكاهنة الكبرى.
“هل تعلمين ما هو هذا المكان؟”
“……لست متأكدة.”
نظرت سيان إلى الكاهنة الكبرى بينما كانت تستقبل النسيم الغامض. فابتسمت الكاهنة الكبرى بلطف.
“إنه المكان الذي غرس فيه يغدراسيل، مؤسس الإمبراطورية، سيفه لأول مرة بعد أن هزم التنين الأسود فيغدراسيل.”
“أها….؟”
“السيف الذي غرسه يغدراسيل ترسخ في الأرض وتحول إلى هذه الشجرة الجميلة والعظيمة. و الدم الذي نزفه التنين الأسود فيغدراسيل حينها، أصبح أصل النهر الأحمر الذي يمثل الحدود الجنوبية للإمبراطورية ويمتد حتى جنوب إيفاريد.”
كانت سيان تعرف أسطورة النهر الأحمر في جنوب الإمبراطورية، لكنها تسمع لأول مرة أن سيف يغدراسيل قد أصبح شجرة.
تأملت سيان الشجرة العملاقة باهتمام، كانت ضخمةً وجميلة، لكنها لم تجد فيها ما هو مميزٌ بخلاف ذلك.
“هل أحضرتني إلى هنا فقط لتريني هذه الشجرة؟”
توقفت الكاهنة الكبرى عن السير وضمّت يديها، ثم نظرت إلى سيان.
“…..كل من يُقدَّر له أن يكون سيدًا للتنين يمر من هذا المكان.”
التفتت سيان وهي تتأمل الأغصان والأوراق التي تملأ السماء، والضوء المنعكس الذي يتساقط بغزارة.
“الذين اختارهم التنين، جميعهم نالوا اعترافًا بأنهم سادة التنين الحقيقيون تحت شجرة يغدراسيل.”
عندها، ارتسمت ابتسامةٌ ساخرة على شفتي سيان.
“أنتم لا تجهلون شيئًا في هذا المعبد، أليس كذلك؟”
“لذلك جاء سيد إيدلين إلى هنا أولًا. لأنه لا يوجد مكانٌ آخر يمكنه أن يصدّق براءته.”
ضحكت الكاهنة الكبرى. فبادلتها سيان الابتسامة، ثم جمعت خصلات شعرها المتطايرة في مهب الريح وأمسكتها.
“…..إذاً، فلا بد أنكِ تعلمين هذا أيضًا. أنني لا أرغب بالعيش كسيدةٍ للتنين.”
ولهذا السبب، لم تفكر حتى مرةً واحدة في البحث عن ذلك المكان.
عند صوت سيان الخافت، ارتسم انحناء رشيقٌ عند طرفي عيني الكاهنة.
“امرأة، رجل، من العائلة المالكة أو من عامة الشعب…..لا أحد يُولد وقد اختار حياته مسبقًا.”
“لكن خلال الحياة، أنا من يقرر الطريق الذي أسلكه.”
“العامة لا يمكن أن يصبحوا من العائلة المالكة، ومن لم يختره التنين لا يمكنه أن يصبح سيدًا له. وبالمقابل، من اختير ليكون سيدًا للتنين لا يمكنه أن يتخلى عنه.”
ضيّقت سيان عينيها بلا شعور ونظرت إلى الكاهنة.
في كلام الكاهنة كان هناك معنى مزدوج. سيان التي اختيرت لتكون سيدةً التنين لكنها رفضت أن تعيش معه، وريفينانت التي أرادت أن تكون سيدةً للتنين لكنها لم تُختَر، فتحولت إلى صيادة تنانين ملتوية.
ما تعرفه سيان، تعرفه الكاهنة أيضًا. وعندما سمعت كلماتها الغامضة، تأكدت سيان من ذلك، فعبست قليلًا وابتسمت ابتسامةً باهتة.
“إذًا، كنتِ تعلمين أيضًا أن قاتلة إلينا هي ريفينانت.”
“…..الحياة التي تسير ضد ما هو طبيعي، لا بد أن تترك آثارًا جانبية دائمًا.”
“آثار جانبية؟! هذا تعبيرٌ لا يرقى أبدًا لوصف أمر عظيم مثل اغتيال ملك التنانين.”
ضحكت الكاهنة الكبرى بخفة.
“نحن نعرف كل شيء، لكن ما يمكننا فعله محدود. التنين العظيم يغدراسيل هزم التنين الأسود، وغرس سيفه في هذه الأرض، ثم اختار أن يعيش بين البشر. و تزوج امرأةً بشرية وأنجب نسلًا، ومن هنا بدأ نسل العائلة الإمبراطورية، حيث لا يمكن لأحد اعتلاء العرش إلا إن كان سيدًا للتنين.”
“….…”
“هذا المكان هو المعبد الذي أقامه قبل أن يتحول إلى هيئة بشرية، وقد وضع فيه كل قوته السحرية لحماية الإمبراطورية والعالم. لذلك، فهو متصل بالإمبراطورية، لكنه في الوقت ذاته منفصلٌ عنها.”
حكاية تقليدية مملة. هكذا وصفت سيان حديث الكاهنة المطول.
“تنين الإمبراطور قُتل على يد صياد تنانين أراد أن يصبح سيدًا للتنين لكنه لم يستطع. أليس هذا سببًا كافيًا ليتدخل المعبد الذي يحمي التنانين بشكل مباشر؟”
“ليس بالأمر الجلل لدرجة تهدد ركائز السلام. القانون الذي وضعه المعبد، الأول والوحيد الذي فوق قوانين الإمبراطورية، هو قانون الابن البكر. لا يمكنك تخيل كم من دماء التنانين سُفكت قبل أن يُسن هذا القانون.”
ضيّقت سيان عينيها بحدة عند كلمات الكاهنة.
هل ما حدث لا يُقارن بالأهوال الماضية إلى هذه الدرجة؟
سيان كانت تعرف ذلك بشكل عام. قبل سنّ قانون الابن البكر، كانت العائلة المالكة تعاني من صراعات دامية على الحكم.
لو أن سيدًا واحدًا للتنين وُلد في كل جيل، لكان تعيين ولي العهد أمرًا بسيطًا، لكن ذلك كان نادر الحدوث.
الكثير من أبناء العائلة المالكة، الذين يحملون دم يغدراسيل، تم اختيارهم من قبل التنانين. وعندما يظهر أكثر من سيد تنين في جيل واحد، كانت الحروب الأهلية على العرش تندلع بشكل شبه حتمي.
ولإعادة التوازن إلى العالم الذي بدأ ينهار بسبب تلك الحروب، أعلن المعبد قانون الابن البكر، فتوقفت أخيرًا تلك الصراعات الدموية بين أفراد العائلة.
لكن السلام لم يدم طويلًا، فالبشر الماكرون سرعان ما وجدوا ذريعةً جديدة للنزاع.
بما أن الابن البكر الذي يُختار من قِبل التنين وحده يمكنه اعتلاء العرش الإمبراطوري، فقد فكروا بالعكس، فلنجعل الأمير الذي يختاره التنين هو الابن البكر.
لذلك، كان من يولد كولي عهد منذ البداية، بصفته الابن البكر، يتعرض لكل أنواع الأخطار.
لم تكن هناك راحةٌ حقيقية، بل مجرد سلام زائف يبدو كأنه موجود فقط من أجل المظاهر.
‘…..ذلك النظام اللعين.’
ضحكت سيان بسخرية وركلت حجرًا صغيرًا تحت قدمها دون سبب واضح.
ثم تدحرج الحجر فوق العشب بخفة دون أن يصيب الكاهنة الكبرى أو يفسد المشهد الساحر حول الشجرة العجيبة.
و راودها شعور بأن ذلك الحجر لا يختلف عنها كثيرًا، فارتسمت ابتسامةٌ ساخرة باردة على طرف شفتيها من جديد.
“إذاً، بما أنكم في المعبد تعرفون كل شيء، فماذا تريدون مني بالضبط؟ أن أعود إلى العاصمة، حيث لا أحد يريدني؟ ما هو الخيار الذي لن يُحدث ما تسمونه آثارًا جانبية، بل يتماشى مع النظام الطبيعي؟”
ظلت الكاهنة الكبرى واقفةً من بعيد، يديها متشابكتين، ثم انحنت برفق برأسها.
“الاختيار لكِ وحدكِ.”
“ماذا تقولين؟ ألم تقولي قبل قليل أن من اختاره التنين لا يمكنه أن يتخلى عنه؟!”
قطّبت سيان جبينها بوضوح وهي تنظر إليها. فانفجرت الكاهنة الكبرى ضاحكةً بصوت عالٍ.
“أوه، سيان…..مثلما كان يجب على سيد إيدلين أن يأتي إلى هنا عند تعرضه للخطر، كان عليك أنتِ أيضًا أن تأتي أولًا إلى هذا المكان. لكنك أنكرْتِ كونكِ سيدة للتنين، وبدلًا من ذلك تهتِ في هذا العالم.”
“….…”
“ربما تظنين أنكِ حصلتِ على الكثير، وأنكِ أصبحتِ أقوى بكثير بفضل كل ما مررتِ به، لكن اسألي نفسكِ بصراحة…..من أجل ماذا أصبحتِ قوية؟ ولماذا تهتِ في هذا العالم طوال ذلك الوقت؟ وماذا تبقى لكِ الآن؟”
نظرت سيان إلى الكاهنة الكبرى، التي كانت تعرف حتى اسمها الحقيقي الذي لم تصرّح به، وقبضت شفتيها بقوة.
بينما كانت عين الكاهنة الذهبية كانت تشع بدفء حنون.
“…..من ينكر وجوده لا يمكنه أن يملك شيئًا. المعبد لا يسعى لفرض حياة سيدة التنين عليكِ، بل فقط يرجو أن تجدي الطريق الذي يجعلكِ سعيدة.”
“أنا سعيدة بما أنا عليه الآن.”
ردّت سيان بنبرة تشبه نبرة مراهق، كردّ على النظرة الدافئة في عيني الكاهنة، تلك النظرة التي شعرت وكأنها رأتها في مكانٍ ما من قبل.
ابتسمت الكاهنة بلطف، وكأنها تدرك جيدًا حقيقة تلك الكلمات، لكنها لم تقل شيئًا، واكتفت بهزّ رأسها بتسامح.
“إن كنتِ كذلك، فاسلكي هذا الطريق. كما قلتِ بنفسكِ، اختيار طريق الحياة يعود إليكِ وحدكِ.”
_____________________
لا يكون سيان مطرودة عشانها ماتبي تصير سيدة تنين؟
يا حمير مب على كيفكم البنت تشوف ان سيد التنين حياته صعبه ماتبي يعني عادي خلها زي كذا تحاكيه من بعيد لبعيد
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات