حرّك كارل حاجبيه ولمس خصره بهدوء.
كانت الجراح قد التأمت تقريبًا ولم تعد تؤلمه، لكن كان هناك شعورٌ بالوخز كان لا يزال يراوده، ربما بسبب حالته النفسية.
ومهما كرر ولي العهد القول بأن ما حدث لم يكن بإرادته، فإن الاستياء من مجيئه إلى إيفاريد مصطحبًا جميع التنانين دون شرحٍ كافٍ لما حدث أو تفسير لما كاد يودي بحياته، لم يكن ليتلاشى بهذه السرعة.
[تم العثور على حراشف إيدلين على جثة ملكة التنانين إلينا.]
توقف كارل فجأةً عن لمس الندبة التي شُفيت تمامًا عندما سمع صوت ولي العهد يكمل الحديث.
“…..ماذا تقول؟”
[لهذا السبب، عمت الفوضى مجلس النبلاء. ولكي أُسكت الاعتراضات، لم يكن أمامي سوى التوجه فورًا إلى إيفاريد.]
“لكن، كيف وصلت حراشف إيدلين إلى هناك..…”
قال كارل ذلك متلعثمًا وقد ارتبك بشدة.
مرّ أكثر من عشر سنوات منذ أن غادر الأمير كارلستون كلاوس العاصمة بعد أن مُنح منطقة إيفاريد – التي لم تكن آنذاك سوى أرضٍ قاحلة – كإقطاعٍ خاص به. و كان الإمبراطور، الذي طالت به العلة الآن، لا يزال في كامل قوته حينها.
رغم أنه عاد إلى العاصمة مراتٍ قليلة في شؤون خاصة خلال تلك الفترة، إلا أن كارل لم يصطحب إيدلين معه ولو لمرةٍ واحدة.
ولهذا، فإن العثور على حراشف إيدلين على جثة ملكة التنانين، رفيقة الإمبراطور، لم يكن مجرد أمرٍ غير متوقع، بل كان صدمةً حقيقية.
إذًا لهذا السبب جلب التنانين جميعها إلى هنا دون إذن من المعبد.
نظر كارل بذهول يكاد يلامس الذهول التام نحو ناثان الذي كان قد تجسد أمامه، وجبينه معقود من شدة الصدمة.
[سأسألكَ فقط للاطمئنان…..لكن، هل يمكن أن تكون أنتَ من فعل هذا حقًا؟]
“أخي، لو كنت أطمع في العرش، لما كنت سأبذل روحي في إعادة إعمار إيفاريد بذلك الشكل. أنا سيد إيدلين، وسأبقى لورد إيفاريد، لا أكثر.”
أجاب كارل بصوتٍ منخفض وقد تجمّد تعبيره، لكن نبرة صوته الهادئة كانت مشبعةً بالارتباك والمرارة والصدق الصادق.
[صحيح…..الدليل فاضحٌ لدرجةٍ تبعث على الشك. حتى أنا لا أصدق أنكَ فعلت ذلك. فمهما بلغ بك التهور، لا أظنك ستصل إلى هذا الحد-]
“كلماتك ما زالت قاسيةً كما عهدتكَ، أخي.”
قاطع كارل كلام ولي العهد وفتح عينيه على اتساعهما.
أما سيان، الذي كانت تستمع لحديثهما، فقد غطت شفتيها بيدها دون أن تشعر.
‘…..مهلًا، على عكس ما كنت أسمع، يبدو أنهما أخوان مقربان بالفعل؟’
كان ذلك مفاجئًا.
نظرًا لأن أسطورة تأسيس الإمبراطورية بدأت من التنين الفضي “إغدراسيل” الذي هزم التنين الأسود “فاغدراسيل”، فقد ترسّخت لدى الناس قناعةٌ راسخة أن لون التنين كلما اقترب من الفضي الفاتح كان أقدس،
وأن الأسود شر، والأبيض خير.
وبالتالي، فقد اعتُبر ناثان، تنين ولي العهد ذو الحراشف الأرجوانية، أقل نقاءً من إيدلين، التنين الفضي الذي يملكه الأمير كارلستون، رغم أنهما من أبناء الإمبراطور.
ولهذا السبب، تعقّدت مسألة وراثة العرش التي كان من الممكن أن تمر بسلام في ذلك العصر.
ففي تاريخ الإمبراطورية الطويل الذي تجاوز 1500 عام، كثيرًا ما اندلعت حروبٌ أهلية بين الإخوة من أجل العرش، إذ كان كل من امتلك تنينًا من أبناء الإمبراطور يرى نفسه الأحق بالحكم.
ونتيجةً لذلك، أصدر معبد التنانين – الذي لم يكن يتدخل في شؤون الإمبراطورية قط – أول وآخر قانونٍ يتدخل فيه لصالح الدولة، وكان ذلك القانون هو،“قانون وراثة العرش للأبكر من الذكور”.
وبموجب ذلك، كان الابن الأكبر للإمبراطور، هندريك كلاوس، هو مالك التنين الأرجواني ناثان منذ ولادته، وبالتالي كان هو الوريث الشرعي التالي للعرش.
لكن الأمير الثالث، كارلستون كلاوس، الذي وُلد بعد الأمير الثاني غير المختار غاري كلاوس، قد تم اختياره من قبل إيدلين – التي أعلنت بنفسها في عامه الرابع أنها من سلالة إيغدراسيل – لتكون تنينه وتتخذه سيدًا لها.
حتى ذلك الحين، لم يكن هناك من يشكك في نقاء ناثان، التنين الأرجواني الخاص بولي العهد، بل كان يُبجل. ولكن تلك النظرة بدأت تتغير مع ظهور إيدلين، التي يمكن مقارنتها بناثان.
فعندما لم يكن هناك من يُقارَن به، كان يُعد الكائن الأفضل، لكن بظهور تنين آخر مثل إيدلين، تغيّر الوضع تمامًا.
فمقارنةً باللون الفضي الأقرب إلى البياض، كان اللون الأرجواني الممزوج بألوان متعددة يبدو أقرب إلى السواد، اللون المرتبط بالشر.
وهكذا، وجد ناثان نفسه يُتهم بأنه “هجين” رغم كونه تنين ولي العهد، بينما بدأ البعض يقدّس الأمير الأصغر كارلستون، معتبرين أنه السيد الحقيقي للعرش لأنه مالك إيدلين، وريثة إيغدراسيل.
الإمبراطور باستيان، الذي كان يملك تنينًا أحمر، لم يكن يرغب في اندلاع صراع داخلي. فقام بتعيين هندريك، مالك ناثان الأرجواني، وليًا للعهد على عجل.
وفي الوقت نفسه نَفى الأمير الأصغر كارلستون، الذي لم يكن قد تجاوز العاشرة من عمره، إلى منطقة إيفاريد القاحلة التي لا تختلف كثيرًا عن أرض خراب، وأعطاها له كإقطاع.
وكان قد أعلن مسبقًا أنه سيمنح الأمير الثالث كارلستون كلاوس لقب الدوق بمجرد بلوغه سن الرشد، وبذلك يفصله رسميًا عن العائلة الإمبراطورية ويسقط عنه حق وراثة العرش.
لكن المشكلة بدأت عندما انهار الإمبراطور قبيل حفل بلوغ كارلستون، ولم يستفق بعدها.
وبسبب ذلك، لم يُمنح لقب الدوق أبدًا، ونتيجةً لذلك، لا يزال كارلستون كلاوس يحتفظ بكامل حقوقه في وراثة العرش، بوصفه الأمير الثالث للإمبراطورية وسيد إيفاريد.
وحدثت اضطراباتٌ من جديد بسبب ذلك.
ظهر من يزعم أن الأمير الذي يمتلك إيدلين هو القدَر الحقيقي لوراثة العرش، وسرعان ما انتشرت شائعاتٌ بأن ولي العهد يحسد الأمير الثالث.
كان من المعروف على نطاق واسع – حتى لدى سيان، التي لا يتعّد كونها أحد رعايا الإمبراطورية – أن العلاقة بين ولي العهد هندريك، صاحب الحق الأول في وراثة العرش، وبين الأمير كارلستون، صاحب الحق الثاني، كانت سيئةً للغاية.
لذا، حين سمعت لأول مرة أن ولي العهد هندريك كلاوس قد هاجم إيفاريد، لم تفاجأ كثيرًا بالأمر.
‘…..والآن بعد أن أفكر في الأمر، لم يتحدث كارل يومًا بالسوء عن شقيقه ولي العهد.’
شعرت سيان متأخرةً أنها بحاجة إلى إعادة تقييم موقفها من ولي العهد هندريك كلاوس.
[على كل حال، سأدخل في صلب الموضوع يا كارل.]
وبينما كات سيان غارقةً في التفكير، فتح ولي العهد فمه متحدثًا، متجسدًا في هيئة ناثان.
[عُد إلى العاصمة.]
رفعت سيان بصرها ونظرت إلى ناثان ذي العينين الذهبيتين. و رأت كارل يعبس بوضوح، ثم ما لبث أن ارتسم على شفتيه ابتسامةٌ ساخرة خفيفة.
“في ظل هذه الظروف؟ أياً كانت الأسباب، إن وُجدت حراشف إيدلين على جثة إلينا، فلن يصدق أحدٌ براءتي.”
[اذهب إلى معبد التنانين واحصل على شهادة تثبت أنكَ لا علاقة لك بموت إلينا. مجلس النبلاء ينتظر تصريحًا رسميًا من المعبد، لكن إن أتيتَ بنفسك بشهادة تؤكد براءتكَ من المعبد، فإن قرار معبد التنين يعلو على القانون الإمبراطوري، وحينها لن يجرؤ أحد على اتخاذ أي خطوة متهورة، حتى لو استمر البعض في الثرثرة.]
‘هذا منطقيٌ تمامًا.’
راحت سيان تعبث بشفتيه بلا معنى وهي تستمع إلى كلمات ولي العهد.
“لكن بالتأكيد ستُثار ضجة.”
قال كارل ذلك بصوت مطابق تمامًا لما كانت تفكر فيه سيان، دون أن يغير فيه حرفًا واحدًا.
[هذا ما أريده بالضبط. لا نعرف من هو القاتل الحقيقي الذي قتل ملكة التنانين، لكن بما أن دليلاً بهذا الوضوح قد ظهر، فلابد أن الجاني يتوقع أن يصدر المعبد أمر توقيف بحقكَ أيضًا. لذا، إن جئتَ بنفسكَ وتسببت في إثارة الجلبة، فربما يظهر هو أيضًا ثغرةً ما.]
“تريد مني أن أكون الطُعم؟”
قال كارل ذلك وهو يضحك بسخرية، غير مصدق ما يسمع.
‘إنه يضع خطةً جريئة بالكامل.’
فكرت سيان بذلك في نفسها، وقد بدا عليها الانبهار وهي تصغي إلى حديث كارل وولي العهد.
[ألست تملك أيضًا شكوكًا؟ حول من هو القاتل الحقيقي لملكة التنانين؟]
“…….”
عبس كارل، وتذكر وجهًا باهتًا مضى عليه زمن طويل ولم يعد يتذكره بوضوح.
دانييل كلاوس.
كان أميرًا في العهد السابق، لكنه نُزع من العرش حين تولّى باسيتيان الحكم، وحصل على اسم جديد “غريغوري” ونُصّب كماركيز.
وأنطونيو كارتر. كان من عامة الشعب، لكنه نال مكانة فارس بين النبلاء بعدما اختاره أحد التنانين.
[الآن، بعد مقتل ملكة التنانين، لا أحد يثق بي ثقةً تامة. لكنهم لا يثقون بكَ ثقة تامة أيضًا. الوضع الحالي لا يصبّ في مصلحة أيٍّ منا.]
“إذًا، هل هذا يعني أنكَ استبعدتم أن أكون أنا من فعلها؟”
[هذا أيضًا…..ثم إنك لستَ من النوع الذي يبذل كل هذا الجهد، أليس كذلك؟]
“…..هذا قاسٍ فعلًا.”
تذمّر كارل بصوتٍ منخفض، بينما كتمت سيان ضحكتها وهي تضغط على أسنانها حتى لا تنفجر.
أما ريكايل، الفارس الإمبراطوري، فظل بوجهه المتجهم الخالي من التعابير، محافظًا على جديته.
‘يا له من أمرٍ مدهش…..كيف له أن يتحمّل كل هذا؟’
أُعجبت سيان بإخلاصٍ في ولاء ريكايل.
[الماركيز جاء إليّ بنفسه، واقترح استدعاء صياد تنانين سابق لملاحقتكَ. ظاهريًا، ادّعى أنه يريد إحضاركَ في أسرع وقت ومعاقبتكَ لإخماد الشائعات التي تحيط بي، لكن…..]
“صياد تنانين؟”
نطقت سيان بذلك بلا قصد بصوتها وهي تكرر كلمات ولي العهد المتجسد في جسد ناثان.
فاستدارت عيناه الذهبيتان، اللتان كانت تحدقان بكارل، نحو سيان.
[امرأة؟]
“……آه.”
سارعت سيان بتكميم فمها متأخرةً، لكن الأوان كان قد فات.
“أعتذر، صاحب السمو ولي العهد.”
لقد نطقت بذلك برد فعل غير مقصود عند سماعها عبارةً توحي بنبرةٍ مريبة، كانت كأنها معروفة وليست معروفةً في آن واحد.
[ومن تكونين؟]
طرح ولي العهد سؤالًا طبيعيًا تمامًا. فأطبقت سيان شفتيها بقوة، وكادت تصدر عن فمها أنيناً من شدة الحرج.
و ظلت تتساءل كيف ينبغي أن تُعرّف نفسها.
لو قالت أنها مجرد مرتزقة، سيسألها لماذا إذًا تتواجد مع الأمير؟ وستتشعب الأمور أكثر فأكثر.
لهذا قالت منذ البداية أنها لا تريد القدوم، فلماذا أصرّ كارل على جرّها إلى هنا…..
انشغل ذهن سيان بالتفكير، بينما ألقت بكامل نظرها نحو كارل بنظراتٍ تفيض باللوم.
“صاحب السمو.”
في تلك اللحظة، تدخل ريكايا – الذي ظل صامتًا كأنه غير موجود – لأول مرة. فتحوّل نظر ولي العهد المتجسد في جسد ناثان نحوه.
رفع ريكايا يديه بشكل لا يُرى من زاوية سيان، واتخذ حركةً ما بيده.
…..ما هذا؟
أمالت سيان رأسها باستغراب.
[….أهو كذلك..…]
عندها أبدى ولي العهد نفس ردّ الفعل الذي أبداه عندما همس كارل في أذن ريكايل.
لم يكن ناثان ينقل تعابير وجه ولي العهد، لكن سيان فهمت من نبرة صوته المنخفضة أن ريكايل استطاع أن يبلغه شيئًا بالإشارة جعله يقتنع.
‘ما الأمر؟ بحق، بماذا اقتنع هؤلاء الرجال عني؟’
اجتاحها شعورٌ مريب على نحو مفاجئ. فبدأت سيان تحدّق في كارل بنظراتٍ غاضبة، لكن كارل أدار رأسه بزاوية غريبة ولم يلتفت إليها، وظل يحدق في ناثان متجاهلًا تمامًا ما يحدث، وكأنه لا يعلم شيئًا.
‘هناك شيءٌ ما.’
كادت أن تتطاير شراراتٌ من عيني سيان بسبب هذا التجاهل.
“اسمها سيان، يا أخي. هي من أنقذت حياتي عندما كنتُ بين الحياة والموت، ومُنقذتي التي ساعدتني كثيرًا حتى أتمكن من الوصول إلى المعبد. إنها مرتزقةٌ ذكية وشجاعة.”
[…..امرأة مرتزقة إذًا؟]
رد ولي العهد بنبرةٍ فضولية حين قدّم كارل سيان بهذه الطريقة.
“أعتذر. لا تهتموا لي، أكملوا حديثكم..…”
انحنت سيان برأسها خجلًا.
مرتزقةٌ تجرأت على حضور لقاء بين ولي العهد والأمير، بل وتدخلت في الحديث أيضًا؟ لو أنّ صراخًا انطلق في وجهها الآن، لما وجدت ما تدافع به عن نفسها.
لكن ردّ ولي العهد كان مفاجئًا تمامًا.
[ولماذا أظهرتِ ردّ فعل خاص حين ذُكر “صياد التنانين”، يا آنسة سيان؟]
“منذ متى أصبحت الآنسة سيان؟ يا أخي..…”
تذمّر كارل متذمرًا وهو يتدخل، فقد بدا اللقب الرقيق الذي استخدمه ولي العهد وكأنه نابع من لطفٍ مقصود، وليس غضبًا كما توقعا.
_________________
هممم شكل لسيان سالفه مع صايدين التناين بعد؟
المهم يوم جابوا طاري التنين الاسود مدري ليه حسيت تنين سيان اسود 😃
وشسمه طيب وش قال كارل عن سيان غششش
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 37"