“إذا استأجرنا عربةً من هنا، قد يتم تعقبنا لاحقًا من خلال سجل الشراء، لذا من الأفضل أن نغادر إيفاريد ونشتري العربة من أول مدينةٍ نقابلها.”
فالعربات والخيول تُعد من السلع الفاخرة التي لا يحلم بها عامة الناس. أما الأشياء الصغيرة فقد تمر دون ملاحظة، لكن المعاملات المرتفعة الثمن قد تثير الشكوك ويتم تعقبها.
قال كارل ذلك بعد أن أخذ كل هذه الأمور في الحسبان، فمال ماكس رأسه باستغراب.
“هل سيصل بهم الأمر حقًا إلى تعقبنا؟ إنها مخازنٌ سرّية لا يعلم بها أحدٌ سواكَ، سموّك، وحتى إن سُرقت…..أعني، حتى إن كانت فارغة، فلن يعرف أحد.”
“مع ذلك، لو اختفين النساء اللواتي قدمن إلى القصر لطلب العمل فجأة، قد يتساءلون عن السبب. لقد وفروا لهن حتى غرف الخادمات، وكانوا يبدون اهتمامًا واضحًا بهن. لذا من الأفضل ألا نترك أي أثر، لا دلائل ولا شكوك ولا حتى أدنى دليل. لنفعل كما قال كارل، فهو الأضمن.”
“حسنًا.”
دعمت سيان رأي كارل، فأومأ ماكس موافقًا.
“لكن..…”
كان ذلك عند بوابة القلعة الخارجية لإيفاريد، حيث اجتمع أعضاء فرقة “مخلب التنين” المرتزقة في المكان المتفق عليه، وكلهم يرتدون ملابس براقةً وأنيقة.
“ما هذا؟ هل أنتم نبلاء فارّون من الحرب أم ماذا؟ ما هذه الهيئة؟”
قالت سيان وهي تعقد حاجبيها وتتأمل رجال الفرقة واحدًا تلو الآخر.
كان أحدهم لا يزال يرتدي ملابسه الرثة المعتادة لكن زاد عليها قبعةً فاخرةً بريش مرفوع، وآخر أبرز حزامه الجديد بتفاخر، وآخر يرتدي حذاءً جديدًا…..
كان المشهد وكأنهم يتفاخرون بثروةٍ سقطت عليهم فجأة.
لو بالغوا في التأنق من الرأس حتى أخمص القدمين لكان المنظر متناسقًا على الأقل، لكن ترف الفقراء المعتادين على حياة البؤس لا يتجاوز هذا الحد.
كانت هيئة أولئك الذين بلغوا حدود الترف العشوائي في أماكن غير مناسبة مضحكةً للغاية.
لقد كانت حياة الفقر التي اعتادوها شديدةً وقاسية إلى هذا الحد. و حتى عندما امتلكوا المال، لم يعرفوا كيف ينفقونه بشكلٍ سليم.
“وهل أنتما، سيان وأخي، خرجتما في جولةٍ تفقدية من أحد بيوت النبلاء؟”
قال الطبيب جيفي ذلك، الذي كان يرتدي لباسًا عاديًا نسبيًا، بنبرة تدل على أن ليس لها حق في السخرية، موجّهًا كلامه إلى سيان وكارل. في اللحظة التي كانت فيها سيان تهز رأسها بأسى وضحك ممزوجين.
“هذه البدلة لم أرَ مثلها من قبل، أليس كذلك يا نونا؟”
“والأقراط أيضاً أصبحت أكثر فخامة.”
“وأنتَ، أخي، أين ذهبت الملابس التي أعطيتكَ إياها؟ هذه جديدةٌ تمامًا..…”
توجهت سهام المزاح من المرتزقة نحو سيان وكارل، فنظرا إلى بعضهما دون قصد، ثم سعل كلٌ منهما بصوت خافت في نفس الوقت وكأنهما يحاولان التهرب من الموقف.
مع شروق الشمس، وقبل أن يزول أثر رائحة الكحول تمامًا، كان أول ما فعله أعضاء فرقة “مخلب التنين” المرتزقة هو اجتياح منطقة الأسواق في إيفاريد.
ظاهريًا كان ذلك استعدادًا للرحيل، لكن في الواقع، كان الجميع مشغولًا بإنفاق الأموال التي حصلوا عليها فجأةً ولو بشكلٍ بسيط.
وبالطبع، لم يكن كارل و سيان استثناءً.
تخلصا من ملابسهما البالية وارتديا أزياءً جديدة تمامًا من رأسهما حتى أخمص قدميهما، وكان البذخ والرفاهية يتدفقان منهما بوضوح.
“بالنسبة لأخي، الأمر مقبول، لكنكِ تبدين كنبيلةٍ حقيقية يا سيان.”
“تبدوان وكأنكما شخصان مختلفان تمامًا.”
“كفوا عن الثرثرة.”
قالت سيان ذلك وهي تزيح شعرها المتساقط عن كتفها إلى خلف أذنها بحركةٍ رشيقة، وقد تأنقت بعد زمن طويل. كما قامت بتجميل أظافرها واهتمت بمكياجها بعنايةٍ لم تعهدها منذ مدة.
ورغم أن هذا الزينة لن تصمد طويلًا في طريقهم نحو معبد التنين، إلا أنه لا شيء يضاهي قدرتها على تحسين المزاج.
“هل قمتَ بتصفيف شعركَ أيضًا، أخي؟”
كان بيل يراقبهم بعينين لامعتين وهو يحدّق في كارل.
ثم نظر إليه كارل باستغراب وهمهم بـ”هم؟” حين لاحظ نظراته، بعدما كان مشغولاً يتأمل سيان التي كانت تتفاخر بأقراطها الجديدة المتلألئة وهي تلوّح بشعرها.
وبطبيعة الحال، تحولت أنظار باقي المرتزقة نحو كارل.
“أعني، بما أننا سننطلق في رحلة طويلة بعد زمنٍ طويل..…”
قال كارل ذلك بنبرةٍ محرجة بينما كان يمدّ يده ليعبث بشعره، ثم توقف في منتصف الحركة.
لقد كان معتادًا جدًا على الشعر المستعار الطويل الذي كان يرتديه طوال الوقت، ولم يدرك إلا متأخرًا كم يبدو فارغًا الآن حول أذنه.
“لمَ لا تعدل ياقة قميصكَ إذاً؟ إنها مجعّدة، هنا.”
“أين؟”
نظرت إليه سيان ثم مدت يدها لتعدل طيّة قميصه المجعّد.
وبما أنهما كانا نبلاء الأصل، فقد أظهرا حسًّا عاليًا في الأناقة من رأسهما حتى قدميهما، وعندما وقفا متقابلين، ظهرا بمشهدٍ متكامل مبهِر.
أي شخص يراهما سيظنهما حتمًا ثنائيًا عاطفيًا.
وقد زاد انسجامهما المريب من ضيق المرتزقة الذين لم ينسوا تصريح كارل المزلزل في اليوم السابق.
‘كأننا في مشهدٍ من رواية رومانسية..…’
وعلى الرغم من أن سيان كانت قد رفضت اعتراف كارل بصرامة، إلا أن الجو العام كان دافئًا ومفعمًا بنكهة وردية.
“كفى! لننطلق، لا أحد سيشاهدكم على كل حال، فما داعي كل هذا التأنق؟”
قال الطبيب جيفي ذلك غير قادر على تحمّل الموقف أكثر، وتدخل ليفصل بين الاثنين.
“حسنًا، هل انتهى الجميع من الاستعداد؟”
“نعم!”
قالت سيان ذلك بينما كانت تربّت على ياقة كارل بعد أن عدّلتها بعناية، ثم استدارت. وأجاب المرتزقة بحماسة.
كان الطقس اليوم رائعًا جدًا للرحلة.
“فلننطلق.”
***
“يُقال أن ضيفًا كريمًا في طريقه إلينا.”
كانت الكاهنة في المعبد قد جمعت يديها أمامها، بينما يغطيها الحجاب حتى أسفل عينيها.
على الأرضية الرخامية الرمادية اللامعة، سرت برودةٌ خفيفة.
كانت قاعة المعبد الرئيسية شاسعةً إلى حد أنها تتسع لمئات من الناس، لكنها كانت خاليةً تمامًا، باستثناء المنصة التي نُصبت عليها تمثال “يغدراسيل” التنين الأسطوري من أساطير تأسيس المملكة.
ورغم أن البرودة تسري من الأرضية، إلا أن الجو لم يكن باردًا أو مزعجًا، مما خلق شعورًا طفيفًا بالتنافر الغريب في أجواء المكان.
لم تتواجد نوافذٌ هنا، ورغم ذلك كانت الأجواء منعشةً كأنك في قلب غابة. كما أن البناء المصنوع كليًا من الرخام والجرانيت المنحوت لم يبعث أي إحساسٍ حقيقي بالبرد.
ظل ريكايل راكعًا على ركبتيه، ثم رفع رأسه ببطء ونظر إلى الكاهنة التي باتت واقفةً أمامه دون أن يشعر.
“هل تقصدين صاحب السمو الأمير كارلستون؟”
“إنه سيد التنين الفضي، إيدلين.”
عند سماعه الرد، انحنى ريكايل برأسه حتى لامست جبهته الأرض باحترامٍ عميق.
فرغم أن الجملة قد تبدو متماثلةً في معناها، إلا أن هذا المكان المقدّس هو مخصصٌ فقط لسادة التنانين.
حتى أمير يحمل حق وراثة العرش في الإمبراطورية لا يُعد هنا سوى سيدٍ لتنين.
كانت الكاهنة متقدمةً في السن، لا يظهر من وجهها إلا عيناها تحت الحجاب الأبيض الطويل المنسدل من قمة رأسها حتى الأرض. ومن التجاعيد حول عينيها، بدا أنها امرأةٌ طاعنة في السن، أما عيناها فكانتا ذهبيتين تتوهجان بهالة سحرية خافتة.
“إنه قادمٌ مع شخص ساقته الأقدار المرتبطة بمصير التنين.”
لكنها لم تكن تنظر إلى ريكايل، بل كانت تنظر خلفه، نحو البوابتين الكبيرتين المفتوحتين بشكلٍ مقوس، واللتين تفصلهما عن ساحة المعبد.
نظرتها نحو البوابة بدت وكأنها ترى ما وراءها، وكأن عينيها تخترقان الأفق.
نظراتها المشوشة التي بدت وكأنها تنظر إلى شيء ما دون أن تراه كانت أشبه بنظرات من لا يبصر أمامه.
كانت مشاعر التنافر واضحةً في الفضاء من حوله كما هي في نظرات الكاهنة، لكن ريكايل كان قد وصل إلى هذا المكان بالفعل بأمرٍ من ولي العهد وظل ينتظر الأمير منذ أسبوعين. و قد اعتاد على هذا الشعور المربك حتى بات مألوفًا لديه.
لم يكن هناك شيءٌ في هذا المكان الغامض، الذي لا يمكن حتى رؤيته من قبل الإنسان العادي، لا يثير الدهشة.
أمال ريكايل رأسه بحيرة.
“هل لديه مرافق؟”
أومأت الكاهنة برأسها ببطء.
“سيصل قريبًا، إنه شخصٌ عظيم، أرجو أن تستقبله بكل احترام.”
انحنى ريكايل برأسه مجددًا موافقًا على طلب الكاهنة، لكن تساؤلًا خطَر في ذهنه.
كان الأمير قد أصيب بجراحٍ خطيرة واختفى فجأةً بعد تصرف أنطونيو فارس التنين المتهور. و لم يعد حتى إلى إقليم إيفاريد، وقد انقطعت أخباره تمامًا.
بالطبع، انتشرت في أرجاء الإمبراطورية شائعاتٌ تفيد بأن إيدلين ظهرت في إيفاريد خلال تلك الفترة، لكن ريكايل الذي كان يقيم في معبد التنين منذ أسبوعين لم يكن على علم بذلك.
كان ينتظر الأمير فقط تنفيذًا لأمر ولي العهد الذي توقّع أن الأمير، إن كان لا يزال حيًا، فسوف يلجأ إلى المعبد الذي لا يستطيع العامة الوصول إليه.
ولم يكن من المستغرب أن تصيب توقعات ولي العهد بدقة. فحتى المعبد بدا وكأنه كان يعلم مسبقًا أن الأمير سيأتي للاحتماء به، وأن ولي العهد سيرسل شخصًا ما، فرحبوا بريكايل وكأنهم كانوا بانتظاره.
لكن ما لم يكن في الحسبان هو أن الأمير الذي اختفى بعد إصابته بجراح خطيرة قد وجد مرافقًا له وجاء معه إلى هذا المعبد العميق داخل الغابة.
والأغرب من ذلك، أن كاهنة التنين تصف هذا المرافق بأنه “شخصٌ عظيم”..…؟
***
فجأةً شعرت سيان بحكةٍ شديدة في أذنها. فعبثت بأذنها بخنصرها، لكن رغم حكها لها لم تشعر بأي ارتياح.
“هل هناك من يشتمني الآن..…؟”
تغيرت ملامح سيان إلى الجدية وهي تواصل حك أذنها.
“لهذا السبب كان عليكِ أن تعيشي بلطفٍ أكثر.”
“من؟ من الذي قال هذا الآن؟”
رشق أحد المرتزقة الجالسين في عربة البضائع الكلام كمن يرميه عشوائيًا. ففتحت سيان عينيها على اتساعهما وأخذت تتفحص الرجال من حولها، لكن الكل تظاهر بعدم المعرفة.
كانت متأكدةً أنها سمعت الصوت، لكن لم يكن هناك من يعترف.
“على أي حال، هل نحن على الطريق الصحيح فعلًا؟”
“تبًا.”
تمتمت سيان وقد بدأت تكشف عن غضبها. بينما سأل الطبيب جيفي، الذي كان يحاول تجنّب نظرات سيان، يمدّ رأسه خارج العربة ناظرًا بقلق إلى الطريق، وقد تجعّد جسر أنفه.
أعمدة الأشجار، الأغصان، الأوراق، الأعشاب، التراب، وزهورٌ برية صغيرة متناثرة بين الأعشاب المجهولة الاسم.
لم يكن أحدٌ يعرف كم مضى من الأيام وهم يرون هذا المنظر المتكرر.
في اليومين الأولين تقبّلوه على مضض، لكن ابتداءً من اليوم الرابع أصبح الطريق بالكاد يسع العربة، حتى بات الأمر وكأنهم يشقّون طريقًا جديدًا بأنفسهم.
“نعم، يبدو أننا سنضطر لترك العربة قريبًا ومتابعة السير على الأقدام، فاستعدوا لذلك.”
قال كارل بهدوء. وبما أن الطريق في الغابة أصبح ضيقًا إلى حد لا يسمح للعربة بالمرور، كان الجميع قد توقع هذا بدرجة ما.
ايييه-
عربة البضائع التي اشتروها من المدينة التالية بعد مغادرة إيفاريد كانت قد عُدّلت بالكامل لتصبح مكانًا مريحًا أقرب إلى خيمة متنقلة طوال الرحلة الطويلة.
فقد فرشوا عدة بطانياتٍ ناعمة لتخفيف أسوأ ما في ركوب العربة، لكن رغم ذلك لم يكن هناك مفرّ من ألم الظهر والمؤخرة.
مددت سيان ذراعيها إلى الأعلا.
“كم سنمشي بعد أن ننزل؟”
“…..لا أدري.”
ردّ كارل على سؤال سيان محاولًا إخفاء ملامح الحرج. فاتّسعت عينا سيان بدهشة.
“ماذا؟”
وكان ردّ فعل المرتزقة الذين راقبوا إجابة كارل مشابهًا تمامًا لردّ فعلها. فالشخص الوحيد الذي يعرف طريق المعبد هو كارلستون، سيد التنين.
ولكن “لا أدري”؟
“معبد التنين لا يمكن دخوله إلا بإذنٍ من الطرف الآخر. ربما هم يعلمون أنني قادمٌ، لكن…..من يعرف كم من الوقت سيستغرقون ليفتحوا الطريق.”
“ماذا؟”
_______________
خسارة ماجا ماضي سيان بس عنها ذي الكاهنة تعرفها✨
كارل حسبته بيستحي وسيان تزين لبسه😂
بس ضحكوني ياعمري عليهم توهم مغتنين وماعرفوا يتصرفون😭😭😭
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 34"