“ما هو جوابكِ؟”
سألها كارل بنبرةٍ ضاغطة، بعد أن لم يتبقَّ لسيان أي مبرر منطقي للرفض، ومع ذلك ظلت متمسكةً بصمتها.
و اكتفت بالنظر إلى كارل بعينين نصف مغمضتين، يملؤهما التذمر والانزعاج.
الأجواء كانت مشحونةً بشكل غريب. و الجميع كان يتساءل في صمت: لماذا تتصرف سيدتهم القوية والصريحة بهذه الحساسية الغريبة؟
وما تلك الجملة التي نطق بها كارل وكأنها مقتبسةٌ من مسرحية رومانسية من الدرجة الثالثة؟
مرتزقة الفرقة لم يتمكنوا إلا من التحديق في كل من سيان وكارل بتناوب، وسط جو من الارتباك.
وبينما كان كارل ينتظر جوابًا، أطلق هذه المرة ضحكةً خفيفة من جانبه.
“يبدو أنه لم يتبقَ أي سببٍ للرفض. لكنكِ لا تزالين غير مرتاحة…..هل هذا لأنك كنتِ تأملين أن تنتهي علاقتنا هنا؟”
“لا تتكلم بتلميحات غامضة كهذه. ما هي علاقتنا أصلًا؟ أي علاقة بيننا تقصد؟”
كان المرتزقة، الذين لزموا الصمت جميعًا، يأملون في أن يهدأ التوتر الحاد بينهما. لكن الجولة الثانية اندلعت دون أي إنذارٍ مسبق.
“الآن وقد تذكرت..…”
قال كارل ذلك بابتسامةٍ ملتوية وهو يسند ذراعيه على الطاولة وينحني بجسده قليلًا نحو سيان.
باسكال، الذي شعر بشيء مريب قادم، بادر على الفور بتغطية أذني بيل بكلتا يديه. فقد كان حدسه يخبره بأن قنبلةً على وشك الانفجار.
تشنّج جبين سان. رغم أن ابتسامة كارل البيضاء بدت مشؤومة، إلا أنها لم تتخيل أنه سيجرؤ على الحديث عما حصل في الغرفة سابقًا، وأمام الجميع من أفراد الفرقة.
لكن قبل أن تُكمل تلك الفكرة في ذهنها، خانها كارل بابتسامةٍ لطيفة وغرس الخنجر في قلب الموقف.
“لم أسمع بعد إجابتكِ على اعترافي في ما سبق.”
قال كارل ذلك بوضوح. وكان حدس باسكال دقيقًا تمامًا.
‘تبًا…..’
عضّت سيان شفتيها بقوة وهي تغلي من الغضب، فقد انفجرت النكتة التي ستلاحقها لعشر سنواتٍ قادمة.
“اعتراف؟”
“ما الذي تقصده؟”
تفجرت صيحات الدهشة من كل الجهات في وقت واحد. بينما هزّ ماكس رأسه كمن فقد اتزانه.
“ما الذي تفعلانه وسط كل هؤلاء العزّاب؟ علاقة حب؟ هل تمزحان؟”
“انتظر، طبيب جيفي. ربما لم يكن ذلك الاعتراف الذي نعتقده!”
تدخّل ماكس في محاولة يائسة لإنكار الواقع، كأنه يتمسّك بأملٍ أخير لئلا تكون الأمور فعلاً كما تبدو.
“ليس كذلك، ماكس! ما هذا الهراء الذي تقوله وكأنك شخصٌ ما جرّب الحب في حياته؟ من المرة الماضية والجو غريب، كنت أشعر أن هناك شيئًا غير طبيعي…..”
“لهذا السبب تَعرّضتَ للضرب إذاً..…”
تمتم باسكال، الذي كان يتمتع بقدر لا بأس به من الفطنة.
“تستحق الضرب فعلًا.”
“أليس من حسن حظه أنه لم يمت؟”
قال شخص آخر ذلك متفهمًا.
“اصمتوا، كفى ضوضاء. لم ننتهِ من حديثنا بعد.”
كان المكان فوضى. و لم يكن لدى سيان حتى وقتٌ لتشعر بالإحراج، بل أصبحت أكثر هدوءًا بسبب الغضب، ولوّحت بيدها مرتبةً الأجواء من حولها بطريقةٍ تليق بقائدة. فعمّ الصمت فجأة.
“نعم نعم، لا تهتموا بنا وأكملوا حديثكم. الأمر مثيرٌ لدرجة أني سأموت من الفضول.”
تمتم الطبيب جيفي بنبرة مليئة بالغيرة. وعندما رمقته سيان بنظرةٍ حادة، ابتلع كلماته وأعاد شفتيه إلى فمه وكأن شيئًا لم يكن.
“أنا أحترم آراء زملائي. إذا كان باقي الزملاء يرغبون، فإعادة التعاقد في معبد التنين…..”
توقفت سيان لوهلة ثم أكملت.
“…..سأوافق على ذلك.”
كانت إجابةً متوقعة من الجميع. حتى كارل، الذي كان ضمن هؤلاء “الجميع”، اكتفى بالإيماء برأسه بخفة.
“لكن بالنسبة للموضوع الثاني.”
“سيدتي أنا أعارض بشدة.”
عاد الطبيب جيفي لينفخ شفتيه ويتدخل بصوتٍ منخفض. فنظرت إليه سيان بطرف عينها، لكنها لم تحدّق فيه أو يغضب.
“…..هكذا إذاً.”
“لكن هذه وجهة نظر الطبيب، أليس كذلك؟”
في هذه المرة، خرجت شفة كارل قليلاً بمقدار عقلة إصبع. فتجعد حاجبا سيان من شدة الغضب.
“إن كنتَ معجبًا بي لهذه الدرجة، فاكتفِ بحبٍ من طرف واحد، حبٌ من طرف واحدٍ فقط! حب لا يمكن أن يتحقق، جميلٌ ورائع، أليس كذلك؟ لماذا تلاحقني وأنا أرفضكَ؟ لقد أصبح الأمر منفّرًا.”
“وأنتِ، لا يبدو أنكِ تكرهينني حقًا.”
“توقف عن قول (أنتِ)، هل أنتَ مغطى بالزبدة أو شيء؟ كلامكَ مقرف بشكلٍ لا يُطاق!”
*قصدها انه لزج
ومع توبيخ سيان القاسي، خرجت شفة كارل أكثر، بمقدار عقلة إصبعين هذه المرة.
“لا تتصرف و كأنكَ ستمسك أرنبين بيد واحدة! شخصٌ لا يملك رفاهيةً حتى لتبرئة نفسه، يتحدث عن الحب وكأن لديه وقت فراغ؟ حب ماذا؟”
“صحيح، هذا كلامٌ سليم.”
تدخل الطبيب جيفي مجددًا، فنغزه ماكس الجالس بجانبه في خصره.
“تعنين، بعد ما أُبرئ نفسي، سيُسمح لي بالحب إذًا..…؟”
“آه، ما بال هذا الرجل! ما الذي تقوله؟!”
لم تعد سيان تحتمل، فقطعت حديث كارل وانفجرت غاضبة.
فتذكّر كارل اللكمة التي تلقاها في خصره، فارتبك وهز كتفيه، غير مبالٍ بهيبته كأمير.
“الأمر لا يستحق كل هذا الغضب.”
“أنتَ السبب، لأنكَ تلاحقني بإصرار!”
بدأ صوت كارل يخفت. ثم أدركت سيان متأخرة أنها كانت قد قبضت يدها مجددًا دون وعي، فاستعادت هدوءها.
“المرأة إذا نطقت بكلمة، لا تتراجع عنها. سيتم إعادة التعاقد في معبد التنين، لا بأس بذلك. لكن، طوال الطريق إلى هناك، لا أريد أن يُطرح الموضوع الثاني بأي شكلٍ من الأشكال، ولا مرةً واحدة.”
“لكنني أعارض علاقتكِ العاطفية بشدة! وإن كان لا بد من حب، فدعوني أُحب أيضًا!”
قال الطبيب جيفي ذلك وهو يقبض قبضته بحزم.
فنظر كارل إليه بنظرة حادة، منزعجًا من اعتراضاته المتكررة، لكن الطبيب لم يكترث لنظرة الأمير الحادة، وضرب صدره قائلاً: “ولماذا لا؟ ما المشكلة؟”
ثم نقر كارل لسانه مستاءً.
“كنت أريد أن أضع حدًا نهائيًا، لكن فشلت.”
“كلامكَ عن الحسم مضحك.”
قالت سيان ذلم وهي تنقر لسانها وتُحرّك رأسها بالنفي.
“إذًا انتهى الحديث هنا حقًا.”
ثم قالت ذلك وهي تضرب الطاولة براحة يدها عدة مرات لتنهي هذا الموضوع المزعج.
فأزال باسكال يديه عن أذني بيل، التي كان يسدها بها.
“هل يمكننا الأكل والشرب مجددًا الآن؟”
“آسفة، آمل ألا تكون أذناكَ قد تلفتا.”
“عن ماذا كنتم تتحدثون؟”
سأل بيل، الذي لم يسمع شيئًا بسبب سدّ أذنيه، وهو يرمش بعينين بريئتين. فابتسمت سيان له بلطف،
“اليوم، كلوا واشربوا كما تشاؤون، وغدًا صباحًا سننطلق نحو معبد التنين.”
“معبد التنين؟”
“نعم.”
بينما كانت سيان تتحدث مع بيل، أمسك كارل كأسه وبدأ يشرب الخمر دفعةً واحدة. و بدا وكأنه يحاول تهدئة ألم الرفض العلني بالكحول.
“اشرب، اشرب. وإذا ثملت تمامًا، سأتكفلكَ غدًا وأحملكَ على ظهري.”
قال باسكال ذلك بطريقته الخاصة محاولًا مواساة كارل.
حتى الطبيب جيفي، الذي كان يصرخ بمعارضةٍ قاطعة، شعر ببعض الشفقة وهو يرى كارل يشرب بصمت، فملأ له كأسه من جديد دون أن ينبس ببنت شفة.
“مع ذلك، إن كنت قد خرجت من الموقف بضربةٍ في الخصر فقط، فأنت محظوظٌ فعلًا. كما هو متوقّع من صاحب السمو الأمير.”
لكن مواساة الطبيب جيفي لم تكن مواساةً على الإطلاق.
“الطبيب سيمنعني حتى من تبادل النظرات مع أي امرأة، أعرف ذلك.”
“أوه، لماذا تتصرف هكذا؟ أنتَ شخصٌ يفهم كل شيء على أي حال.”
عندما رمقه كارل بنظرةٍ غاضبة كما لو كان يشتمه، ضحك الدكتور جيفي ضحكةً متوترة.
“اشرب بسرعة، فحين تتمل تنسى كل شيء.”
ورغم أن كارل كان يحدّق فيه بنظراتٍ حادة، إلا أنه شرب كأسًا آخر كما قال له.
ومن الجانب الآخر من الطاولة، كانت سيان تراقب ذلك وتبتسم بهدوء.
“نعم، اشرب كثيرًا. فتكاليف العشاء اليوم سيتكفل بها السيد المُلح هناك.”
“متى قلت ذلك!”
صرخ كارل بغضب وهو يُنزل كأسه قبل أن ينهيه.
“شكرًا لك، أيها الأخ!”
“سنتناول الطعام جيدًا بفضلك، أيها الأخ!”
لكن رغم اعتراض كارل، لم يفوّت المرتزقة الجالسون حول الطاولة الفرصة، فانحنوا له بزاوية 90 درجة وهم يحيّونه بحرارة.
فوجد كارل نفسه، دون أن يدري، مجبرًا على دفع ثمن وجبة عشر مرتزقة، وبدأ يطحن أسنانه غيظًا.
كانت سيان تشعر تمامًا بنظرات كارل الحادة الموجهة نحوها، لكنها قابلته بابتسامةٍ هادئة وكأن شيئًا لم يكن.
***
وبينما كانوا يضحكون ويتحدثون ويستمتعون، تسللت الليلة بعمق دون أن يشعروا.
‘…..هل سأكون بخير؟’
حتى سيان نفسها، ومع تقدم الليل، وصلت ثمالتها إلى ذروتها. و لم تكن تدري إن كان ما يدور هو رؤيتها أم العالم الأسود من حولها.
و ذلك الإحساس اللطيف وكأنها تطفو في الهواء جعل الابتسامة تتسلل من بين شفتيها دون أن تشعر.
“لا بأس، لن يحدث شيء، أليس كذلك؟”
استندت سيان إلى جدار النزل، محاولةً تثبيت جسدها المتمايل رغم وقوفها في مكانها. وعندها فقط بدا لها أن السماء، حيث يعلوها الهلال النحيف، أصبحت واضحةً للعين.
لكن، لم تدم تلك الرؤية الصافية طويلًا. فقد مرّت سحابةٌ سوداء أخرى، وبدأت السماء تدور مجددًا، لتشعر سيان بأن ثمالتها بلغا حدّها.
‘هل القدر شيءٌ حقيقي فعلًا؟ في النهاية، لا مفر من الذهاب إلى هناك، كما لو أنه كان مكتوبًا.’
تحدثت سيان إلى الصوت داخل رأسها. وسرعان ما خارت قواها، فسقطت على ركبتيها، وجثت على الأرض، تحدّق بشرود في السماء السوداء التي تترنح أمام ناظريها.
“أنتِ، من هذه اللحظة، لستِ موجودةً في أي مكان.”
هزّت سيان رأسها نافيةً وهي تسمع ذلك الصوت يغمر مجال رؤيتها السوداء.
و لم تكن تدرك أن هذا الصوت لم يكن سوى ذكرى، لا واقعاً. ولذلك، ازداد الأمر حزنًا.
بل كان هناك شعورٌ غريب…..مع أنها كانت في حالةٍ جيدة، إلا أن الدموع بدت وكأنها على وشك السقوط.
_________________
الطبيب مايبي احد يغازل قبله ولا وش؟ توقعت هو بعد يحب سيان😂
المهم يارب يبدا فلاش باك لسيان ابي اعرف هي وش بالضبط وكيف معها تنين محد يدري به
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 33"