فتحت سيان عينيها على وسعهما وحدّقت في يد كارل.
كانت ملامح وجهه، الذي بدا رائعاً في زيّ النساء، تختلف تماماً عن يديه، فأصابعه الطويلة كانت مفاصلها عريضة أكثر مما توقعت، و لم تكن إلا يدي رجل حقيقي.
‘وهذا اليد ستلمسني..…!’
أغمضت سيان عينيها بقوة.
“نونا! اخي!”
فُتح الباب فجأة. و كان بيل، الذي أُرسل من قبل الإخوة في فرقة المرتزقة للبحث عن سيان وكارل اللذين لم يعودا، قد فتح عينيه بدهشة.
فور أن دفع مقبض الباب ليفتحه، دوى صوت ارتطام وفوضى قادمة من الداخل. وما رآه بيل كانت سيان، و وجهها متوردٌ تماماً، تمسك بياقة الأمير بإحكام.
“…..هاه؟”
حدث كل شيءٍ في غمضة عين. فاستوعب بيل حتى تلك اللحظة أن سيان تمسك بياقة كارل، وفي اللحظة التالية، أطلق صوتاً غريباً.
بووم-!
لكمةٌ سيان، التي كانت تمسك بياقة كارل، شقت الهواء بقوةٍ هائلة، لتغرس نفسها في خاصرة الرجل بصوت مدوٍّ.
***
“تماسك، أخي.”
“صحيح. في الحقيقة، لا أحد منا لم يتعرض للضرب من السيدة. فكر فيها كمرحلة يمر بها الجميع، وسترتاح نفسياً.”
جلس بيل والطبيب جيفي على جانبي كارل يربتان على ظهره بلطف. أما سيان، التي جلست في الجهة المقابلة، فكانت لا تزال خجِلةً و وجهها محمر، ودفنت أنفها في كأس الكحول.
على الرغم من أن بيل لم يكن من النوع الحذر الذي يعبر الممر دون أن يُحدث ضجة، إلا أن كلاً من سيان وكارل كانا منشغلَين تماماً بشيء آخر، فلم يلحظا شيئاً حتى فُتح الباب فجأة.
حين فُتح الباب بلا سابق إنذار، ارتبكت سيان بشدة، لدرجة أن رد فعلها التلقائي خرج دون تفكير…..
أدارت عينيها فقط نحو كارل المقابل لها وهي تفكر. و كان كارل لا يزال يتلوى من الألم، غير قادر على فرد خصره الذي تلقّى الضربة.
“اشرب كأساً. إذا ثملت، فسيقلّ الألم قليلاً.”
قال الطبيب جيفي كلاماً يُشبه ما يقوله الأطباء الدجالون، وهو يقرّب كأس الكحول من وجه كارل.
“…..لماذا لا يسأل أحد عن سبب ضربي؟”
سأل كارل. و كانت كلماته موجهةً إلى رجال فرقة المرتزقة المحيطين به، لكن نظرته الحادة كانت مصوبةً مباشرة إلى سيان الجالسة أمامه.
سيان، التي شعرت بنظراته الزرقاء المخضرة وكأنها تُنخز رأسها بإبرة، خفضت عينيها بسرعة ودفنت أنفها مجدداً في كأسها.
فالأصل أن من ارتكب الذنب عليه أن يلزم الصمت.
“ما السبب في الضرب أصلاً؟ إن ضُربت، فعليكَ أن تتلقى الضرب فقط..…”
“صحيحٌ تماماً.”
قال الطبيب جيفي ذلك بوجهٍ ودود، وضحك ضحكةً خفيفة.
ومن الجهة المقابلة، كان بيل يومئ برأسه صعوداً وهبوطاً، مؤيداً كلام الطبيب كما لو أنه من أصدق الحقائق.
ضحك كارل بسخرية من شدّة الدهشة.
سواءً كان ذلك بسبب الطاعة العمياء أو اعتيادهم على العنف، أو حتى تجاهلهم لخطأ القائدة نفسها، فإن تصرفات هؤلاء الأعضاء لم تكن تختلف كثيراً عن نظام الانضباط في فرقة فرسان القصر.
“هاها…..هم أوفياء جداً.”
تمتم كارل بضيق وهو ينظر إلى سيان.
أما سيان، فكانت تتفادى نظراته بوضوح، مكتفيةً بارتشاف الكحول بصمت.
“لنجعلها متعادلة، مقابل دفعكَ لي في المرة السابقة. هكذا نكون تعادلنا تماماً.”
رغم أن سيان لم تكن خاليةً تماماً من مشاعر الذنب، لكنها فكّرت: “ومن طلب منه أن يقترب إلى هذا الحد؟” و حاولت أن تبدو واثقةً ومتصلبة، مغيرةً من أسلوبها عمداً.
“هاه؟ من الذي دفع من؟ الأخ دفع نونا؟”
“لماذا؟”
بمجرد أن نطقت بذلك، رأت نظرات اللمعان في أعين أعضاء فرقة المرتزقة، فتراجعت في داخِلها خطوةً للخلف وهي تدرك خطأها.
فلو أرادت شرح الموقف بدقة، لاضطرت إلى الاعتراف بأنهما تشاركا نفس الغرفة، وأنها، أثناء نومها، تسللت دون وعيٍ إلى حضن كارل.
“ألم تفعل نونا شيئاً غريباً بالأخ أولاً؟”
قال باسكَال ذلك فجأة، ثم انفجروا جميعاً بالضحك معاً.
وفي الحقيقة، لم يكن كلامه خاطئاً تماماً. فرغم أنها كانت نائمة، الا أن من انتقل طوعاً إلى سرير شخص آخر كان سيان، لا كارل.
لكن، بطبيعة الحال، لم يكن بالإمكان الإفصاح عن ذلك بصراحة.
ضيّقت سيان عينيها ونظرت نحو الرجال الذين يضحكون مع باسكال.
“أنتَ، هل البشر يتكلمون أم ينبحون؟ ما هذه التفاهة التي تقولها؟”
“وهل البشر الطبيعيون يتواصلون بالكلام، أم يبدؤون بالضرب؟”
“وهل ظننتَ أنني أردت أن أفعل ذلك؟ كنت مصدومةً جداً، فـ..…”
“هاه؟ لحظة، سيان، تلك الجملة التي قلتِها الآن..…”
الجدال مع مجموعةٍ بأكملها لم يكن سهلاً بالطبع. وما إن تفوهت بكلماتٍ عادية، حتى رفع ماكس إصبعه ملتقطاً المعنى الخفي فيها.
“إذاً، ما الذي كان يحدث داخل الغرفة قبل قليل بينكما وكان مثيراً للارتباك..…؟”
“هـاه؟”
انصبت أنظار الرجال الجالسين حول الطاولة المستديرة نحو كارل و سيان دفعةً واحدة.
“ما هذا الكلام؟”
“يبدو أن أمراً كبيراً حدث بينما كنا غائبين للحظات، أليس كذلك؟”
ارتبكت سيان بشدة مرة أخرى.
“أمر ٌكبير…..ما الذي تعنونه؟…..”
لو احمرّ وجهها الآن أو تصرفت بشكلٍ مريب، فسينتهي كل شيء.
سيان روزفيت، تتورط بعلاقةٍ مشبوهة مع أمير مطارد بتهمة ملفقة؟ ستكون هذه الحكاية مادةً دسمة للمزاح والنميمة لمدّة لا تقل عن عشر سنواتٍ قادمة.
لكن، كيف تُخرج نفسها من هذا الموقف؟
كانت مرتبكةً لدرجة أن عقلها، الذي كان يعمل جيداً قبل لحظات، توقف فجأة.
“أنا من عرض إعادة التعاقد. ولم تكن الآنسة تتوقع أنني سأذهب إلى هذا الحد.”
“إعادة التعاقد؟”
جاءت يد المساعدة من مكان غير متوقَّع. فنظرت سيان إلى كارل الذي بدأ بالكلام.
وهذه المرة، تحولت أنظار الرجال الجالسين حول الطاولة كلها إلى كارل.
“ولماذا يُعد ذلك شيئاً يدعو إلى الارتباك، نونا؟ بما أننا وصلنا إلى هذا الحد، فمن الطبيعي أن نكمل الطريق حتى النهاية.”
الأنظار التي كانت تتنقل بين الجالسين كانت منشغلةً بلا توقف. فقطّبت سيان حاجبيها وهي تشعر بعودة كل تلك النظرات نحوها مجدداً.
“ما الذي تهذي به؟ على أي حال، اتفاقنا كان ينص فقط على مساعدتكَ حتى استرداد أموال الهرب.”
“ولهذا بالضبط عرضتُ إعادة التعاقد. أن تساعديني حتى أعود إلى إيفاريد وأثبت براءتي بالكامل. وقلتُ أنني سأزيد الأجر بشكل مجزٍ أيضاً.”
“أوه، ما هذا الكلام يا أخي؟ الإنسان يجب أن يتحلى بالوفاء. ما دخْل الأجر؟ بما أننا وصلنا إلى هنا، فمن الطبيعي أن نساعدكَ حتى النهاية. أنا سأساعدك.”
قبض باسكال على يديه بإحكام مؤيدًا كلام كارل، كان واضحًا أن باسكال يكبره سناً بفارق واضح، لكن لا أحد يعلم متى أصبح الأمير هو “الأخ الأكبر” من الناحية الاجتماعية.
“وأنا أيضاً أؤيد. إذا كانت التهم الموجهة إلى سموك..…أعني، إلى السيد كارل، ملفقة، فأنا مستعد لمساعدته حتى النهاية دون أي مقابل.”
“وأنا كذلك.”
ماكس والطبيب جيفي أيضاً سبقوا سيان في الرد، دون أن يُتاح لها المجال لقول أي شيء. فازداد تجهم ملامحها وبرودتها.
“هل أنتم مجانين؟ أم فقدتم الإحساس بالواقع؟ هذه ليست قضية ضياع كلب في الحي! إنها صراعاتٌ سياسية بين التنانين، صراعٌ على السلطة! قد يُقطع رأسكم في لحظة.”
“….ألا ترين أنه من الوقاحة قول ذلك أمام الشخص المعني بالأمر؟”
قال كارل ذلك بوجه محرج، كونه محور ذلك الصراع السياسي.
“لكنها الحقيقة. إن فشلتم في إثبات براءتكم ولو بنسبة ضئيلة، من سيتحمل مسؤولية حياتنا؟”
ردّت سيان بحدّة، فظهرت الجدية في ملامح كارل وأجاب بحزم،
“لن يحدث ذلك.”
فقهقهت سيان بسخرية خافتة.
“هل نسيت أنكَ كنت على وشك الموت لولا أننا أنقذناك؟ شخصٌ لا يستطيع حتى حماية حياته، كيف تتوقع منه أن يضمن سلامة الآخرين؟”
نبرة سيان كانت شديدة البرودة. وسرعان ما انعكس ذلك على أجواء الطاولة، التي خيّم عليها الصمت وتجمّدت أجواؤها فجأة.
أطلق أحد المرتزقة صوتًا مرتبكًا: “أه…..”
لم يكن هناك من يجهل طبيعة سيان الصلبة التي تخالف مظهرها، لكنها كانت تبدي حساسيةً خاصة وعداءً واضحًا تجاه فكرة تقديم المساعدة لكارل.
حتى ماكس، الذي كان من أكثر من يعرف سيان منذ وقتٍ طويل، شعر بنفور غريب من رد فعلها الحاد، فصمت للحظة وأخذ يتفقد الأجواء المشحونة التي غطّت الطاولة.
“سيان، أفهم تمامًا قلقكِ، لكن كلامكِ قاسٍ بعض الشيء-”
لكن قبل أن يكمل ماكس جملته في محاولة لتهدئة الجو، قطع عليه كارل بكلام ثقيل، وعيناه تحدقان مباشرةً في سيان، ووجهه خالٍ من أي تعبير،
“حتى لو كلفني ذلك حياتي، سأحميكِ أنتِ وحدكِ.”
لم يكن غريبًا أن يسود الصمت الكامل الطاولة التي كانت متجمدةً أساسًا من قبل، لتتحول إلى صقيع تام.
“…..ماذا؟”
نظر ماكس إلى كارل بدهشة، في حين قام الطبيب جيفي بحك أذنه معتقدًا أنه سمع خطأً. أما باسكال، فحدّق في كارل بفمٍ مفتوح، ثم مدّ يديه ليغطي أذني بيل، أصغرهم سناً. فما قاله كان صادماً جداً ليُسمع من قبل فتى صغير.
“لماذا؟ لماذا؟”
سأل بيل بعينيه البريئتين الواسعتين، غير مدركٍ بعد لما يحدث.
لكن سيان، دون أن يرفّ لها جفن رغم التصريح الذي بعثر الحاضرين، وجهت نظراتٍ حادة إلى كارل،
“في هذا العالم، هناك أمورٌ لا يمكن تجاوزها بالإرادة وحدها.”
“لم يكن كلامي من دون تفكير. حتى لو ساءت الأمور، يمكنكِ الادعاء بأنكِ كنت مجرد شخص تم توظيفه دون العلم بشيء، وهذا قد يُخفف عنكِ العقوبة. ولهذا السبب عرضت إعادة التعاقد.”
“وماذا إن لم يصدقكَ ولي العهد؟”
“لن يحدث ذلك. سأقوم بتوثيق العقد لدى معبد التنين. وولي العهد، بصفته سيد التنين، لا يستطيع تجاهل ما يوثقه معبد التنين حتى لو أراد ذلك.”
“هل هذا الاحترام الكبير للمعبد هو نفسه الذي دفعه لمهاجمة إيفاريد من دون أمر اعتقال رسمي؟”
ضحكت سيان مجددًا بسخرية مكتومة.
ومع أنها حافظت على نبرة كلامها الحادة وتعبيرات وجهها المتجهمة عن قصد، إلا أن ملامح كارل بدأت تتغير وتتجه نحو البرود بدوره.
“من المؤكد أن هناك سوء تفاهم حصل في الوسط. سنفهم التفاصيل عندما نتواصل مع أخي.”
“كلامكَ متهور. لا يوجد شيء مؤكد بعد. وماذا إن كان ولي العهد هو الفاعل الحقيقي من وراء الكواليس؟”
“أنا واثقٌ أنه ليس كذلك. لكن، كلامكِ فيه منطق. وإن كان لا بد من ذلك، فلنُعدّ صياغة العقد.”
“المساعدة…..أقصد، المرافقة الناتجة عن التوظيف، ستكون فقط حتى معبد التنين. وهناك، سنقرر ما إذا كنا سنُمدد الاتفاق أو نُنهيه.”
تراجع كارل خطوةً إلى الوراء. فلم يكن من السهل عليه أن يرفض تمامًا في هذا الموضع.
أما سيان، فبدا عليها الاستياء الشديد، وأطبقت شفتيها بإصرار كأنها طفلةٌ عنيدة ترفض الكلام.
المرتزقة، الذين لم يكن بمقدورهم سوى الاستماع إلى الحوار بين الاثنين، اعتبروا أن الاتفاق قد تم بالفعل.
وبما أن الجميع قد عبّر عن رغبته في مساعدة كارل، فلن يكون من اللائق أن تتجاهل سيان العرض الأخير بشكل منفرد أو ترفضه تمامًا.
__________________
المرتزقه واضح من زمان ماصار عندهم ذا الاكشن عشان كذا منشدّين😭
سيان وكارل يتغزلون❌
يرجفون بعض✅
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 32"