تجهم وجه سيان باشمئزازٍ واضح من كلمات كارل الوقحة.
“آسفة، لكنكَ الآن لا تبدو واقعياً إلى هذا الحد، ولا مفاوضاً ذكياً أيضاً. ألم أقل لكَ من قبل؟ أنا لا أتخذ قراراتٍ متهورة بدافع المشاعر اللحظية التي قد تضرّني لاحقاً.”
“ومن يدري إن كانت تلك القرارات ستجرح قدمكَ أم تمنحكَ أجنحة؟”
“أوه، أنتَ واثقٌ من نفسكَ، أليس كذلك؟”
ابتسمت سيان بسخرية، و إلتوت زاوية فمها باحتقارٍ واضح لكلامه.
“على أي حال، لم أعد أرغب في مغامرات طائشة، ولا أريد أن أتورط بعلاقةٍ شخصية مع سموّك.”
قطعت سيان حديثها بحدة واستدارت. أو بالأحرى، كانت على وشك أن تستدير.
لكن، فجأة أمسك كارل بذراعها وأدارها نحوه.
“ولماذا؟”
تلاشت الأجواء الهادئة التي كانت تشبه كسل قطة ناعسة، وفجأة وقف كارل ممسكاً بذراع سيان، وقد بدت على وجهه الوسيم ملامح من التوسل واليأس.
بمجرد أن التقت عينا سيان بوجه كارل، عبست دون إرادةٍ منها.
ذراعها التي أمسك بها كانت تؤلمها. و لم يكن هناك أي أثر للرقة في قبضة الرجل الذي استطاع يوماً أن يرفع السرير الثقيل الذي بالكاد كانت تستطيع تحريكه.
نظرت سيان إلى ذراعها المتألمة بنظرةٍ عابسة. و حاولت بعينيها أن تُفهمه أنها تتألم، لكن ما تلقّته لم يكن اعتذاراً أو تخفيفاً للألم.
بل زاد كارل من إحكام قبضته على معصمها. وبدت العروق بارزةً بشكل يائس على ظاهر يده التي أحاطت بمعصمها.
في تلك اللحظة، خيّم ظلّ ثقيل على وجه سيان، من شدة هذا التوسل المضلل والمحمّل بالوهم.
“إنه مؤلم.”
“أجيبي…..لماذا؟ أنا أظن أننا كنا ننسجم جيداً في القلعة، ألم تشعري بذلك؟”
نزل صوت كارل، الذي لم يعد مضطراً للتصنع، إلى نبرة منخفضة وعميقة. لا طريقة حديثه ولا صوته كانا مألوفين لسيان. و بدا كأنه شخص غريبٌ تماماً.
عضّت سيان شفتها دون أن تشعر تحت ظل كارل الذي خيّم فوقها.
شعرت وكأن شيئاً يضغط على قلبها. إحساسٌ بالضيق، سبق وأن اختبرته مرةً في القلعة، عاد فجأةً للسطح.
الصوت المنخفض، المليء بالهيبة، والطريقة الغريبة في الحديث، كلها كانت من سمات الأمير الثالث للإمبراطورية، كارلستون كلاوس، سيد إيدلين.
كان هو نفسه كما كان دوماً، ولكن إدراكها المفاجئ لذلك أزال عنها آخر ذرة تردد، فابتسمت بمرارة.
“هل من المهم إن كنا ننسجم أم لا؟ الصباح والليل يتواجدان في نفس العالم، لكن لا يمكنهما أن يكونا معاً. قد يتقاطعان للحظة، هذا كل شيء.”
“لا تحاولي التهرب بكلماتٍ مبهمة.”
قال كارل ذلك وهو يحدق بعينيه نصف المغلقتين بلهجة مهيبة.
“أنا أتكلم بوضوح. نعم، كنتُ خائفةً ومتوتّرة، لكنني، بصراحة، شعرتُ بالإثارة مجدداً أثناء إقامتي في القلعة معكَ. لكن، وماذا بعد؟”
لوّت سيان زاوية شفتيها وضغطت بقوة على اليد التي أُمسكت بها.
رغم توتره الشديد، لم يعد كارل يمسك ذراعها بذلك القبض القاسي كما فعل من قبل. فاليد التي كانت تتشبث بها بيأس، انفلتت فجأة كما لو أن ذلك التوسل لم يكن سوى كذبة.
“أنا أكثر من يعرف كم أن الشرف والمكانة مهمان لدى النبلاء. حتى لو شعرت بالإثارة تجاهكَ وأعطيتكَ قلبي، ماذا يمكنكَ أن تقدم لي، أنا التي طُردت من مجتمع النبلاء؟”
تجهم وجه كارل كما لو أنه ضُرب في نقطة ضعفه.
“الضفدع قد يموت بحجرٍ رُمي بلا تفكير، والقطط الصغيرة التي تلطخها رائحة البشر تُنبَذ من أمهاتها إن اقترب منها أحد بدافع شفقة أو تعاطف. أدركُ أنكَ سقطت فجأة وأصبحت في موقفٍ يائس، لكن يبدو أنك تعلّقت بالشخص الخطأ.”
قالت سيان ذلك وهي تفرك معصمها الذي لا يزال يؤلمها. وبعد أن تحررت يدها من تلك القبضة الكبيرة، بقيت الحرارة والثقل وكأنها أثرٌ يُلهب جلدها.
نظر كارل إلى سيان بصمت ووجهه مشدود بين حاجبيه، كما لو تلقى صفعةً على مؤخرة رأسه.
وشعرت سيان بشيء مؤلم في صدرها لرؤية تعبيره ذاك، لكن ذلك لم يكن شفقةً أو ندمًا على قسوتها. بل كان تأكيداً لما كانت تشك به—أن الأمير، الذي يتمسك بأي شيء لينجو، لم يكن يملك نيةً عميقة حين حاول إغرائها.
بل كانت هي من تلقت الجرح الحقيقي.
“الآن وقد حصلتَ على ما يكفي من المال، ابحث عن مرتزقة آخرين ليساعدوكَ. هل تنوي التوجّه إلى المعبد بعد هذا؟”
طرحت سيان السؤال ببساطة، لكن كارل لم يجب، بل أغلق شفتيه بعناد كطفل عنيد.
“ما الذي تكونينه بالضبط؟”
وبعد لحظة من الصمت، رفع الأمير عينيه الحادتين بحدة، ووجهه لا يزال متصلبًا.
وفور أن التقت سيان بنظراته الحادة، أدركت فوراً أنها نظراتٌ حقيقية، ليست مصطنعة.
“تقولين أن الصباح هو أنا، وأنتِ الليل. حتى لو كنتِ من العامة، فلو أردتُ، يمكنني أن أمتلككِ بسهولة. لا بد أن هناك سببًا آخر يجعلكِ تهتمين بكونكِ نبيلةً منفية.”
“ما تريد حقًا معرفته، هو سبب نفيي، أليس كذلك؟”
ضحكت سيان بصوتٍ منخفض ونغمة مريرة.
‘كنت أعلم…..ها هو يكشف عن نواياه الحقيقية أخيرًا.’
كانت تعرف منذ البداية أن كارل كان فضولياً بشأن حقيقتها.
لقد سنحت له فرصٌ كثيرة ليسأل مباشرة، لكنه اختار أن يصدق أعذارها السطحية ويبدأ محاولاته في الإغواء.
وكانت سيان تشك طوال الوقت في أنه ربما يحاول استغلال مشاعرها. و رفضها المتكرر لإغوائه كان لأسباب عديدة، وكان هذا الشك أحدها.
لم يكن بوسعها أن تسقط بسهولة.
كانت سيان تفكر بهذا من خلف ابتسامتها الهادئة، حتى قال كارل عبارته التالية.
“لا. لست أحاول معرفة سبب نفيكِ لكي أستغل ذلك، بل لأن معرفتي بذلك هي الطريقة الوحيدة لأتمكن من مساعدتكِ.”
تجمد وجه سيان في لحظته، بينما كانت لا تزال تبتسم.
“أفهم تماماً ما يدور في بالكِ. لقد اختلطت الأمور فحسب. لا أريدكِ لأنني عرفت حقيقتكِ، بل أريد أن أعرف حقيقتكِ لأني أريدكِ.”
قال كارل ذلك بصوت خالٍ تماماً من الدفء، ونبرةٍ جافة تماماً، وهو يحدق في سيان من الأعلا.
نظرت سيان إلى كارل بفمٍ مفتوح وذهول دون أن تشعر. بينما كانت عيناه ذات اللون الفيروزي الجادّ ثابتة لا تزلزلها أي شائبة.
‘ما هذا…..ماذا قال هذا الأمير الوسيم للتو؟’
وحين فهمت أخيرًا معنى كلماته، شعرت سيان وكأن أنفاسها انقطعت فجأة.
“مـ……ماذا تعني بذلك؟”
“ما الذي أعنيه؟ أعني ما قلته. لماذا تسيئين تفسير كل كلمةٍ أقولها وكأن خلفها نيةً خفية؟”
“أنتَ الآن….و كأنكَ….كأن سموّك…..تُحبّني أو شيء من هذا القبيل..…”
لكنها لم تستطع إكمال جملتها، واكتفت بتحريك شفتيها في تلعثم.
“في مثل هذا التوقيت، هل من المفترض أن أقول أنني أحبكِ؟”
قال كارل ذلك بصوت ممتعض قليلًا.
في عيني سيان، بدا وجه كارل الأبيض وقد تلون قليلاً بالحمرة. و عندما لاحظت ذلك، شهقت سيان فجأة كمن رأى شيئًا مرعبًا وسحبت نفسًا طويلاً.
و صوتها المرتبك المرتجف، الذي تجاوز الإحراج والخجل ليصل إلى حافة الرعب، جعل كارل يضيق عينيه باستغراب.
“ما هذا الرد؟ أنا أتكلم بصدق…..وللمعلومية، هذه أول مرة في حياتي أنطق بمثل هذه الكلمات..…”
“هاااه!”
تملّكها الارتباك إلى حد أنها، دون وعي، مدت يدها بسرعة وأغلقت فم كارل براحتيها.
نظر كارل بوجهٍ مذهول وتقطب حاجباه من الدهشة.
كانت سيان تضغط على فمه بكلتي يديها بقوة، خشية أن تتسرب كلماته للخارج. وكان كارل يحرّك شفتيه تحت كفّيها محاولًا التحدث، عندها فقط أدركت سيان ما الذي فعلته للتو.
“يا إلهي!”
صرخت سيان مذعورةً وسحبت يدها بسرعة عندما شعرت بأنفاسه الحارة تصعد وتهبط داخل راحتها.
رغم أن كارل هو من تضرر من شدة ضغطها على فمه حتى احمر محيط شفتيه، فإن سيان تصرفت وكأنها هي من تعرض للأذى.
رفع كارل حاجبه بدهشة.
“ذراعكِ نحيف، لكنكِ تملكين قوة. فكي هو من تأذى، فلماذا أنتِ من تصرخ؟”
“لـ…..لأنكَ تقول أشياء مخيفة..…”
“هاه؟”
حدّق بها كارل بدهشة.
“منذ متى أصبح قول (أنا أحبكِ) شيئًا مخيفًا..…”
“آاااه! لا تقله! هل جننتَ؟! ماذا لو سمعكَ أحد؟!”
أرادت سيان أن تسد فمه مرة أخرى، لكنها تذكرت دفء أنفاسه تحت راحتيها، فارتبكت ولوّحت بيديها في الهواء.
ضحك كارل بخفة، ثم حدق بها وضحك بصوتٍ أعلى.
“هذا..…”
“……؟”
اقترب وجه كارل من وجه سيان التي كانت شاحبةً من الخوف.
وتلاشى تعبير الدهشة عن وجهه كما لو لم يكن، وانحنى فوق رأسها، مُلقياً ظلّه عليها، وارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ ماكرة مليئة بالمشاكسة.
قلب سيان لم يكن ينبض فقط، بل كان يدق بعنف كما لو كان يصدر دويًا. فخافت أن ينفجر من شدّة الخفقان، فضمّت يديها ببعضهما وبدأت ترتجف.
“إن قبّلتكِ، هل ستستسلمين إذاً؟”
سيان علمت لأول مرة أن الشعور الذي يجتاحك عندما يقترب منك وجهٌ جميل حد الجنون ومطابق تمامًا لذوقك، ليس إثارةً أو نبض قلب، بل هو رعب لا يمكن تخيله.
“أنتَ….مجنون..…”
تمتمت سيان بصوت خافت وهي ترتجف رعبًا، فابتسم كارل بابتسامةٍ ناعمة وانسيابية عند زاوية فمه.
“قلتُ لكِ، أنا بكامل وعيي.”
كانت سيان في حالة ذهول. و شعرت ببرودة الجدار خلف ظهرها، ولم تدرك حتى أنها كانت تتراجع إلى الوراء خوفًا.
و كارل، مثل صياد يتقدم بخطى ثابتة نحو فريسة من الحيوانات العاشبة المذعورة، دفع سيان شيئًا فشيئًا إلى الزاوية.
امرأة كانت دومًا عقلانيةً و واضحة في كل حوار، أصبحت في حالة ذهول فقط بسبب جملة واحدة، فبدا ذلك مضحكًا ولطيفًا في نظر كارل، ولم يستطع كبح ابتسامته العفوية.
قالها في البداية بدافع المزاح من رد فعلها المذهول، لكن ما إن رأى سيان تحدق به بعينيها الزرقاوين المرتعشتين كأن زلزالًا أصابها، حتى اجتاحته رغبةٌ غريبة.
“لا تفعل شيئًا غريبًا..…”
“وما هو الشيء الغريب؟”
“أي شيء!”
صرخت سيان وهي تغطي فمها بكلتا يديها، و كاد كارل ينفجر من الضحك لكنه عض باطن فمه ليمنعه من الانفلات.
“عندما تتصرفين هكذا، من الطبيعي أن أرغب بفعل المزيد، أليس كذلك؟”
قال ذلك وهو يمد يده نحوها. فشهقت سيان بفزع.
ولو أن يده كانت تنقض عليها بعنف لكان من السهل دفعه أو ضربه، لكن يده كانت تقترب منها بخفة ورقة، ترسم مسارًا ناعمًا في الهواء نحوها.
ولا أحد يعرف لماذا، لكن ذلك كان أكثر رعبًا لسيان.
____________________
ضحكت اول بطله تشوف اعتراف وحركات حنية تروع واضح كانت عايشت وسط عربجة😭😭😭😭
اهخخ تكفون يجننون حسبت في البدايه بيصير سوء فهم ويفترقون بس كارل يجنن على طول فهمها🤏🏻
وسيان للحين مصدومه ياعمري😭😭😭😭
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 31"