العطر المهدئ الذي أعدّته سيان لم يكن تأثيره يدوم طويلًا. في أفضل الأحوال، لا يمنح سوى حالة من التخدير الخفيف تستمر لعشر أو عشرين دقيقة.
لذلك كان من الضروري جدًا تنسيق التوقيت بدقة مع كارل.
“ما الأمر؟”
رغم أن الأمير، صاحب الطابق الثالث، كان غائبًا،
إلا أن الحراس لم يظهروا أي تهاونٍ في أداء واجبهم.
رفع الحارسان رماحهما الطويلة ليشكلا بها علامة X في الهواء، ثم سألا سيان، التي كانت ترتدي زي خادمة.
قال كارل أن ممر الخدم هو الطريق المختصر، فلا بد أنه وصل بالفعل.
أجرت سيان الحساب في ذهنها، ثم أمسكت بطرف تنورتها وانحنت قليلًا لتحيي الحراس.
“أعتذر على الإزعاج في هذا الوقت المتأخر، لقد كنت أنظف الطابق الثالث، ويبدو أنني أضعت شيئًا ثمينًا هناك.”
لم يكن في تمثيلها أي خلل، أو هكذا كانت تظن سيان على الأقل. لكن الحراس لم يفتحوا الطريق بهذه البساطة.
تبادلوا نظرةً حذرة فيما بينهم، ثم التفت أحدهم إليها مجددًا.
“لكن، لماذا أتيتِ في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟ الظلام حالك، ولن تتمكن من رؤية ما حولكِ بوضوح.”
“الأمر هو…..أن الجد الذي تولى تربيتي بعد فقداني لوالدي، ترك لي تذكارًا ثمينًا، وعندما اكتشفت أنني فقدته، لم أستطع النوم.”
غطّت سيان وجنتيها بكلتا يديها في خجل.
“كان بإمكاني أن أبحث عنه في الصباح، لكن لدي عملٌ أقوم به، لذلك أريد أن أجدَه بأسرع وقتٍ ممكن..…”
“إذًا، سأذهب معكِ وأساعدك في البحث عنه.”
لكن كما هو الحال دائمًا، الأمور في هذا العالم لا تسير كما نرغب. فأحد الحراس الواقفين إلى اليسار تقدّم رافعًا رمحه باستقامة.
لم يخطر ببال سيان أن الحارس سيقترح مرافقتها، فتفاجأت ورفعت يديها تلوّح نافية.
“أوه، لا داعي لذلك. لا يمكنني أن أزعج الجنود الذين يتناوبون في نوباتٍ شاقة كهذه. هل يمكنني الذهاب بمفردي؟ أظنني أعرف تقريبًا أين سقط مني، لذا سأعود بسرعة.”
“لكن الطابق الثالث مظلمٌ جدًا، لأن عامل الإضاءة لم يشعل المصابيح فيه.”
‘ما هذا الفضول الزائد؟’
قالت سيان في نفسها متذمرة، وبدأت تعبث بخفة بمئزرها.
“نظري في الليل جيد، لا بأس عليّ. أشكركم فقط على لطفكم. سأعثر على الغرض وأعود حالًا!”
إن أصرّوا على عدم إفساح الطريق، فلن يكون أمامها خيار سوى اللجوء للأسلوب الحاسم.
رائحة مسحوق النوم تستغرق وقتًا حتى تؤثر، لذلك خطّتها كانت استخدام إبرة منومة لتخديرهم بسرعة.
“هل أنتِ متأكدة أنكِ ستكونين بخير؟”
تبادل الحارسان نظرةً أخرى، ثم سأل أحدهما للتأكيد. فأومأت سيان برأسها دون أن تنزل يديها عن مئزرها.
“إذًا، عودي بأسرع ما يمكن. وإن لم ترجعي خلال ثلاثين دقيقة، فسأتبعكِ إلى الأعلى.”
قال الحارس ذلك بلطف وهو يرفع رمحه ليفسح لها الطريق، تمامًا حين كانت سيان تمسك بمسحوق النوم في جيب مئزرها.
“شكرًا جزيلًا!”
ابتسمت سيان ببساطة كأنها خادمة بريئة، ثم مرّت بين الحارسين وصعدت الدرج الذي غمره الظلام الدامس.
رغم أنها كانت معتادةً على المواقف الخطرة، إلا أنها لم تستطع منع التوتر من جفاف شفتيها بينما تمر بين الرماح المرفوعة.
تظاهرت بأنها تصعد الدرج بخطواتٍ مسموعة حتى وصلت إلى العاشر، ثم بدلًا من استخدام مسحوق النوم، أخرجت بخفة بخور النوم من جيب مئزرها.
وفي توقيت متناغم مع صوت خطواتها على الدرج، أسقطت سيان بخور النوم إلى أسفل الدرج بحذر.
كانت قد فتّتت أطرافه بأصابعها مسبقًا، فما إن لامس الأرض حتى بدأ بإطلاق دخانٍ باهت مائل للبياض.
التفتت بخفة إلى الخلف لتتأكد من انتشار الدخان، ثم غطت أنفها بإحكام بواسطة كمّ ردائها.
ونظرًا لأن المكان غارقٌ في ظلام دامس لغياب أي إنارة بسبب عدم وجود أحد فيه، لم يكن الدخان الأبيض للبخور ظاهرًا بشكلٍ واضح.
شعرت سيان بالرضا وصعدت بسرعة بضعة درجات إضافية لتراقب الوضع في الأسفل.
أما الحارسان، فكانا ما يزالان ينظران للأمام ولم يلاحظا بعد الدخان المتصاعد عند أقدامهما.
أسندت سيان ظهرها إلى الحائط، وأخفت جسدها في الظلام، ثم بدأت العدّ بهدوء في داخلها.
عشرة، تسعة، ثمانية، سبعة…..
وعندما وصلت إلى الرقم واحد، مرت لحظةٌ قصيرة قبل أن تبدأ أطراف الرماح التي يمسك بها الحارسان بالاهتزاز بشكلٍ طفيف.
لقد بدأ بخور النوم يُؤتي مفعوله.
شعرت سيان بالقلق يتسلل إليها وبدأت تعض شفتيها بعصبية.
كانت غريبة عن قلعة إيفاريد، حتى الممرات بدت لها غير مألوفة. و رغم أنها استلمت مخطط القلعة من كارل وحفظته، إلا أن حفظ الطرق المختصرة التي يستخدمها الخدم كان أمرًا يتجاوز طاقتها.
كانت تتوقع أن هناك طريقًا مختصرًا للخدم في مكانٍ ما من الممر الذي مرت به، لكن لم يظهر لها أثرٌ لكارل بسهولة.
لم تكن تدري إن كان ينتظر بحذر حتى يغوص الحارسان أكثر في النعاس، أم أن التوقيت لم يكن مناسبًا ببساطة.
لو كان الأول، فذلك مطمئن، أما إن كان الثاني، فالأمور على وشك أن تتعقّد بشكل سيء.
…..لماذا لا يأتي؟
وبينما كانت سيان على وشك الانفجار من التوتر، لاحظت طرف رمح أحد الحراس وقد مال بشكل واضح بعد أن كان منتصبًا بثبات.
وحينها بالضبط، ظهر ظلٌ أسود فجأة، وتسلل بسرعة صامتة على طول جدار الممر باتجاه الدرج.
كان كارل.
‘…..واو.’
بقدر ما كان وقت الانتظار موترًا، تفاجأت سيان في داخلها بدهشة صامتة من حركاته السريعة، الهادئة، والمنخفضة لدرجة لا تُصدق بالنسبة لأحد أفراد العائلة المالكة.
‘ما هذا الأمير؟ من يراه سيظنه قاتلًا محترفًا!’
ويبدو أن تأثير بخور النوم كان فعالًا جدًا، فحتى مع ظل كارل الذي مر أمامهم، لم يمنعه الحارسان كما فعلوا مع سيان، بل اكتفوا بالتأرجح في مكانهم.
قفز كارل بخطواته الطويلة ثلاث درجات دفعةً واحدة، ليصل بسرعة إلى حيث كانت سيان تقف.
“…..كان الأمر سهلًا جدًا.”
قال كارل ذلك وهو يسد أنفه، فخرج صوته مكتوماً بنبرة رضا.
‘صحيح. يبدو أن لطف الحاكم والإداريَّين اللذين وقعا في حب كارين، الشبيهة بسموك، بدأ يؤتي ثماره حقًا.’
المرتزقة الذكور الذين لم يحظوا بعطف وخدمات نبلاء إيفاريد، كانوا جميعًا يستخدمون مساكن الجنود الواقعة خارج القلعة. ولو اضطروا للتسلل من الخارج، لما سارت الأمور بهذه السهولة.
أومأت سيان برأسها وأجابت كارل بصوتٍ خافت للغاية.
“تقدَّم أنتَ أولاً.”
أومأ كارل برأسه، ثم قطع الممر الغارق في الظلام بخطواتٍ واسعة. ولكي لا تفقد أثره وسط عتمة ملابسه السوداء، تبعته سيان بهدوءٍ وحذر دون إصدار أي صوت.
في البداية، وجدت صعوبةً في التمييز وسط الظلام، لكن مع مرور الوقت بدأت ترى محيطها بشكلٍ أوضح.
الطابق الثالث، الذي استخدمه الأمير كارلستون كمكتب ومكان إقامة في آنٍ واحد، كان أكثر فخامةً ونظافة من أي مكان آخر في القلعة.
الممر مفروشٌ ببلاط رخامي لامع، وحتى الشمعدانات غير المضاءة على الجدران كانت فاخرةً وتبدو باهظة الثمن.
“ذوقكَ راقٍ فعلًا…..هذه الأرائك تبدو غالية، هل هي من صنع إحدى الأعراق؟”
“أكيد، دون أدنى شك.”
رد كارل بفخر واعتزاز.
هزّت سيان كتفيها بلا مبالاة، لكن في داخلها ارتفعت فجأة توقعاتها بشأن الثروة السرية للأمير الذي ستقابلها قريبًا.
“هذا هو المكتب. وغرفة النوم متصلةٌ به.”
“لا داعي لأن تريني. لن أزور هذا المكان مرةً أخرى على أي حال.”
قالت سيان ذلك وهي تقف أمام الباب المزخرف الفخم في نهاية الممر، حيث كل من إطار الباب وجانبيه مزينان بشكل مبالغٍ فيه.
لكنها لم تأخذ كلمات كارل بجدية.
“لا تكوني واثقةً من ذلك، من يدري ما قد يحدث؟”
قال كارل ذلك وهو يرفع حاجبه موجّهًا نظرةً نحو سيان، بعد أن جرّ المقبض قليلًا.
لكن باب المكتب كان مقفلًا.
“حسنًا، أتفق أن لا أحد يعلم ما قد يحدث. فقط، إن اضطررتُ للعودة إلى هذا المكان مرة أخرى، فآمل ألا يكون ذلك لهدفٍ سري كهذا..…”
كانت سيان على وشك أن تسأل عن كيفية فتح الباب، لكنها لم تكمل جملتها، إذ في اللحظة التي وضع فيها يده على المقبض، بدأ سحرٌ فضي يتوهج من يد كارل.
مع ظهور هذا الضوء الذي بدا كأنه مصباح، نظرت سيان حولها بتلقائية وحيطة. وكما هو متوقع، لم يكن هناك أي أثر لأي شخص بالجوار.
وبعد أن أطلق قليلاً من السحر من يده، جذب كارل المقبض مجددًا، فانفتح باب المكتب بصوتٍ خافت.
وكان المكان هادئاً بحيث بدا هذا الصوت البسيط وكأنه دويّ قوي.
انخفضت سيان لا إراديًا خلف كارل الذي كان يفتح الباب، حتى لامست يدها أحد الأسلحة تحت تنورتها.
لحسن الحظ، لم يصدر عن باب المكتب الفاخر أي صوت صرير مزعج أثناء فتحه، ولا تدري سيان إن كان ذلك بفضل براعة كارل، أم أن الباب نفسه تمت صيانته بعناية.
وفي كلتا الحالتين، استطاع كارل وسيان دخول المكتب من دون أي مشاكل.
وما إن أُغلق الباب خلفهما، حتى أصبحت الغرفة أظلم بكثير من الممر الخارجي الذي به نوافذ.
وكان الظلام دامسًا لدرجة أن حتى من اعتادت أعينهما عليه لم يعودا قادرين على التمييز من حولهما.
‘الآن يمكنني أن أتنفس الصعداء.’
وسط هذا السواد الحالك الذي لا يمكن فيه التفريق بين الأمام والخلف، سُمع صوت نفسٍ مرتاح.
وسرعان ما اخترق الظلام ضوءٌ ساطع. كان كارل قد مدّ يده، وفي كفه الممدودة ظهر ضوء فضي يطفو كالإنارة.
“…هل هذا إيدلين؟”
تذكرت سيان إيدلين، الكتلة الفضية التي كانت تدور حول كارل، فسألت. لكن كارل حرّك رأسه نافيًا.
“مجرد حيلةٍ بسيطة. إنها طاقةٌ سحرية تُنتج الضوء فقط.”
فأومأت سيان برأسها بخفة.
“آه، فهمت.”
“…لكن، لدي شعور سيء تجاه هذا المكان.”
قال كارل ذلك وهو يُلقي نظرةً على المكتب الذي أنارته كرة الضوء السحرية التي استدعاها.
كان أحد الجدران مغطى بستائر سميكة لا تسمح بمرور أي ضوء، والجدار المقابل له امتلأ برفوف كتب مزدحمة، أما الجدار الثالث، فاحتوى على باب آخر، وقد شعرت سيان فورًا أن هذا الباب يؤدي إلى غرفة الأمير حيث يُخبأ الكنز.
“ما الأمر؟”
“أشعر أن ترتيب الأثاث تغيّر قليلًا.”
بدا عليه التردد، إذ عبس قليلًا وحنى رأسه متأملًا.
“لكن لا يوجد أحدٌ ليسكن هنا، فكيف يتغير ترتيب الأثاث؟”
“ألفريد كان يرغب في تغيير وضعية الأثاث…..لكن لم يكن تغيّرًا كبيرًا.”
قال كارل ذلك بنبرة غير مبالية، لكن سيان أدركت بسرعة أنه يتظاهر بعدم الاهتمام فقط.
“فلندخل على أي حال.”
قال ذلك بعد أن أخذ نفسًا عميقًا وكأنّه ابتلع إحساسه المقلق، ثم تحرك من جديد.
ولحقت به سيان بصمتٍ نحو الباب الذي توقعت أنه يؤدي إلى غرفة النوم.
حتى لو تغير ترتيب الأثاث، ما الخطير في ذلك؟
هذا ما كانت سيان تفكر فيه، بخلاف كارل الذي بدت عليه علامات التوجس.
و كان باب غرفة النوم موصدًا أيضًا، لكن كارب فتحه بسهولة باستخدام سحره كما فعل مع الباب الأول.
___________________
كارل مره مهتم لكل شي لدرجة ترتيب الاثاث ازعجه؟ وناسه وش ذا الزوج
المهم كارل قصده يجيب سيان هنا مره ثانيه كزوجته صوح؟ هاهاهاهاااععاها
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 27"