سوليفان عبس بوجهه باشمئزازٍ وارتجف من النفور.
وكان من الطبيعي أن تتسع عينا كارل، الذي كان واقفًا خلفه، بدهشة.
“لابد أنكِ عانيتِ كثيرًا.”
تسلل إلى ذهنه شكٌ بسيط، هل يمكن أن يكون يعرف أن كارين هي الأمير كارلستون ويتصرف وكأنها لا تعلم؟
لكنه سرعان ما استبعد ذلك.
لو أن سوليفان كان قد أدرك أن كارين هي الأمير، لما تجرأ على التحدث عنه بسوء وهو واقفٌ أمامه مباشرة.
تظاهرت سيان بالاطمئنان، وقَبِلت امتنان سوليفان بلطف.
“ومع ذلك، لا نعرف في أي وضعٍ خطير قد يكون الآن…..كل ما يمكننا فعله هو القلق.”
“أنا واثقةٌ أنه بخير.”
حاولت سيان التخفيف عنه بكلماتٍ مطمئنة، وهي تسمع صوت كارل يهمهم بهدوءٍ خلفها، لكن حتى كارل هدأ عند سماع صوت سوليفان المليء بالقلق.
“أتمنى أن يكون الأمر كذلك. رغم أنه ليس من اللائق قول هذا أمام سيداتٍ غريبات، إلا أن الطريقة التي اختفى بها كانت مقلقةً للغاية.”
خفض سوليفان صوته وهو يحدق في الأفق كمن يتذكر حبًا أولًا.
“بما أننا فتحنا الحديث، سمعت أن ولي العهد جلب تنينًا بنفسه وهاجم…..هل استمرت التهديدات بعد ذلك؟”
“لا، لقد تم تشديد الحراسة فقط تحسبًا لأي طارئ. ربما رأيتِ ذلك بنفسكِ، بما أنك كنتِ في إيفاريد، لكن تنين سموه ظهر مؤخرًا.”
“آه، نعم، رأيته أيضًا.”
رغم أنها كانت الأقرب إلى إيدلين، تظاهرت سيان بأنها تسمع القصة لأول مرة.
“لا نعلم بالضبط ما نوع الخطر الذي تعرض له، لكن من المؤكد أن تحرك إيدلين بنفسه ليس بالأمر الجيد..…”
تجمد وجه كارل وهو يفكّر ـ ولو للحظة ـ أن كل ذلك لم يكن إلا فخًا للتسلل إلى القصر.
“نحن فقط نستعد لأي طارئٍ محتمل. في غياب سموه، لو عاد ولي العهد فجأة، فلن يكون أمامنا خيار سوى تنفيذ أوامره.”
“نعم…..هذا منطقي.”
أومأت سيان برأسها مرارًا.
وعلى عكس سوليفان الذي غمره القلق، كان ما تريده سيان هو التأكد مما إذا كان ولي العهد قد عاد إلى إيفاريد في غياب كارلستون.
وحسب كلام سوليفان، فإن ولي العهد لم يتجاوز حدود إيفاريد حتى الآن، على الأقل. لكن هذا لا يعني أن الوضع آمن بما يكفي ليكشف كارل عن نفسه، خاصةً بعد أن خاطر بالتنكر في هيئة امرأة للتسلل.
“أعذرني على صراحتي…..لكن سموه متهم بقتل تنين جلالة الملك، أليس كذلك؟”
فتحت سيان الحديث مجددًا محاولةً استدراج سوليفان أكثر، وما إن أنهت كلماتها حتى انتفض سوليفان فجأة ولوّح بيديه نافيًا بشدة.
“تلك تهمةٌ باطلة! محض افتراء! سموه لا يملك أي دافع لقتل التنين، ولم يفعل ذلك إطلاقًا!”
“لكن ولي العهد، من المؤكد أنه لم يهاجم أرض سموه دون أي دليل، أليس كذلك؟”
“نحن أيضًا نجهل السبب الحقيقي، لكننا نعتقد أن الأمر كله مجرد مكيدةٍ مدبرة من قِبل شخص ما للإيقاع بسموه.”
“مكيدة، إذًا…..”
رددت سيان كلماته، ثم ألقت نظرةً خاطفة إلى الخلف.
كان كارل يخفي نصف وجهه تحت باروكةٍ طويلة، تتدلى منها خصلات سوداء، وعيونه بلون الفيروز كانت تلمع بمشاعر معقدة في ظلالٍ قاتمة.
“لا يمكن إثبات براءة سموه ما لم يعد بنفسه. ومع وجود من يسيء فهمه مثلكم، فالأمر لا يزيدنا إلا اختناقًا وحيرة.”
على أية حال، هذا يعني أن شعب إيفاريد يثق في الأمير ثقةً عمياء.
“ما دامت نواياكَ صادقة، أيها الإداري، فستسير الأمور على ما يرام.”
كان المتحدث هذه المرة هو كارل، الذي لم ينبس ببنت شفة حتى الآن.
ورغم أنه استخدم صوتًا مزيفًا، إلا أن نبرة صوته الهادئة كانت قريبة جدًا من صوته الحقيقي كأمير.
“لا شك أن سموه يبذل جهده بطريقته الخاصة في مكانٍ ما. قريبًا، كما يتمنى الجميع، ستنكشف الحقيقة ويعود بكل فخرٍ بعد أن تزول التهمة.”
حدّق سوليفان بكارل بدهشة وقد اتسعت عيناه، ثم ارتسمت على وجهه ابتسامةٌ لطيفة، وكأنه تلقى دعمًا مباشرًا من الأمير نفسه.
“ما دامت الآنسة التي تشبه سموه إلى هذا الحد تقول ذلك، فأنا أشعر بالقوة من جديد. شكرًا على كلماتكِ المريحة.”
انحنى سوليفان بأدب تجاه كارل.
نظرت سيان إلى كلٍّ من سوليفان وكارل بالتناوب، وقطّبت حاجبيها بخفة دون أن يلاحظ أحد.
…..هل من الممكن حقًا أنه لا يعرف هوية كارل الحقيقية؟
راودها الشك، لكن لم يكن من الحكمة أن تطرح هذا السؤال بصراحة.
وبينما ظلت سيان صامتةً، مرّ نسيم لطيف حولهم كهدوءٍ يسبق العاصفة، يلف الثلاثة بهدوءٍ للحظة.
***
حلّ الليل.
“كما توقعت، التنورة قصيرةٌ جدًا. عندما أعود، أول ما يجب فعله هو تعديل زيّ الخادمات.”
قال كارل ذلك وهو يحدّق في سيان بنظراتٍ ضيقة ممتلئة بعدم الرضا، وقد ارتدت زي الخادمات.
أما الشعر البلاتيني النادر، فقد كان يمكن أن يتسبب بكشف هويتها لاحقًا. لذلك رفعت سيان شعرها لأعلى وربطته بإحكام، ثم زينت رأسها بإكسسوارات تغطيه بإتقان، ورشّت مسحوقًا أسودًا لتغميق لونه قدر الإمكان.
“صحيح أنه غير مريح إطلاقًا. كيف يمكن للمرء أن يعمل وهو يرتدي شيئًا كهذا..…؟”
قالت سيان ذلك وهي تلمس تنورتها وتعدّل ثوبها، ثم أطلقت تنهيدةً مستاءة.
“هممم…..كارل، أنت حقًا لصٌ بارع.”
قالت سيان ذلك وهي تنظر إلى كارل.
كارل، الذي كان يمتلك في الأصل شعرًا أسود قاتمًا، لم يكن بحاجة إلى تنكر خاص؛ مجرد قناعٍ أسود بسيط كان كافيًا ليذوب في الظلال تمامًا، وكأنه وُلد ليكون لصًا مثاليًا.
كارل، الذي نزع الباروكة الثقيلة بعد وقتٍ طويل، ابتسم ابتسامةً عريضة.
“إذا وصلتُ لهذه الدرجة، فأنا من نخبة اللصوص.”
لم يُعرف ما إذا كانت هذه الثقة مكتسبةً مؤخرًا أم أنها جزءٌ من شخصيته منذ البداية.
سيان أمالت رأسها قليلًا، ووضعت أصبعها عند ذقنها، ثم عبست شفتيها نحو كارل الذي ابتسم بثقة.
كان لا يزال يحمل القناع تحت ذقنه، فلم يغطِ وجهه تمامًا بعد، لذا كانت ملامحه واضحة.
ملامح وجهه الواضحة والنقية كانت أبعد ما تكون عن مظهر لص.
“دعك من مديح نفسكَ. هل تأكدت من أخذ السلاح والأمتعة وكل شيء؟”
“بالكامل. وأنتِ، سيدتي؟”
منذ فترة بدأ كارل يناديها أحيانًا بـ”سيان” وأحيانًا بـ”سيدتي”، وكان غريبًا كم بدا هذا اللقب طبيعيًا على لسان أمير.
أشارت سيان إلى مريولها الذي ترتديه فوق زي الخادمات.
“بالطبع أنا جاهزة. هل نسيتَ من أكون؟ أحضرت بخور النوم، مسحوق النوم، وحتى أسلحةً لحالات الطوارئ.”
ثم رفعت طرف تنورتها قليلًا، لتكشف عن خنجر مربوط عند أعلى ركبتها، مخفي تمامًا تحت الثوب.
أرادت أن تُظهر مدى استعدادها الكامل، لكن بدلًا من الإعجاب، ضيّق كارل عينيه متذمرًا.
“أوه…..لا بأس بجلب السلاح، لكن لماذا تضعينه في مكانٍ كهذا؟”
تمتم بنبرةِ عجوز، مما جعل ملامح سيان تتجمد بدهشة.
“ما الذي تقوله؟ إخفاء السلاح تحت التنورة تقليدٌ قديم!”
“ماذا لو رأى أحدهم شيئًا غير مناسب وأنتِ تسحبين السلاح؟!”
“أوه؟ سيظن الناس أمورًا خاطئة إذا سمعوك! مجرد جزء بسيط من فوق الركبة، ما المشكلة في ذلك؟ بل، وما شأنكَ أنت أصلاً؟ منذ متى بدأت تتحكم في تصرفاتي؟”
“على كل حال، بما أنني اعترفت لكِ، فأعتقد أن لي بعض الحقوق تجاهكِ.”
قال كارل ذلك وهو يرفع ذقنه بثقةٍ وكأنه يقول أمرًا منطقيًا.
“يا لهُ من رابطٍ غريبٍ و عجيب.”
ضحكت سيان بسخرية.
“كفى ثرثرةً لا طائل منها، لنبدأ التحرك. وقت تبديل الحرس سيبدأ قريبًا.”
أخرجت سيان ساعة الجيب لتفقد الوقت للمرة الأخيرة.
كانت الساعة الثالثة والنصف فجرًا، في وقت لا يكون فيه من يسهرون قد ناموا بعد تمامًا، ولا من يستيقظون مبكرًا قد استيقظوا بعد.
كارل، رغم ملامحه غير الراضية تمامًا، لم يكن في موقف يسمح له بإضاعة الوقت على أمورٍ تافهة. فأومأ برأسه على مضض، ثم رفع القناع ليغطي وجهه.
كانت عيناه بلون الفيروز النقي، مثل حجر التركواز، ستحجبها الظلمة، وملامحه الفاخرة كأمير ستُخفى تحت القناع الأسود.
“سأسلكُ ممر الخدم حتى أصل إلى درج الطابق الثالث، وأنتِ تحركي بشكل طبيعي.”
“مفهوم.”
كانت الخطة مرسومةً مسبقًا، فردّت سيان على ملاحظته وكأنها مجرد تأكيدٍ معتاد، وهزّت رأسها بخفة.
ثم بدأت بالتحرك.
كانت غرفة الخادمات قد تم تنظيفها بعناية حتى بدت وكأن أحدًا لم يستخدمها من قبل.
فتحت سيان الباب بحذرٍ شديد، متجنبةً أي صوت قد يصدر من المفصلات، وخرجت إلى الرواق بهدوء.
كانت الشموع التي أشعلها خدم الإضاءة تُلقي بظلال باهتة ومتقطعة على أرضية البلاط في الممر.
وكما توقعت، لم يكن هناك أي مستخدمين يمرون في تلك الساعة.
خرج كارل خلف سيان، وأغلق الباب خلفه بحذر مماثل. و تبادل الاثنان نظرة سريعة، ثم افترقا كلٌ في طريقه.
ورغم أنه وُلد أميرًا ولم يسبق له أن قام بأي عمل من هذا النوع، كانت تحركات كارل طبيعيةً وسريعة بشكلٍ مدهش.
كان يرتدي قناعًا أسود، وثيابًا سوداء، وحذاءً أسود أيضًا، مما جعله يذوب في الظلام كليًا ويختفي بهدوءٍ في أحد زوايا الممر.
وللتّحرك بسرعة عبر هذا القصر الواسع، دخل عبر ممرات الخدم السرية التي كانت ممتدةً كالمتاهة في كل الاتجاهات، واختفى فيها بالفعل.
‘أحسن عملاً، بالفعل.’
أُعجبت سيان داخليًا برشاقة كارل وذكائه في التحرك من دون أي تنسيقٍ إضافي، وكأنه يعرف تمامًا ما عليه فعله.
ثم عبرت الممر بخطى ثابتة وعادية دون أن تُخفي صوت خطواتها، لتبدو وكأنها مجرد خادمةٍ تؤدي عملها.
حتى الخادمة العادية، إن تحركت دون أي صوت، قد تثير الشكوك.
فقد يسمع أحدهم صوت خطواتها ويلقي نظرة، لكنه سيظنها مجرد خادمة مسكينة لم تستطع النوم، لا أكثر.
كانت سيان تراقب ما حولها بحذر، لكنها ظاهريًا بدت طبيعيةً تمامًا وهي تعبر الممر متجهة أولًا نحو بهو القصر.
في الواجهة الأمامية للقصر، يتصل البهو بسلمٍ يصعد إلى الطابق الثاني، ومن هناك يبدأ السلم المؤدي إلى الطابق الثالث، حيث تقع غرف الأمير.
الحراسة تتمركز عند الطريق المؤدي للطابق الثالث.
ورغم أنها لم تصعد إلى الطابق الثاني من قبل، كانت سيان تحاول التصرف بأكبر قدر ممكن من الطبيعية، مستحضرةً في ذهنها المخطط الذي حفظته من كارل.
“حين تصعدين الدرج من جانبي البهو إلى الطابق الثاني، تجدين ممرًا آخر. في ذلك الممر تتجمّع مكاتب المستشارين، ومدير الشؤون، والموظفين الإداريين الآخرين.”
ولحسن الحظ، فإن أماكن سكن هؤلاء المستشارين إما تقع خارج القلعة في منازل منفصلة، أو في مبانٍ ملحقة بعيدة عن المبنى الرئيسي، لذا لم تكن هناك أي مخاوف من مصادفتهم في هذا الوقت المتأخر من الليل.
المشكلة الحقيقية كانت في أولئك ذوي الرتب الأدنى الذين لا يُسمح لهم بمغادرة القصر، لكن يبدو أن توقيت التحرك كان موفقًا، فلم يظهر أي أثرٍ لحركة أو أصوات بشرية.
وفي هذا الوقت، حيث يغرق الجميع في نومٍ عميق، لم تكن هناك حاجةٌ لإحداث أي ضجيج، لذا خففت سيان من خطواتها قدر الإمكان أثناء سيرها في الطابق الثاني.
مرّت بتفرع مزدوج، ثم اجتازت ممرًا يمتد من الجهة اليمنى للقصر ويتجه نحو الداخل، ثم انعطفت مرةً أخرى إلى اليمين.
بهذا المسار المتعرج، وصلت أخيرًا إلى عمق الطابق الثاني في مركز القصر، حيث يقع الدرج المؤدي للطابق الثالث.
وما إن استدارت عند الزاوية المجهولة حتى وقعت عيناها على الحراس، فشهقت لا إراديًا بخفة.
كانا جنديين يقفان تمامًا كما في الصور المتخيلة لحراس البوابات، يرتديان دروعًا معدنية خفيفة، ويحملان رماحًا طويلة، وكأنهما مرسومان في مكانهما.
…..هل وصل كارل قبلي؟
____________________
كارل يجنن حاط لنفسه حقوق عند سيان عشان اعتراف هي رفضته😭
يضحكون سيان مرتزقه طبيعي حركاتها بس كارل؟ متأكد انك أمير يالخوي؟
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 26"