“لا يمكننا الاستمرار في تضييع الوقت إلى الأبد، أليس كذلك؟”
“هذا صحيح…..سأفعل ما ترغبين.”
غيّر كارل رأيه فجأة، وعندها فقط خفّت حدّة نظرات سيان الحادة.
***
كان كل من سيان وكارل، المتنكر في زي امرأة، يقفان في المكان المحدد لهما في برج القلعة ضمن قوات إيفاريد.
و كانت نسائم دافئة تداعب الأجواء بسلمية.
“سنتحرك عند الفجر. عندما يكون الخدم قد خلدوا للراحة ولم يتبقَّ سوى الحراس. فعلى أي حال، كلما زاد عدد المتحركين في المكان، زادت معه احتمالات الخطر.”
من خلف برج القلعة، كانت المنازل خارج أسوار المدينة تنفث الدخان بهدوء من مداخنها، وحقول ورد التوت، أحد المحاصيل المحلية لإيفاريد، تنتشر على مساحاتٍ واسعة بألوانها الحمراء والزرقاء.
كانت المناظر تنطق بالسلام كأن شيئًا لم يحدث، لكنها بدت متناقضةً تمامًا مع صوت سيان المصمم والمشحون بالغضب.
نظر كارل بشرود إلى ما وراء البرج، ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ دون أن يشعر.
“يا لها من سكينة لا تدرك ما ينتظرها.”
“…..ماذا تعني؟”
ارتفع حاجبا سيان باستغرابٍ من كلام كارل المفاجئ.
“أقصد المشهد أمامنا…..أليس هادئًا وكأنه الهدوء الذي يسبق العاصفة؟”
عندها فقط رفعت سيان نظرها وتفحّصت المشهد خلف أسوار البرج.
“آه…”
خرجت منها تنهيدةٌ خافتة تلقائيًا.
“…..حقًا معكَ حق.”
فجأة، تذكّرت سيان مشهد إيفاريد كما كانت منذ زمن بعيد، قبل أن تُبنى القلعة بشكلها الحالي، فشعرت بكلام كارل بعمق.
حقول ورد التوت التي تم إنشاؤها بفضل أعمال التطوير، والقرى المنظّمة داخل أسوار المدينة، كلها شكّلت منطقةً ضخمة ذات مظهر أنيق ومنظّم.
لكن آخر ما تتذكّره سيان عن إيفاريد، كان أرضًا مهجورة بالكاد يسكنها أحد، تغمرها الأعشاب البرية.
لمحت من طرف عينها كارل وهو يقف بجانبها، ينظر إلى البعيد، وقد بات يتعامل مع شعره المستعار الطويل كما لو كان شعره الحقيقي.
“هل تشعر بشيءٍ غريب؟”
“همم؟”
استدار كارل نحوها متسائلًا.
“أعني المشهد أمامنا…..فهذه الأراضي الثمينة التي بنيتها منذ طفولتكَ أصبحت الآن تحت عيونكَ، لكن و كأنك مجرد شخصٍ غريب، متنكر بزي امرأة، تراقبها من بعيد…..لا بد أنه شعور غريب.”
اتسعت عينا كارل قليلًا من المفاجأة، ثم سرعان ما ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ هادئة.
“نعم، ربما…..شعورٌ غريب فعلًا. لا أظن أنني رأيت أراضيّ بهذا الشكل من أعلى البرج من قبل.”
“قريبًا ستعود لتكون اللورد الحقيقي لها، فلا تحمل همًّا كثيرًا.”
مدّت سيان يدها نحوه دون أن تفكر، لكنها لم تجرؤ على لمس جسده، فتراجعت عنه بصمت.
‘……ماذا كنتُ أحاول أن أفعل؟’
تجهمت سيان وهي تعقد حاجبيها.
“هل كنتِ…..تحاولين مواساتي؟”
ضحك كارل ضحكةً خفيفة.
كان وجه كارل الذي بذلت سيان جهدًا كبيرًا في تزيينه قبل الخروج جميلًا إلى درجةٍ لا تثير أدنى شك في كونه رجلًا.
يبدو أن الفرق بين الوسامة والجمال ليس كبيرًا فعلًا.
تحققت من حقيقةٍ أخرى لا تهم كثيرًا في الحياة اليومية، لكنها على الأقل أُضيفت إلى معرفتها.
شعرت سيان بالحرج، فسعلت خفيفًا لتتدارك الموقف، وسرعان ما سحبت يدها التي توقفت في الهواء قبل أن يلاحظها كارل.
“مواساة؟ قلبي أنا بالكاد يحتمل، و فقط لأنني بجانبك الآن…..لا يعني شيئًا.”
“لكن بالنظر لما فعلتِهِ حتى الآن، كنتِ لطيفةً جدًا بالنسبة لشخصٍ مثلك. هذا لا يشبهكِ يا سيان.”
“ماذا فعلتُ؟ تتحدث وكأنك تعرفني منذ زمنٍ بعيد. سأخبركَ فقط، أنا امرأة ذات جاذبية لا تُحصى، كالحرباء، أغير ألواني كما أشاء.”
“هاهاها!”
انفجر كارل ضاحكًا بصوت عالٍ على كلمات سيان المليئة بالثقة.
لم يكن في المكان أحدٌ سواهما، لكن تصميم البرج المفتوح جعل صوت ضحكته القوية يتردد في الأرجاء بوضوح.
ثم أسرع كارل وأغلق فمه،
“حسنًا، سأعترف. سيدن الذكية، الجميلة، القائدة، والجذابة جدًا.”
غمز بعينه ممازحًا، من دون أن ينكر مزاحها أو يخفف من مجاملته.
رغم أنه بدا تمامًا كمن ينتمي إلى نفس جنسها، إلا أن سيان شعرت بشيءٍ يكاد يخنق صدرها.
‘…..ما هذا؟ هل أنا مريضة فعلًا؟’
بلا وعي، وضعت يدها على صدرها. و بعد وخزة خفيفة شعرت بها هناك، لم يتبقَّ سوى نبضٍ غريب وغير منتظم داخل قلبها.
فجأة، عادت إلى ذاكرتها بوضوحٍ رائحة جسده ودفء ذراعيه المتينة، كما لو كانت قد شعرت بها منذ لحظات فقط، حين استيقظت في الصباح.
حين خطرت تلك الذكرى ببالها، شعرت سيان أن وجهها سيحمر من جديد بلا سببٍ وجيه.
صحيحٌ أنها كانت مرهقةً لدرجة نومها الثقيل، لكن لم تكن مريضةً بمشي النوم حتى تنتقل إلى سريره وتعانقه بهذه الطريقة.
وحين تتذكر الحديث الذي دار بينهما في الليلة السابقة، فهذا بالفعل كان تصرفًا كارثيًا.
اعتذر كارل مرارًا وتكرارًا حتى كاد أن يسجد لها، لكن من وجهة نظر سيان، ربما كانت ممتنةً لأنه دفعها بعيدًا بتلك القسوة، فذلك منحها ذريعةً للتصرف بتجهم وإخفاء مشاعرها المحرجة والمربكة.
“…..هناك أحدٌ في الأسفل.”
حين بدأت تخشى أن تُفضح تعابير وجهها المتغيرة، جاء الصوت المتحدث أسفل البرج في الوقت المناسب.
أغلق كارل فمه على عجل، وهو الذي كان يتحدث بهدوء، وسوى شعره سريعًا.
كان يزداد إتقانًا للتنكر بزي امرأة مع مرور الوقت.
“إنه سوليفان.”
قال كارل ذلك وهو يمسك بخصلات شعره الطويل، ناظرًا إلى الرجل الذي كان يوجه العمال أسفل القلعة.
تذكرت سيان من يكون على الفور. كان الرجل الذي كان مع النائب ألفريد حين زارت القصر لطلب عمل.
“يبدو أنه هو المسؤول عن صيانة القلعة.”
“إنه أحد مديري المستوى المتوسط. لكن يمكن القول أن سوليفان هو من يتولى الإدارة الفعلية.”
“أها، فهمت.”
ردّت سيان بصوتٍ خافت وكأنها لا تهتم كثيرًا، مستمعةً إلى كلام كارل بشكلٍ سطحي.
ورغم أنهما كانا هناك لمراقبة أمن الحصن، لم يكن هناك ما يثير القلق فعليًا، لذا بقي الشعور العام مملًا.
كارل وسيان كانا يحدّقان في سوليفان الذي يعمل في الأسفل وكأنهما اتفقا على ذلك مسبقًا.
كان سوليفان يوجه العمال لإصلاح الجدار الداخلي المتهدم، و يصدر أوامر هنا وهناك، ثم رفع رأسه وكأنه شعر بنظراتٍ تراقبه.
“أوه.”
ثم اتسعت عيناه عندما رأى شخصين واقفين على البرج.
“ألستما المرتزقتين اللتين زارتانا في ذلك الوقت؟”
صاح سوليفان من الأسفل بصوت عالٍ. فأمال كارل رأسه بزاوية 45 درجة وأومأ بخفة، بينما انحنت سيان بأدبٍ وحيته.
ابتسم سوليفان ابتسامةً دافئة ولوّح بسرعة للعمال، ثم ركض مسرعًا إلى مكانٍ ما واختفى.
“…..لا يمكن هل هو قادم؟”
“يبدو كذلك.”
تحدث كارل بصوتٍ متوتر، ولم تستطع سيان أن تنكر الأمر رغم أملها بألا يكون كذلك. فقد كان الاتجاه الذي يركض نحوه سوليفان يؤدي بوضوح إلى السلالم المؤدية إلى البرج.
“…..يبدو أنه كان يشتاق لرؤيتكَ. المرتزقة الجميلة والطويلة.”
قالت سيان ذلك مبتسمةً بسخرية. فزفر كارل وألقى نظرةً مستاءة على سيان.
“سأحاول التزام الصمت. تفضلي يا سيان، تولي الأمر.”
قال كارل ذلك بنبرةٍ جادة وهو ينكز سيان في خصرها، وفي تلك اللحظة ظهر سوليفان وهو يلهث صاعدًا إلى البرج.
“سعيدٌ بلقائكما من جديد يا آنسات. كنت أتمنى حقًا أن أراكما مرة أخرى، ويبدو أنني محظوظ.”
“شكرًا على ترحيبكَ، أيها المسؤول الإداري.”
أجابت سيان، لكن عيني المسؤول سوليفان كانتا معلقتين على كارل.
“كنتُ قد أَوصيت بأن تُعاملا بشكل خاص دون أي إزعاج…..هل كل شيء على ما يرام؟”
“لقد وصلتنا الرسالة أيضًا. لقد خصصتَ لنا غرفة الخادمات، لذا نحن نقيم بهدوء دون أن نصادف رجالاً آخرين.”
‘وبفضل ذلك، تمكنا من التسلل إلى غرفة كارلستون بسهولة أكثر مما توقعنا، لذا، شكراً جزيلاً.’
لكن سيان ابتلعت هذه الجملة الأخيرة عن عمد.
“لكن…..في النهاية، نحن مجرد مرتزقةٍ نؤدي عملاً لقاء أجر، فهل يليق بنا تلقي هذا النوع من المعاملة المفرطة؟”
“لا، لا، أبدًا. فالنائب، وكذلك أنا، نشعر بعاطفةٍ خاصة تجاه الآنسة التي تعاني من النمو المفرط المؤسف..…”
قال سوليفان ذلك وهو ينظر إلى كارل بنظرة شاردة.
و كانت نظرةً يسهل أن تُفهم على أنها نظرة حنين إلى حب أول.
أمسك كارل بطرف شعره المستعارها ليغطي وجهه قليلاً من نظرة سوليفان الصريحة.
بينما شعرت سيان بشيءٍ غريب، وكأنها أصبحت طرفًا ثالثًا غير مرغوبٍ فيه، فارتسمت على شفتيها ابتسامةٌ مصطنعة مائلة.
“كم تشبهين صاحب السمو كارلستون. لا يمكنني إلا أن أظن أن هذا هو القدر بعينه. إنها لبادرةُ حسن نية خالصة من جانبنا، فلا داعي للشعور بالعبء.”
قال سوليفان ذلك، فما كان من كارل إلا أن أمسك شعره بكلتا يديه بعدما كانت تمسكه بيد واحدة.
“يا للعجب، هل كارين تشبه صاحب السمو؟ لا بد أنه وسيمٌ جداً.”
لم تكن تتوقع أن يمتلك سوليفان حس ملاحظة، لكن يبدو أنه أدرك الشبه بينهُ وبين الأمير. فأجابت سيان بابتسامةِ مجاملة ونبرةٍ مفتعلة كأنها تقرأ من كتاب.
“وسيمٌ للغاية. عندما رأيته لأول مرة، ظننته ملاكًا هبط من السماء. لقد كان وسيماً لدرجةٍ مذهلة.”
ضحك سوليفان بصوت عالٍ، أما كارل الذي كان يقف خلف سيان، فقد ابتسم بغرور بعد سماع هذا المديح.
“سمعنا أيضًا أنه حدث شجارٌ بسيط في يوم توقيع العقد الجماعي. لقد دُهشنا بشدة من امتزاج رقيّ مظهركما بطبعٍ ناري. لوهلة ظننا أن سموّه قد غيّر هيئته وعاد من جديد.”
لم يستطع كل من سيان وكارل إخفاء توترهما عند سماع كلام سوليفان. و كادت سيان أن تلتفت بلا وعي لتنظر إلى كارل، لكنها بالكاد تمالكت نفسها.
“لكنني سمعت أن سموّه لطيفٌ كالقديس.”
تدخل كارل، الذي أُجبر على تولي الحوار، بصوتٍ ارتفع بقدر درجتين من التوتر.
“أوه، لا تقولي ذلك. قديس؟ أرجوكِ! أقول هذا فقط لأنه غير موجودٍ الآن، لكن حتى كلبًا مارًا في الطريق قد ينفجر ضاحكًا من هذه المقارنة.”
انفجر سوليفان ضاحكًا بصوتٍ عالٍ، وهو يصفق بيديه كمن سمع نكتةً رائعة.
و في النهاية، لم تستطع سيان المقاومة، فالتفتت إلى كارل ونظرت إليه.
‘ما هذا الإنسان بالضبط؟’
فاهتزت عينا كارل بشدة، وكأنه شعر بطعنةٍ من نظرة سيان.
“بما أنه نشأ في العاصمة الإمبراطورية فقط، فقد أصبحت معاييره مرتفعةً وذوقه في غاية الصعوبة. لا يوجد مكان واحد في هذا القصر لم تمسّه يد سموّه، حتى إن لم يبدُ واضحًا، فكل حجر في الجدران مصنوع من أفخم المواد في الإمبراطورية. لقد كدت أموت من الإرهاق في سبيل تأمين المواد التي تناسب ذوقه.”
“حقًا؟”
تذكّرت سيان فجأة الثريا الفاخرة في غرفة الضيافة، تلك التي قيل أن أحد أحفاد الأقزام قد نحت كل بلورةٍ فيها يدويًا.
من الواضح أنهم تعرّضوا للاحتيال من قِبل أحد الوسطاء. و يمكن تخيل كم ازداد ثراء هؤلاء الوسطاء أثناء بناء القصر دون حتى الحاجة لرؤية ذلك.
“قلعة إيفاريد هذه هي فخرنا، لكن…..حين أفكر في كل ما تحملته لمجاراة مزاجه، هاه..…”
____________________
وقاعد يقول كل ذاه قدام كارل
هاعا
المهم اسلوب كتابة المؤلفة غريب تدخل جمل ببعض وتدخل موضوع وتطلع من موضوع
حاولت ازينهن بس ان كان وحده مب ضابطه عادي قولوا😘
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 25"