عندما وصل إيدلين إلى ذلك الحد من الحديث، فُتح الباب دون طرق. ثم أمسك كارل سيفه تلقائيًا رغم أنه كان يعرف تمامًا من سيدخل الغرفة.
فُتح الباب دون صوت حتى لتواء طفيف في الهواء، ودخلت إلى الغرفة هيئةٌ صغيرة مريبة ترتدي رداءً أسود يغطيها بالكامل.
“آه، كنت سأموت من شدة المشي بصمت.”
قالت سيان ذلك بصوتٍ متعب وهي تخلع قبعتها التي كانت تغطي رأسها بالكامل بعد أن أغلقت الباب ودخلت.
“كنتَ مستيقظًا؟ كان عليك أن تنام قليلًا.”
“هل يمكنني ذلك؟ بينما أنت فقط من تتحمل العناء؟”
ابتسم كارل وهو يضع سيفه، فابتسمت سيان له ابتسامةً هادئة.
“شكرًا لأنكَ تقدر ذلك. ولحسن الحظ، حصلت على زي خادمة دون أن يلاحظني أحد.”
“هذا مطمئن.”
“هل كنت تتحدث مع إيدلين؟ رغم صغر الصوت، كان يُسمع حتى من الخارج.”
أخرجت سيان زيّ الخادمة المطوي بعناية من داخل الرداء ووضعته على الطاولة. بينما ارتعشت حاجبا كارل قليلًا.
كان يعلم بشكلٍ طبيعي جدًا أن سيد التنين قادرٌ على التواصل مع تنينه دون تلامسٍ جسدي، وهذا بحد ذاته أمر لا يعرفه عامة الناس، مما جعله أمرًا يثير الشك أيضًا.
“هل ترغبين بتحيته؟”
لكن كارل أخفى تساؤله الداخلي العميق وابتسم كأن شيئًا لم يكن.
فتحت سيان عينيها بدهشة وهي تخلع الرداء.
“هل هذا ممكن؟”
لم يعلم كارل إن كانت لا تعرف ذلك حقًا أم تتجاهل الأمر فحسب. و نظر إلى سيان بتمعن للحظة وكأنه يحاول تقييمها، ثم حول نظره إلى الفراغ.
تبدلت عيناه التركوازيتان، العميقتان والواضحتان كلون الفيروز، إلى لون ذهبي متلألئ للحظة.
سيان لم تستطع أن تبعد نظرها عن كارل، وبينما كانت تفعل ذلك، ثم طوت الرداء المنزوع بعناية ودسته في حزمة الأمتعة.
في الفراغ الذي كان ينظر إليه كارل، ارتفع جسمٌ فضي اللون. وفي مشهد بدا وكأنه سحر، أو بالأحرى تجسيد مباشر لسحر التنين، أطلقت سيان شهقةً خافتة من الدهشة،
“واو..…”
“إنها المرة الأولى التي أحييكي فيها بهذه الهيئة، آنسة سيان.”
أخذ الشكل الفضي يرتفع شيئًا فشيئًا حتى اتخذ هيئةً شبيهة بالإنسان. وانسدل شعره الفضي حتى أخمص قدميه كأنه حجابٌ ناعم.
كان إيدلين على هيئة رجل، مرتديًا سترةً بيضاء أشبه بلباس أهل العصور القديمة.
كان وجهه ظاهرًا، لكنه بدا غريبًا بطريقةٍ يصعب تمييز ملامحه بوضوح.
“يا إلهي، هل هذا حقًا إيدلين؟ إنه لشرفٌ لي أن ألتقي بك.”
ردّت سيان بوجهٍ مشوش وانحنت بانحناءةٍ محرجة.
ورغم أن وجه إيدلين الذي بدا كوميض فضي لم يكن واضحًا، إلا أن سيان شعرت بوضوح بأنه كان يبتسم لها بلطف.
“يا للعجب، يبدو أنني عشت طويلًا لأرى شيئًا كهذا.”
قالت سيان ذلك بانفعال وهي تغطي فمها بكلتا يديها وكأنها التقت بشخص من الأساطير.
‘كنت أراقبكِ من خلال سيدي.’
“هل بإمكان سيد التنين فعل شيءٍ كهذا أيضًا؟ مذهلٌ حقًا..…”
وفي وسط تعجبها المتواصل، ارتسم على وجه كارل، الذي ما زالت عيناه تتلألأ بالذهب، ابتسامةَ فخر.
“التنين وسيده كجسد واحد لا فرق بينهما. ما أراه وأسمعه، يختبره إيدلين أيضًا معي.”
“وشاهدتُ أيضًا – دون قصد – كيف كان سيدي يتودد إليكِ بشغفٍ كبير.”
“اصمت.”
قال كارل ذلك وهو يضيق عينيه بعد تعليق إيدلين المفاجئ، فابتسم إيدلين بخفة.
“يا إلهي…..إذا كان لديكما قدرةٌ مذهلة كهذه، ألم نكن لنُعفي أنفسنا من كل هذا العناء؟ كان بإمكان إيدلين فقط الدخول إلى غرفة سموه.”
“هل كنتِ ترغبين بإثارة جلبة؟ ثم إن ما ترينه الآن من إيدلين ليس وجودًا حقيقيًا، بل مجرد شكل صنعته بسحري ليبدو واقعيًا.”
“ولا يمكنني التأثير ماديًا بأي شكل، آنسة.”
قال إيدلين ذلك بنبرةٍ مهذبة وكأنه يشعر بالحرج.
“آه، فهمت.”
ردّت سيان بانفعالٍ وهي تهز رأسها بإيماءة موافقة.
وكان كارل يتابع تعابير وجهها عن كثب دون أن يغفل شيئًا.
كان سلوك سيان وهي تتعلم أشياء جديدة طبيعيًا تمامًا، حتى أنه لم يكن هناك أي أثر للتصنّع أو الارتباك.
‘هل من الممكن أنها لا تعرف حقًا شيئًا عن سحر تجسيد وعي التنين؟’
تساءل كارل في نفسه. فمثل هذا الأمر يُفترض أن يكون من البديهيات لدى سيد التنين.
هل هي فقط بارعةٌ في التمثيل بفضل ذكائها، أم أنها تجهل الأمر فعلًا؟
راقبها كارل بريبة، لكنه لم يتمكن من الحسم إن كان تمثيلًا، فتصرفات سيان كانت طبيعيةً لدرجة مدهشة.
“فهمت، هذا مؤسف نوعًا ما. كان من الممكن أن يكون ذلك مفيدًا للغاية.”
“كنتُ أحدث إيدلين عن أن أخي لا يملك سببًا يدعوه لمحاولة التخلص مني. يبدو أن هناك طرفًا آخر في الخلفية يريد إشعال صراعٍ بيني وبينه.”
قال كارل ذلك من تلقاء نفسه، كأنه يحاول كسب ودها، رغم أن سيان لم تسأله.
نظر كلٌ من إيدلين وسيان إلى كارل في الوقت نفسه.
“طرفٌ آخر في الخلفية…..هذا احتمالٌ جدير بالشك فعلًا. الشخص الذي قد يستفيد من إشعال الخلاف بين صاحب المرتبة الأولى والثانية في وراثة العرش، أي بين ولي العهد وسموك، ربما يكون هو الماركيز صاحب المرتبة الثالثة في وراثة العرش؟”
قالت سيان ذلك وكأنها نبيلة على دراية تامة بخفايا القصر الإمبراطوري، فاستنتجت ببراعة النتيجة التي توصل إليها إيدلين وكارل.
اكتفى كارل ذلك بابتسامةٍ ظاهرية بلا مشاعر حقيقية.
“نعم.”
“إنه احتمالٌ وارد فعلًا، لكن لماذا الآن بالضبط؟ لو كان يطمع في وراثة العرش، فقد سنحت له فرصٌ كثيرة من قبل.”
فعدوٌ واحد أسهل في التعامل من اثنين، ولإشعال صراع، لا بد من وجود نقطة ضعف في التوقيت. وهذا أمر بديهي. فالإمبراطور، الذي كان يملك تنينًا ملكيًا مرافقًا له، قد سقط مريضًا منذ وقتٍ طويل.
ولو كان الماركيز يطمع في وراثة العرش، لكانت اللحظة المثالية للتحرك هي ذلك الوقت، حين سقط الإمبراطور، واضطربت أوضاع الإمبراطورية داخليًا وخارجيًا.
حينها، كانت قاعدة ولي العهد ضعيفة، ولم يكن الأمير قد استقر تمامًا في إدارة إيفاريد كما هو الحال الآن.
“أنا أيضًا أجد هذه النقطة محيّرة. بالإضافة إلى أن عمي، بحسب معرفتي به، ليس طموحًا لتلك الدرجة، ولا يملك الجرأة لإشعال حربٍ أهلية.”
“حتى لو كان الماركيز هو من دبّر الأمر، فقد يكون هناك طرفٌ ثالث خلفه، شخص دفعه إلى الطمع في وراثة العرش من وراء الكواليس.”
“كما هو متوقع من آنسةٍ نبيلة ذكية. نعم، هذا تمامًا ما يساورني وسيدي من شك.”
ردّ إيدلين على كلام سيان بابتسامة، وكانت سيان قد احمرّ وجهها قليلًا وكأنها شعرت بالخجل من مديح إيدلين، ذلك التنين العظيم المتحدر مباشرةً من إيغدراسيل، تنين التأسيس الأسطوري.
“ولماذا احمرّ وجهكِ؟ عندما أمدحكِ أنا، تتلقينه كأنه أمرٌ طبيعي.”
قال كارل وهو يضيق عينيه بتذمر من رد فعلها الخجول، فردّت سيان وهي تسعل بخفة لتستعيد توازنها،
“صحيح أنني ذكية، لكن عندما يمدحني تنين…..أشعر بالفخر. من في هذا العالم قد يحظى بمثل هذا المديح من إيدلين؟”
عند ردها هذا، عبس كارل ومدّ شفتيه بامتعاض.
“بما أن الحديث جاء بهذا الشكل، تذكرت شيئًا كنت أنوي قوله لكني نسيت…..كارل، ألم تقل أن الذي هاجمك كان فارس التنين أنطونيو؟”
“ولماذا تسألين عن هذا فجأة؟”
قال كارل ذلك وهو يقطب حاجبيه باستغراب، ثم سرعان ما غيمت ملامحه وارتسمت عليها ظلالُ ذكرى مضطربة من ذلك اليوم.
وبدلاً من الرد، أخذت سيان تفتش في حزمة الأمتعة حيث كانت قد وضعت رداء التسلل، ثم أخرجت منها صندوقًا صغيرًا.
وعندما رآها إيدلين تفعل ذلك، تراجع خطوةً إلى الوراء بتردد.
“…..ما هذا؟”
قال كارل ذلك وهو يحدّق في الصندوق الصغير الذي أخرجته سيان، وقد تصلب وجهه على غير عادته، وشعر بقشعريرةٍ وكأن جسده بدأ ينهار فجأة.
كان برد قارس ينبعث من ذلك الصندوق.
“هذا خنجرٌ سحري استخرجه الطبيب جيفي بعد الجراحة. كان مغروزًا في جانبكَ.”
وحين فتحت سيان الصندوق، اهتزّ الضوء الفضي الذي شكّل جسد إيدلين كما لو أنه تعرض لعاصفةٍ قوية.
وضع كارل يده على رأسه بحدة كما لو أنه يعاني صداعًا قويًا بسبب صرخة إيدلين الصامتة.
ومن البرد القارس الذي تسرب من الصندوق المفتوح، فقد إيدلين هيئته البشرية وتحوّل إلى كتلةٍ صغيرة من الضوء الفضي تشبه لهب الروح.
شعر كارل بعرقٍ بارد ينساب على ظهره، وتقلص وجهه من الألم. ثم نظر إلى الصندوق بنجمّد.
“هذا هو..…”
“أنا لا أعرف، وأنت لا تعرف، لكن إيدلين بالتأكيد يعرف أفضل منا ما هذا.”
ابتعد إيدلين عن الصندوق وبدأ يدور حول كارل، عاجزًا عن الاقتراب منه.
بعد أن فقد شكله البشري، لم يعد إيدلين قادرًا على إيصال صوته إلى سيان. لكن كارل، الذي سمع صرخته، تمتم بصوتٍ خافت، وقد شحب وجهه،
“عظمة تنين..…؟”
أومأت سيان برأسها.
“ليست عظمة تنين عادية. إنها عظمة انتُزعت من لحم تنين حي.”
مع إجابة سيان، أطلق كارل أنينًا مكتومًا وهو يقبض على ساعده.
شعر بقشعريرةٍ تخترق عظامه، وتفجر العرق البارد على صدغيه.
و لم يكن يعلم إن كان مصدر هذا الصداع المدوي، وهذا الصراخ المرعب الذي يملأ رأسه، هو إيدلين، أم التنين داخل الصندوق الذي تمسك به سيان.
إيدلين لم يستطع الاقتراب من سيان، وظل يدور فوق كتف كارل مثل طيف عاجز.
“هل تظن أن إيدلين يعرف من أي تنينٍ هذه العظمة؟”
“لا أعلم. ولا يبدو أن لدى إيدلين القدرة على تمييز ذلك الآن.”
رد كارل وهو يعض شفته، محاولًا كبح الألم، غير قادر على احتمال الصراخ داخل رأسه، فأغمض عينيه بإحكام.
وحين فتحهما مجددًا، كانت القوة السحرية الذهبية التي كانت متصلةً بإيدلين قد اختفت، وعاد لون عينيه إلى فيروزيّ كحجر الفيروز.
واهتز وعي إيدلين الذي كان يطفو حوله، كشمعة في مهب الريح، ثم تلاشى تمامًا.
أما سيان، فوقفت تراقب كارل وإيدلين بهدوء، دون أن تُظهر أي تعاطفٍ مع معاناتهما.
تنفّس كارل الصعداء بعدما تخلّص أخيرًا من الصراخ المُمزّق الذي كان يسبب له صداعًا حادًا.
و رغم أن الألم في رأسه قد زال، فإن القشعريرة التي نخرت عظامه لم تختفِ بعد.
“هذا شيءٌ نادر للغاية يصعب العثور عليه حتى في السوق السوداء، منذ انقرض نسل صائدي التنانين. عند اقتلاع عظمٍ من تنين حي، يبقى الألم السحري الذي يشعر به التنين منقوشًا في العظم، فيتحول إلى أداة مشحونة بالقوة السحرية. وكما رأيت من رد فعلك و رد فعل إيدلين، فهي مادةٌ سامة وخطيرة للغاية على كل من له صلة بالتنانين.”
شرحت سيان الأمر بهدوء. بينما ظل كارل مضموم الشفتين وهو ينكمش على نفسه من شدّة البرد المريع الذي يشعر به.
“من الواضح أن هذا ليس شيئًا يمكن أن يستخدمه سادة التنانين. هل تعتقد أن سمو ولي العهد كان يعلم أن فارس التنين أنطونيو استخدم مثل هذه الأداة؟”
هزّ كارل رأسه نافيًا بقوة، وما زال قابضًا على ذراعه.
“مستحيل. أخي ليس مثلي. هو يكره صائدي التنانين بشدة…..لا يمكن أن يكون سمح باستخدام أداةٍ كهذه.”
أومأت سيان برأسها.
“إذن أنطونيو تصرّف من تلقاء نفسه.”
قالت ذلك وهي تغلق غطاء الصندوق.
وبمجرد أن أُغلق، خفّت القشعريرة التي كانت تعذّب كارل كما لو أن الصندوق قد كُسر عنه سحر ملعون. و بات قادرًا على التنفّس أخيرًا، وزفر بعمق، بينما وجهه ما يزال شاحبًا.
عندها فقط أدرك أنه كان عاجزًا حتى عن التنفس بشكل صحيح طوال هذا الوقت.
“لو لم أكن أنا من عثرت عليكَ، لكنت الآن ميتًا. ليس من الإصابة، بل من السم الذي تبثّه تلك الأداة.”
“…..لهذا السبب سألتِ سابقًا من الذي هاجمني، أليس كذلك؟”
“بالضبط. أعلم بشكلٍ عام ظروف الإمبراطورية، لكنني لا أعرف بالتحديد ما نوع الأشخاص هم ولي العهد أو فارس التنين أنطونيو. لذا كنت بحاجةٍ إلى التأكد.”
_________________
اوه ايدلين طلع رجال عشان اسمه حسبته حرمه
كح
المهم يحزن واضح ايدلين حس بصرخة التنين 😔
بس اعجبتني برودة سيان😭
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 23"