لم تعد الأصوات في رأسها تثرثر بعد الآن.
لم يكن واضحًا إن كان قد قبل التوبيخ بأن يتوقف، أم أن ما لديه من كلام قد انتهى عند ذلك الحد.
وبما أن الصوت الذي كان يزعج أفكارها ويقاطعها اختفى، فقد بات بإمكانها التركيز بسهولةٍ أكبر على وضع خطة للتسلل إلى غرفة الغسيل.
كانت سيان تمضي بإصبع السبابة متتبعةً الطريق من مكان سكن الخادمات إلى غرفة الغسيل كما لو كانت تستعد لاختبارٍ مهم، وهي غارقةٌ في التفكير.
“……هل الحديث مع النفس هي هوايتكِ؟”
“اصمت.”
لم تكن قد ركزت كثيرًا بعد، حتى سمعت صوتًا خافتًا من جديد. فردّت دون تفكيرٍ كأنها تقذف بالكلام، ثم أدركت سيان أن هناك شيئًا غريبًا.
الصوت الذي سمعته قبل قليلٍ كان يتردد في رأسها كطنين، أما هذا الصوت الخافت فقد بدا وكأنه أتى من خلفها، عبر أذنيها.
مستحيل…..
وعندما أدارت رأسها بتوتر، رأت خلفها كارل وقد استيقظ في لحظةٍ ما، يتكئ على ذقنه وهو مستلقٍ على جنبه يحدّق بها.
وفي اللحظة التي التقت فيها بعينيه الزمرديتين الواضحتين الجميلتين، شعرت سيان بقشعريرةٍ حقيقية تسري في عمودها الفقري.
“أ…..أنتَ، هل استيقظت؟”
ما هذا، متى استيقظ؟ من أي جزءٍ سمع؟
عصفت برأسها أسئلةٌ لا تجرؤ على طرحها، وقد امتلأت أفكارها بالذعر والارتباك.
كان وجه كارل يبدو مترنحًا وخاملًا، لكن النظرة التي رفعها نحو سيان كانت مختلفة تمامًا عن ملامح القط الكسول التي يوحي بها وجهه.
عيناه الزمرد الصافيتان اللتان لا يُدرى عمقُهما، راحتا تتفحصان سيان بوضوح وقد امتلأتا بالريبة والتساؤل.
“من العجوز الذي كنتِ تتحدثين عنه؟ لا تقولي أنكِ تقصدينني.”
“آه؟ هل سمعت؟”
ابتسمت سيان بتصنّع، محاولةً إخفاء ارتباكها.
“لا يمكن أن أكون قصدت كارل بكلمة العجوز، أليس كذلك؟ كنت أقصد نفسي، أنا. كلما تقدمت في السن، بدأت تطرأ على بالي أفكارٌ لا فائدة منها.”
غيّر كارل زاوية رأسه وهو يحدّق بسيان بثبات.
النظرة من الزاوية الجديدة كانت أكثر شكًا، ولم تحمل أي إشارة لتصديق ما قالته. من الواضح أنه لم ينطلِ عليه هذا الكذب المكشوف.
“…..كم عمركِ بالضبط؟”
ومع ذلك، لم يضغط كارل في سؤاله، بل بدا وكأنه قبل الأمر بسهولة. وكانت سيان هي من شعرت بالغرابة في المقابل.
كان من الواضح من نظراته أنه لم يصدقها على الإطلاق، فلماذا لم يُمعن في السؤال؟
“أكبر من سمـ…..أعني، أنا أكبر من كارل.”
“أعرف ذلك، ما أريد معرفته هو تاريخ ميلاد الآنسة سيان روزفلت بالتحديد.”
سأل كارل بوجه بالغ الجدية. عندها فقط كادت سيان تطلق تنهيدةً لكنها كتمتها في اللحظة الأخيرة.
فلم يكن قد أزال شكوكه إذاً.
إنه يعلم جيدًا أنها لن تعطيه إجابة صادقة حتى لو أصر، ولهذا غيّر زاوية الهجوم بدلًا من الاستمرار في الضغط.
“هل تنوي الاحتفال بميلادي بطريقةٍ محرجة؟ آسفة، لكن سأكتفي بنواياكَ الطيبة. سيكون من المربك أن أترقب هدية من سموك…..أنا لست بهذا القدر من المادية، كما تعلم.”
تظاهرت سيان بالبراءة مستخدمة مهارتها المعتادة في التهرب.
لم تكن مسألة اختلاق تاريخ ميلاد وهمي أمرًا صعبًا، لكنها لم ترغب في الكذب. فقد كان التهرب والتجاهل أكثر راحةً بالنسبة لها.
كان من الواضح لسيان أن كارل يحاول التنقيب عن ماضيها، بدءًا من اسمها الحقيقي الذي سأل عنه في المرة السابقة وصولًا إلى تاريخ ميلادها.
نواياه كانت مكشوفة تمامًا في نظرها.
هي التي أظهرت بعض الثغرات المريبة، لذا لم يكن من العدل أن تلومه تمامًا على محاولته التحري. لكن، هذا لا يعني أنها ستسمح له بنبش ماضٍ دفنته بإرادتها بكل بساطة.
فهو لا يملك في صفه سوى تنين واحد، فماذا عساه أن يتقدم في التحقيق؟
“هممم..…”
حين ردّت سيان بطريقة متهربة، أطلق كارل صوتًا غامضًا.
رغم نبرته المتراخية، كانت نظراته تمسح دواخلها كما لو كان يريد رؤية أفكارها.
“أتنوين التهرّب بهذه الطريقة..…؟”
قال ذلك دون أي نبرة انزعاج، وقد أصبح الآن يعرف سيان بدرجة لا بأس بها.
“هذا ليس وقت هذا الكلام، أليس كذلك؟ من يشعر بالانزعاج من مشاركة الغرفة معكَ هو أنا، لا أنت. علينا أن ننهي مهمتنا في هذا القصر بأسرع وقتٍ ممكن-”
“مهلًا، سيان.”
قاطعها كارل ووقف فجأة.
أما سيان، فاستدارت نحوه وهي لا تزال تضع يدها على المخطط. ومن واقع خبرتها، كانت تعلم أن الوقت الأنسب للتصرف بثقة هو عندما يشعر الإنسان بالريبة.
“أنتِ من قلتِ أننا أصبحنا في صفٍ واحد بعد توقيع العقد، وأنه من الضروري أن نعرف بعضنا. و أنتِ من سألتني عن هويتي، عن الخطر الذي أواجهه، بل وحتى عن آرائي حول الزواج. لكن ماذا أعرف أنا عنكِ؟ غير أنك كنتِ من النبلاء والآن تعملين كمرتزقة، لا أعلم شيئًا آخر عنكِ.”
قال كارل ذلك وهو يعقد ذراعيه وينحني قليلًا إلى الأمام كمن يحاول الاقتراب أكثر من سيان.
فتحت سيان عينيها بدهشة.
“ما هذا؟ أتقول كلامًا كهذا بذلك الوجه الوسيم وتريد مني ألا أتأثر؟ أنتَ تتحدث وكأنكَ معجبٌ بي فعلًا.”
“ألا يمكن؟”
أمال كارل رأسه قليلًا، وكان وجهه جادًا بلا أدنى أثر للابتسام.
كان قد قال ذلك متوقعًا رد فعل مفزوعًا مثل المرة السابقة، عندما صاحت سيان “ماذا تقول؟!”
لكنها فتحت فمها بدهشة عند سؤاله القصير الذي قلب توقعاتها رأسًا على عقب.
“ما السبب الذي يمنعني من الاهتمام بكِ على الصعيد الشخصي؟”
وبينما لم تُعرف إن كانت دهشة سيان نابعةٌ من الصدمة أو الارتباك، ارتسمت على وجه كارل ابتسامة راضية، كأنما وجّه لها ضربةً مباشرة ناجحة.
“قبل أيامٍ فقط كنتَ ترتعب من الفكرة، فما الذي تفعله الآن؟ أبهذا الكلام تعتقد أنني سأُحرج وأبدأ بالكشف عن كل تفاصيل حياتي الصغيرة؟”
“لا أتوقع كل ذلك، لكن على الأقل أريد أن نبدأ من نقطة توازن. الآن، من الواضح أن الكفة تميل تمامًا إلى جهةٍ واحدة، أليس كذلك؟”
“بل المدهش فعلًا أنكَ تعتقد أنني يمكن أن أكون في كفة متوازنة مع سموك. دعني أكون صريحة، معلوماتك كأمير تُعدّ ملكًا عامًا، أما أنا فلا.”
“مِلْكٌ عام؟”
ضحك كارل ساخرًا من وصف سيان.
“لو سمع أحدهم هذا الكلام لظن أنني محبوب الجماهير أو شيء من هذا القبيل.”
“لستَ محبوب الجماهير، بل مالكهم جميعًا. أنت أمير. الوضع الآن مجرد ظرفٌ مؤقت، لكن عندما تُبرَّأ من التهم، ستعود إلى حياتكَ، ولن يكون بيننا أي صلة بعد ذلك.”
“آه، هكذا إذًا؟”
اتسعت عينا كارل وكأنه التقط خيطًا جديدًا من حديثها، وبدت على وجهه ملامح من التقط شيئًا مهمًا.
“لطالما كنتِ قويةً في مظهركِ، لكنكِ تخفين جانبًا هشًا أيضًا، أليس كذلك، سيان؟ هل ظننتِ أنني بعد أن أبرئ نفسي بمساعدتكِ، سأرحل إلى الأبد مع إيدلين؟”
نظرت سيان إلى كارل نظرةً ثابتة وصامتة.
ما هذا؟
لم تستطع سيان أن تتجاهل الإحساس بأن الحوار بدأ يأخذ منحنىً غريبًا.
صحيحٌ أنها لا تستطيع إنكار أن بعض تلك الأفكار راودتها، لكنها لم تغُص يومًا في التفكير بذلك العمق.
الإعجاب بشخصٍ يملك وجهًا وسيمًا وخلفيةً مثالية ويمتلك كل شيء، لم يكن سوى حادث عرضي، كأن تصطدم بخنزير بري عن طريق الصدفة، لا أكثر.
لم تتمنَّ يومًا أن تربطها به علاقةٌ ما، ولم تأمل بشيء منه على الإطلاق.
ومع ذلك، كانت المحادثة مع كارل غريبةً بشكل مبهم…..هل يُعقل أنه يعني ما يقول فعلًا؟
بدأت مشاعر قلقٍ مبهمة تتسلل إلى قلبها دون أن تدري.
“ما الذي تقصده بكلامكَ؟ لا أستطيع فهم نيتكَ على الإطلاق.”
قالت سيان ذلك وهي تعقد حاجبيها وتحدّق في كارل مباشرة، وكأنها تأمل أن ترى ما في داخله من خلال النظر في عينيه.
لكن كارل، رغم نظراتها الصريحة، لم يُظهر شيئًا سوى ضحكةٍ هادئة كضحكة شخص كبير متسامح.
“كلامي لم يكن معقدًا إلى هذا الحد. أنتِ من تفترضين أنني أخفي نوايا أخرى، ولهذا تجدين صعوبةً في فهم المعنى الحقيقي.”
“ألستُ في وضعٍ يجعلني مضطرةً للشك؟ هل تسخر مني لأنني شعرت بالحرج قبل قليل؟ أم أنكَ تحاول اغتنام الفرصة لتفرض سيطرتكَ علي؟ هذا تصرفٌ طفولي.”
ردّت سيان بامتعاض، فضحك كارل.
لم تكن ضحكةً مسليّة بقدر ما كانت ضحكةً ساخرة كمن لم يعد يملك تعليقًا.
“أنتِ لا تسألينني لأنكِ تجهلين الأمر فعلاً، أليس كذلك؟”
“أسأل لأني لا أعرف، ولو كنتُ أعرف، فلماذا..…”
“أنا أحاول إغواءكِ الآن.”
قاطع كارل حديثها ورمى كلماته ببرود.
“…..ماذا؟”
ردّت سيان لا شعوريًا من شدة الارتباك، وما إن نطقت بردها حتى أدركت أنها أعادت السؤال بنفسها.
وحين رأى كارل ملامحها وقد انهارت فيها كل حواجز الحذر دفعةً واحدة، أدرك أنها كانت…..بالفعل تصدقه.
لكن سيان تأكدت من أنها لم تتقبل المعنى حرفيًا بسهولة.
“…..سموك تحاول إغوائي؟ أنا؟”
سألت بصوتٍ يفيض بالذهول، بعد لحظة من الارتباك و لم تصدق ما سمعته.
أومأ كارل برأسه بخفة.
“…..ولماذا؟”
“أحاول أن أنجح في الأمر، لا أكثر؟”
ردّ على سؤالها بسؤال، ولم تستطع ملامح سيان المصدومة أن تستعيد توازنها.
“…..هل كذبت عندما قلت أن لديكَ أموالًا مخفية؟”
سألت سيان فجأة بعد أن انتهت من التفكير، فاتسعت عينا كارل بدهشة.
“ما الذي تقصدينه فجأةً الآن؟”
“لم تلمّح بشيء طوال الوقت، وفجأة تقول كلامًا كهذا؟ الوضع مريب. كل ما نحتاجه هو اقتحام غرفتكَ في الطابق الثالث وسرقة المال، وينتهي كل شيء. أليس التوقيت غريبًا؟ هل تنوي أن تجعلني أتراخى لتسرق أعضائي الداخلية أو شيءٍ من هذا القبيل؟”
“…..هاهاها!”
انفجر كارل ضاحكًا بصوت عالٍ على سؤالها المليء بالريبة والجدية.
“أوه، يا إلهي…..سيان…..أنتِ حقًا موهوبةٌ في إضحاك الناس.”
“لا تضحك. أنا أتكلم بجدية.”
ظل كارل يضحك طويلاً وهو ممسكٌ ببطنه، بينما لم تفهم سيان على الإطلاق سبب تلك الضحكة العارمة على تساؤلها الجاد، الذي لم يكن بدافع المزاح أو التهرب من الموقف.
“مهما كنت، لا زلتُ أميرًا وأملك كرامتي. هل تظنين أنني سأقوم بكل هذا لأسرق كليتيكِ أو أي شيء من امرأة لا تملك شيئًا؟”
ضحك كارل بهدوء وثقة، بينما وقفت سيان تحدّق فيه مذهولة، وقد أُخرست تمامًا من شدة الدهشة.
لم تكن تدري كيف تتعامل مع إغواءٍ مفاجئ من شخص كانت تظن أنه من المستحيل أن تتورط معه شخصيًّا على أي مستوى.
حتى لو كان الآن في وضعٍ حرج وتحت تهمة ملفقة، يبقى الأمير أميرًا. وكما قال، لا مجال للمقارنة بين ما يملكه هو وما تملكه هي.
وحتى لو افترضت أنه يتصرف بدهاء لغايةٍ ما، فلم يظهر أنه سيكسب شيئًا فعليًا من ذلك.
فإن لم يكن هناك مصلحة متبادلة…..فهل هو صادق؟
“…..هل تظنين بجدية أنني أُخفي نوايا ما؟ وتتساءلين ما الذي أريده بالضبط؟”
قال كارل ذلك بابتسامة، كأنه قرأ أفكارها تمامًا بينما كانت غارقةً في صمتها.
وكان كلامه صحيحًا تمامًا. فلم تشعر سيان حتى بحاجة إلى إنكار ذلك.
_____________________
اهخ يجننون علاقتهم تضحك😭
شسمه ليت سيان قالت عمرها
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 19"