اندفعت سيان بكلماتٍ حادة نحو كارل الذي فقد كلماته.
عبوس كارل وارتباك ملامحه ظهر واضحًا عندما رأى النظرات النارية في وجه سيان وهو مكتّف الذراعين.
“مجرد إشاعةٍ كاذبة. من يمد خده الأيمن بعد أن يُصفع على خده الأيسر، هذا ليس قديسًا بل أحمق.”
تمتم كارل وهو ينقر بلسانه بضيق.
“إنها أشاعةٌ سخيفة نشرتها بنفسي لأبدو كالأحمق، لكن للأسف اتخذت مسارًا مختلفًا.”
“أأنت من جمّل صورة نفسه بنفسه؟ يا للوقاحة.”
أضافت سيان بنظرةٍ مقززة. فضاقت عينا كارل باستياء.
“قلت لكِ، لم أطلقها لأبدو حسنًا.”
قال ذلك ثم أطلق تنهيدةً طويلة وهو يمسح شعره المستعار الطويل.
“كنت تحاول أن تثير إعجاب ولي العهد؟ بنشر إشاعةٍ عن كونك أحمق عمدًا؟”
“أجل. حتى لو كانت الأرض مهجورة تمامًا، فلو بدأت بتكوين نفوذ هنا، قد يشعر أخي بخطرٍ مني. لذا كان يجب أن أبدو كشخصٍ بلا نية سوى بناء مأوى لنفسي، سواء كنت أحمقًا أو غبيًا، حتى يطمئن أخي.”
“آه……؟”
أصدرت سيان صوتًا غامضًا، لا تعلم هي نفسها إن كان تنهيدةً أم اندهاش، مع رفعت حاجبيها.
نشر إشاعة عن نفسه ليبدو غبيًا وساذجًا، لكن صورته كأمير يعمل بجد في بناء قلعته وسط أرض قاحلة، أثرت في قلوب الناس، فحوّلوا صورته من أحمقٍ إلى قديس.
لكن بدلًا من أن يطمئن ذلك ولي العهد، جعله أكثر توترًا وحذرًا……هكذا جرت الأمور، أليس كذلك؟
“حسنًا، لنفترض أن ما قلته صحيح. لكن ما فعلته مع ذلك الرجل القبيح كان قاسيًا جدًا. نحن بالكاد امرأتان هنا، وهذا يجعلنا بارزتين، فما الفائدة من جذب المزيد من الأنظار؟ كل ما سيحدث هو أننا سنواجه صعوباتٍ في التحرك داخل القلعة.”
“هاه….”
تنهد كارل بعمق، ثم أمسك جانبي شعره كما لو كان يرتب قبعةً، وشدهما إلى الأسفل.
يبدو أنه بدأ يجد متعةً في العبث بشعره الطويل جدًا.
“من كان يتوقع أن يتعرف عليّ فارسٌ لا أذكره حتى؟ و صحيحٌ أنني كنت متهورًا، أعترف بذلك.”
قال ذلك هامسًا وهو يحدّق في الفراغ،
“الأمر مرهق..…”
هزّت سيان كتفيها بلا اهتمام.
والآن بعد أن تذكّرت، إيدلين، التي غادرت العاصمة بعد أن منحو كارل أرض إيفاريد القاحلة حين كان عمره بالكاد تجاوز العاشرة، هي سيدة تلك الأرض.
يبدو في مظهره وكأنه بالغ ناضج، لكنه في الواقع أصغر من سيان نفسها. و في هذه اللحظة، بدا تمامًا كشابٍ عادي مفعم بالحيوية في مثل عمره.
فكّرت سيان بذلك، وواصلت سيل انتقاداتها دون رحمة.
“أنتَ تشعر بالتوتر فتصب غضبك على أي شخص؟ طالما أنكَ تدرك أنك كنت متهورًا، فهذا يكفي. فقط كن حذرًا في المرات القادمة. وبما أن الأمور وصلت إلى هذه النقطة فلا خيار أمامنا..…”
وكان في منتصف حديثها حين أطلق كارل تنهيدةً عميقة وكأنما يقول “اختفِ”، وفجأة بدأ بفك أزرار قميصه.
ظهر عنقه الأبيض الممتد وعظمتا ترقوته بوضوح، فانفتح فم سيان بدهشة.
“مـ-ماذا…..ماذا تفعل الآن؟!”
“….؟ أخلع ملابسي، ألا ترين؟”
“أتعقد أنني لا أعرف ما تفعله؟ سؤالي هوى لماذا تخلعها فجأةً هكذا؟!”
رغم أنها رأت رجالًا بلا قمصان من قبل، إلا أن وجهها احمرّ بشدة، وفجرت صوتها دون قصد.
‘مـ-ما هذا…..’
لم تفهم لماذا احمرّ وجهها فجأة على غير عادتها.
رغم أن كارل فك معظم أزرار قميصه، إلا أن الضمادات الملتفة بإحكام لإظهار صدرٍ مزيف منعت ظهور الكثير من بشرته.
ما بدا بين طيات القميص المفتوح لم يكن سوى جزء من عنقه الطويل، وعظمتا الترقوة المستقيمتان، وجزءٌ صغير من عضلات بطنه المشدودة.
رغم أنها رأت أجساد رجال من قبل، فلماذا…..لماذا يبدو هذا الشخص مختلفًا؟
شعرت سيان بارتباكٍ شديد، واكتفت بالتفكير داخليًا.
ومع ذلك، لم تستطع منع نظراتها من الانجذاب نحو جسده مرارًا، حتى بدأت تشعر بعرق بارد يتكوّن.
نظر كارل إلى ردّة فعلها المحرجة بوجه مشوش ومستغرب.
“الضمادات ضيقت عليّ أنفاسي، لذا فقط فتحت بعض الأزرار. لم أخلع ملابسي كلها حتى تعامليني وكأني مصابٌ بهوس التعري.”
“لـ-ليس هذا ما أعنيه..…”
“في المرة الماضية، رأيتُ المرتزقة الآخرين يتجولون بلا قمصان بسهولة، أليس مسموحًا لي أنا أيضًا؟”
“آه…..”
تأوهت سيان بخفة. و لم تجد ما ترد به.
فكما قال كارل، لم تكن تهتم إطلاقًا إن كان المرتزقة الآخرون يخلعون قمصانهم أو يكشفون عن أفخاذهم، فلماذا الآن؟
“ثم، ماذا بوسعي أن أفعل؟ لا يمكنني الخروج والتعري هناك. إن لم يعجبكِ المنظر، فلتشيحي بنظركِ يا آنسه، أليس ذلك أفضل؟”
قال كارل ذلك بابتسامةٍ طويلة وهو يرفع زاوية فمه، وكأن فكرةً ما راودته.
أما سيان، فبوجهٍ محمر، عجزت عن الرد وتمتمت بكلماتٍ غير مفهومة.
ولم تصرف بصرها عن جسده وتدير ظهرها له إلا بعد أن انطبعت في ذهنها تمامًا الخط الممتد من عنقه إلى عظمتي الترقوة، وشكل عضلات بطنه.
ومن شدة الإحراج والندم، استدارت سيان وأمسكت شعرها بكلتا يديها خلف رأسها كي لا يراها كارل.
‘حدّقت فيه دون وعي…..لقد نظرت إليه فعلًا.’
زاد شعور سيان بالاشمئزاز من نفسها، خصوصًا بعد أن أدركت مجددًا أن هذا الأمير أصغر منها سنًا.
كان من المفترض أن تُشيح بنظرها منذ البداية كما قال هو، لكنها بدلًا من ذلك، فتحت عينيها على اتساعهما وحدّقت فيه، وكل ما خرج من فمها كان “ماذا تفعل؟”
ما هذا الانحراف غير الصادق؟! والأسوأ، أنه شابٌ أصغر مني!
“كح، هممم…..على أي حال، إذا كنت تنوي خلع ملابسكَ لاحقًا، فأرجو أن تنبّهني مسبقًا. أنتم أمير وليس من اللائق أن تتصرف مثل المرتزقة.”
“موقفكِ يتبدل بسرعة يا سيان، على غير عادتكِ. ألم تقولي لي منذ قليل أن أتذكر أنني مرتزق الآن؟”
“عندما نكون وحدنا، الوضع مختلف!”
قالت ذلك بحدّة، ثم استدارت لتنظر إليه، لتدرك فجأة أنه اقترب منها أكثر من قبل.
ومع أن وجهه الوسيم الجميل، الذي كانت سيان تضعف أمامه، كان قريبًا جدًا، إلا أن كارل بدا وكأنه وجد في هذا الموقف شيئًا مسليًا، فظهرت على وجهه نظرة صبيانية مرِحة.
“مـ-ماذا بكَ؟ لماذا اقتربتَ هكذا..…؟”
رغم المكياج المتقن والشعر المستعار الطويل، إلا أن ملامح وجهه من هذه المسافة القريبة لم تستطع إخفاء كونه رجلًا.
شعرت سيان بنبضٍ مفاجئ في صدرها، وضغطت على قلبها بيدها وهي تتمتم، خائفة من أن يكون صوت دقات قلبها مسموعًا للآخرين.
هل سينكشف أنني وقعت في حبه بهذه السرعة؟
ولأول مرة، بدأت تتفهم موقف كارل حين كان غاضبًا بشدة لأنه لم يُمنح غرفةً منفردة.
“…..لأنني كنت أقف هنا منذ البداية؟”
بسبب أحمر الشفاه، بدت شفتا كارل الممتلئتان أجمل من المعتاد، وقد انحنتا بمكرٍ خفيف وهو يتكلم بصوت خافت.
رغم أن جمال شفتيه لم يتناسب مع نبرة صوته العميقة، إلا أن سيان شعرت بقشعريرةٍ تجتاح جسدها.
مدّ كارل ذراعه إلى جانب كتف سيان المتيبس، وكانت هناك على الطاولة حقيبةٌ صغيرة من الأمتعة.
“أ-أنا! سأخرج قليلًا للقيام بجولةٍ تفقدية!”
صرخت سيان فجأة. بينما أمسك كارل بالحقيبة الصغيرة، ثم رفع يديه عاليًا كما لو ليؤكد أنه لم يكن يقصد مضايقتها.
“اذهبي.”
“والباب! إن كنت ستبقى بهذا الشكل، تأكد من إغلاق الباب جيدًا! لا يجب أن يراك أحد!”
“حسنًا.”
بينما احمرّ وجه سيان بشدة من الحرج حتى شعرت بالحرارة تتصاعد منه، ابتسم كارل بهدوء، وكأنه لم يتأثر بشيء.
خرجت سيان مسرعةً من الغرفة كمن يفرّ هاربًا، والحرارة في وجهها لم تهدأ بسهولة.
‘لقد انتهى أمري، هذه كارثة أكبر بكثير مما تخيلت.’
همست لنفسها وهي مستندةٌ إلى باب الغرفة تمسك وجهها المحمّر بكلتا يديها.
***
‘هل يعقل أن يكون لها جانبٌ لطيف أيضًا؟’
من جهته، نظر كارل نحو الباب الذي خرجت منه سيان بنظراتٍ مليئة بالاهتمام.
كانت تلك المرأة التي تردّ على المجاملات الوقحة بأريحية وبلا خجل، قد احمرّت خجلًا وهربت، مما أثار دهشته.
كان من المفترض أن تتوقع مثل هذا النوع من المواقف منذ اللحظة التي قيل لها إنها ستشاركه الغرفة. ويبدو أن ردّها الهادئ آنذاك لم يكن دليلًا على استعدادها، بل على أنها لم تتخيل أصلًا وقوع لحظات محرجةٍ كهذه.
هل هي بريئةٌ أكثر مما توقعت؟ أم أنها فقط ساذجة؟
[هل سيحلُّ الربيع أخيراً لشتاء الأمير؟]
كان كارل يحدّق في الباب بوجهٍ حائر، عندما سمع صوتًا لا عبر الأذن، بل في رأسه مباشرة.
[يبدو أن تلك الفتاة واقعةٌ في الحب تمامًا.]
كان الصوت غامضًا، لا هو بأنثوي ولا ذكوري، ترافقه نبرةٌ ضاحكة خفيفة. فالتوى طرف فم كارل بسخرية.
“أعني، من الذي وقع في الحب أولًا ليتّهم الآخر بأنه فقد كرامته؟-.”
[لكن يبدو أنك لست مستاءً من ذلك أيضًا، كارل.]
قاطع الصوت الساخر كلمات كارل، و اخترق ذهنه مباشرة. عندها تجمدت تعابير كارل فجأة.
“…..أجل، لا يمكنني القول أنني أكره الأمر.”
ثم أضاف،
“فهي نادرة الجمال.”
وسعل بتوترٍ مفتعل.
“على كل حال، ماذا اكتشفتِ؟”
[المنطقة نظيفة. لا أثر حتى لأدنى طاقةٍ سحرية. يبدو أن تنانين ولي العهد قد انسحبوا جميعًا منذ فترة.]
“بعد كل تلك الفوضى، انسحبوا بكل هدوء؟”
اتخذت ملامح كارل المسترخية طابعًا أكثر حدّة.
في الواقع، أمر كارل بتفقد المنطقة المحيطة عندما كشف عن وجود إيدلين، خوفًا من احتمال وجود تنانين تابعة لولي العهد تتربص في الجوار.
وكانت مناورة سيان قد أتت في وقتٍ مثالي تمامًا، إذ كانت الحاجة ملحةً لفهم تحركات العدو.
في الأساس، شنّ الهجوم المفاجئ دون إذنٍ رسمي من المعبد كان تصرفًا دنيئًا للغاية.
[على الأرجح، لا يريدون التسبب بمزيدٍ من الجدل الآن.]
“……إذاً، إن كان الأمر كذلك، فهذا يعني أن احتمال شراء المقربين مني داخل القلعة ضعيف.”
[لكن لا يمكننا الاطمئنان تمامًا بعد.]
جاء صوت إيدلين الحازم في عقل كارل، يقطع أفكاره بوضوح.
[لا يزال الوقت مبكرًا على العودة إلى هيئتكَ الأصلية. حتى لو لم يتم شراء المقربين منك، لا يمكن استبعاد احتمال وجود جاسوس.]
‘هذا صحيح.’
رد كارل في داخله، مسندًا ذقنه على الطاولة بخمول.
بكل الأحوال، هذا يعني أنه لا يمكنه بعد نزع تنكره كأنثى والعودة إلى شكله الحقيقي لاستعادة الأموال السرية براحة.
“إذًا، ليس أمامنا إلا الاستمرار حسب الخطة الأصلية.”
[…..هل من الضروري فعلًا المخاطرة بكل هذا من أجل الأموال السرية؟ أليس من الممكن طلب المساعدة مباشرةً من المعبد؟]
“لوحدي لا أستطيع. جسدي ما زال لم يتعافَ بالكامل، وأحتاج لحلفاء حتى خارج إيفاريد.”
[هل تعتقد أن تلك المرأة يمكن أن تصبح حليفة؟]
عند سؤال إيدلين، غيّر كارل وضع جلوسه وأسند ظهره إلى الكرسي، وقد ظهرت على وجهه تعابير منزعجة.
“ما الذي تقصدينه؟”
[لا شيء…..مجرد أن الوقت لا يزال قصيرًا جدًا للحديث عن ثقةٍ تامة تجعلها حليفة.]
“ولهذا أحتاج المال. لا يوجد شيء في العالم أكثر أمانًا وموثوقية من الدفع بالمال.”
اهتز صوت إيدلين قليلاً، ورغم أنه لم يحمل أي معنى واضح، بدا كما لو أنها تضحك.
[كل شيءٍ له مصيره. سأمضي حسب أمركَ، سيدي.]
“لا تتظاهري بالأدب فجأة.”
ضحكة إيدلين الخفيفة تماوجت من جديد كسراب بفعل تعقيب كارل اللاذع.
وبينما كانت الذاتان مختلطتين في وعيٍ واحد، بدأت الآن بالانفصال تدريجيًا بوضوح تام.
أدرك كارل أن وعي إيدلين، الذي كان مندمجًا معه، قد انفصل بالكامل، فتنهد تنهيدةً قصيرة.
[هل تظن حقًا أن تلك المرأة يمكن أن تصبح حليفة؟]
ظل سؤال إيدلين الغامض يتردد في ذهنه.
معرفةٌ طويلة لا تعني بالضرورة الولاء. فالثقة بين البشر لا ترتبط دائمًا بطول الزمن.
ولو أن الزمن وحده كان كافيًا، لكان أول من يجب أن يكون في صفه هو شقيقه، ولي العهد هندريك كلاوس، الذي وُلد معه تحت نفس السقف وتقاسم الدم منذ المهد.
لكن…..ها هو الواقع، كما نراه الآن.
مدّ كارل يده ببطء نحو خصره الذي لم يلتئم تمامًا بعد، يلامسه برفق.
كان الألم ينبض من جديد، وكأن الجرح يذكره بالحقيقة…..وربما كان مجرد إيحاءٍ نفسي.
___________________
شفتوا ايدلين تقدر تتكلم مع كارل في راسه اجل الصوت الي في بداية الفصول في راس سيان صوت تنين؟
المهم طلع كارل اصغر من سيان 🥰
مابيه اصغر منها مره عاد سنه سنتين يكفي ما احب البطل الاصغر دايم بس ورع روي ذاه منتاز🤏🏻
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 17"