كان هناك ظل طويل القامة لا يمكن إخفاؤه حتى بالرداء الأسود، واقفًا في السهل المنخفض بالخارج، لا يُعرف من أين ظهر.
كان سيان صامتةً، مستندةً بذراعها إلى الشجرة، تراقب بصمت ظل السيف الذي ظهر من بعيد.
اجتاحه شعور قوي بالديجافو. لا، لم يكن مجرد شعور. كان الأمر تكرارًا دقيقًا لما مرّت به ذات مرة.
حقًا، لا يمكن التنبؤ بما قد يحدث في هذا العالم.
ارتفع حاجبا سيان تلقائيًا أمام هذا الخاطر الذي خطر ببالها.
في الحقيقة، لقد سبق لسيان أن تجسست على كارل من زاوية مشابهة. منذ زمن بعيد، قبل أن يكبر كارل ويصبح بهذا الطول اللافت.
في ذلك الوقت، كانت مصادفة حقًا. خشيت أن يُكشف أمرها، فكانت تنكمش مرتعدةً من الخوف، أما الآن فبوسعها أن تنظر إليه بثبات، وهذا ما أثار في نفسها شعورًا غريبًا يصعب وصفه.
لسببٍ ما، شعرت أن كارل هو الآخر ينظر إليها. لكنه كان مجرد وهم. بالنظر إلى المسافة والظلام الذي يلف المكان، لم يكن هناك أي احتمال حقيقي لتلاقي أنظارهما.
“….آه..…”
وبينما كانت سيان تحدق في كارل غارقةً في أفكارها، انبعث صوتٌ لا يُعرف إن كان من الطبيب جيفي أو بيل، بدا كأنه خرج من شخصٍ فقد القدرة على الكلام.
كأن الصباح بدأ يعود ببطء ولكن بثبات، إذ بدأت العتمة تنقشع رويدًا رويدًا.
“…..إيدلين.”
تمتم ماكس بذهولٍ وهو يحدق في السماء. فاستدارت سيان لترى الاتجاه الذي يشير إليه غطاء ماكس.
الصباح كان يعود من جديد. لكنه لم يكن سوى وهمٍ يربك الحواس.
فالشمس، التي مالت قليلًا، كانت قد اندفعت نحو الغرب بسرعة، وكان الليل المظلم بالكاد قد بدأ في التمدد. لذا، ما لم يكن الزمن قد تم محوه بالكامل، فلا يمكن أن يكون الصباح قد عاد بهذه السرعة.
في السماء السوداء الواسعة التي ابتلعت حتى اللون البنفسجي، بدأ مصدر ضوءٍ فضي عملاق يقترب ببطء فوق الغابة.
“هاه…..يا للروعة.…”
اندهش الجميع من الضوء الساطع الذي تسلل من خلف الغابة كأنه ضوء شمس الصباح، وابتلعوا أنفاسهم دفعةً واحدة.
إيدلين الفضية، وريثة يقدراسيل المؤسسة.
حتى سيان ورفاقها، الذين سمعوا عن تلك الشهرة العظيمة التي لا يجهلها أحد في الإمبراطورية حتى كادت آذانهم أن تصم، لم يتمكنوا من حبس أنفاسهم أمام الهيبة المطلقة التي فاقت الطبيعة نفسها، فقد كان حتى التنفس بدهشة ترفًا لا يملكونه.
“…..هذا ليس مجرد ضوء ينبعث منها، أليس كذلك؟”
“إنها كالشمس تمامًا. لا، لعلها القمر بما أننا في الليل؟”
تبادل الطبيب جيفي وماكس الحديث وهما مذهولان. أما سيان، فلم تشاركهما الحديث، واكتفت بمراقبة إيدلين التي تسير وسط الضوء، بعينين مشوبتين بشيء من التعقيد.
في الحقيقة، لم تكن هذه المرة الأولى التي ترى فيها تنينًا. فقد رأت إيدلين قبل زمن بعيد، حين صادفت كارل بالمصادفة.
لكن إيدلين في ذاكرتها لم تكن تشع بهذا الضوء الباهر كما الآن. قد يكون ذلك لأن لقائهما السابق كان في وضح النهار، لكن حتى مع هذا التفسير، فإن تألق إيدلين الآن كان مفرطًا بدرجة لا يمكن تجاهلها.
ابتسمت سيان بسخرية وهو تدير رأسها لتنظر إلى كارل، الذي كان ينتظر إيدلين في السهل.
قال إنه سيقدم عرضًا باهرًا، لكنه بدا كالمهرج لا أكثر.
كان الأمر مقصودًا. بدا أن كارل تعمّد استدعاء إيدلين بانفجار من السحر الفضي حتى يعرف كل من في منطقة إيفاريد بوجودها.
‘يا له من انسجام تام. هكذا تكون حياتي حقًا.’
فكرت سيان وهي تلوِي زاوية فمها بابتسامةٍ مرة.
وفي تلك الأثناء، كانت إيدلين تقترب ببطء وهي تنزلق في الهواء، بينما المرتزقة الآخرون لا ينفكون عن إطلاق صيحات الإعجاب كأنهم فقدوا القدرة على الكلام.
وفي النهاية، بدأ شكل إيدلين، الذي كان يبدو في البداية كتلة فضية تشبه الشمس، يتضح بجلاء.
قرنان أسودان طويلان وأنيقان يمتدان للخلف، وعينان ذهبيتان تلمعان مثل عيني وحش مفترس.
رأس يشبه رأس سحلية مهيبة فمها مغلقٌ بإحكام، وعنق طويل ينحني بانسيابية ساحرة تحته.
كانت الأجنحة المتناسقة المغطاة بغشاء رقيق على الجسد الضخم تشق الهواء برقي ووقار. وحتى الذيل الطويل النحيف، بطول الجسد نفسه، كان ينثر ضوءًا فضيًا باهرًا كأنه نجم ُمنتصف الليل.
“أود أن أراها عن قرب، لكن هذا مستحيل، أليس كذلك؟”
بعد الذهول، ثم الرهبة التي جعلت اللسان يعجز عن الكلام، جاء الافتتان التام، فنطق ماكس تساؤلًا لا يُعرف إن كان يوجّهه لأحد بعينه.
“هل تريد أن نعلن أننا نحن من استدعيناها؟ اكتفِ بالمشاهدة وارضَ بذلك. أمثالنا، نحن القابعين في أسفل السلم، يجب أن نعتبر مجرد رؤية إيدلين على حقيقتها شرفًا بحد ذاته.”
قالت سيان ذلك. عندها توقف ماكس عن التحديق في إيدلين، وحدّق مباشرةً في سيان.
حين أدركت سيان أن نظرات ماكس تتجه نحوها، بادلته النظرات.
“ما الأمر؟”
“لا شيء. أحيانًا لا أستطيع أن أعرف إن كنتِ تملكين ثقةً عالية بالنفس أم العكس تمامًا.”
عند كلمات ماكس، كاد وجه سيان يتجمد في الظلال، لكنها تمالكت نفسه.
“…..أحقًا؟”
“نعم.”
عند إجابة ماكس الصريحة المباشرة، اكتفت سيان بابتسامة خفيفة ملتوية دون أن ترد.
“…..آه، ها هي تمر فوقنا الآن.”
بلغ الضوء الفضي المنبعث من إيدلين ذروته. وأثناء تحليقها فوق رؤوسهم مباشرة، اختفت ظلال الأشجار والبشر للحظة كأنها تلاشت بفعل السحر، ثم ظهرت من الجهة الأخرى وهي تمتد طويلًا.
في البعيد، كان كارل يقف وحده في السهل، ينظر إلى إيدلين.
تلك التنينة المتألقة، النبيلة في نسبها ومهابتها، لا شك أن صاحبها، كارل، كان يتبادل معها تواصلًا خفيًا لا تدركه سيان ورفاقه.
وببطء، بدأت إيدلين تبتعد.
“يا للأسف.”
تمتم أحدهم وهو ينقر لسانه بأسى.
وقف كارل بلا حراك، وكأنه يودع حبيبته، حتى ابتلعت الظلمة الظلال التي امتدت بفعل الضوء المنبعث من إيدلين واختفت تمامًا.
وبعد وقتٍ طويل، استدار كارل واقترب من سيان ورفاقه.
“ما رأيكِ؟ هل كانت الفرجة كافية؟”
“أكثر مما أستحق.”
ردت سيان مبتسمةً على كلام كارل الذي اقترب بخطى واسعة.
كانت ملامحها تنطق بالرضا التام.
“لا حاجة لأن يتعب من هم في الخارج من رفاقنا. أستطيع أن أتصور كيف انقلبت القلعة رأسًا على عقب.”
وعند صوت سيان، ارتسمت ابتسامةٌ على الفك السفلي المنحوت الذي ظهر أسفل غطاء الرداء الذي كان كارل قد أنزله على رأسه بإحكام.
رغم أن الجزء الظاهر من وجهه الوسيم لم يكن إلا قليلًا، إلا أنه كان كافيًا ليثبت أنه لا يستطيع حتى إخفاء وسامته الكاملة.
“لا شيء يضاهي متعة مشاهدة النيران. إذاً، لم يبقَ علينا سوى الانتظار والاستمتاع بالمشهد.”
قال كارل ذلك بابتسامةٍ ماكرة تشبه ابتسامة شرير متمرّس.
***
“سيدي! السيد ألفريد!”
وفي تلك اللحظة، بينما كان كارل يبتسم كالأشرار، كانت القلعة قد انقلبت رأسًا على عقب كما توقعت سيان، واندلع الاضطراب في الداخل.
رغم أن الباب كان مغلقًا بإحكام، إلا أن صوت الإداري سوليڤان، وهو يصرخ مذعورًا، وصل بوضوح إلى الغرفة من الطرف الآخر من الممر.
كان ألفريد قد سمع صوت سوليڤان، لكنه لم يكن في وضع يسمح له بالرد. فالضوء الفضي، الذي بدا كأنه نهارٌ ساطع، كان يندفع من النافذة بعنف.
إيدلين. إنه نور إيدلين، تنينة ولي العهد ورفيقة دربه.
“سيدي ألفريد! هل رأيتَ ذلك؟ إيدلين..…!”
“رأيتها. فلا تُثر الجلبة.”
قال ألفريد ذلك بلهجة صارمة، وهو يحدّق في الخارج بوجهٍ لا يكاد يصدق ما يرى.
اقتحم سوليڤان الغرفة بعنف، وهو يلهث من التعب ويكاد يختنق من لهفته، متوقفًا عن الصراخ.
“صاحب السمو لا يزال على قيد الحياة!”
“قلت لكَ أنني رأيت ذلك. ثم إننا كنا نعلم جميعًا مسبقًا أنه بخير، أليس كذلك؟”
كان ألفريد نفسه قد تحدّث سابقًا بقلق، قائلاً أنه من غير المقبول أن يحدث أي مكروهٍ له، لكن الآن، وكأنه لم يقل شيئًا من ذلك قط، اعتدل في جلسته واتخذ مظهرًا مهيبًا ونبرةً رزينة.
لكن وجه سوليڤان، الذي دخل الغرفة بنية مشاركة الفرحة، بدأ يبرد شيئًا فشيئًا.
“استدعِ السيد إيلما، واجمع كل الجنود المتاحين فورًا. بما أنه قريبٌ بالتأكيد، فعلينا تكثيف عملية البحث.”
قال ألفريد ذلك بلهجةٍ مملوءة بالهيبة، وهو يلمس لحيته الأنيقة، لكن يديه المتشابكتين كانتا ترتجفان برقة تحت وطأة المفاجأة السارة.
“حاضر. لكن…..كل القوات المتاحة قد تم بالفعل إرسالها ضمن وحدة البحث التابعة للسيد إيلما. وإن استدعينا المزيد الآن، فسوف تصبح القلعة بلا حراسة..…”
تحدث سوليڤان بنبرة يغلب عليها الارتباك.
في تلك الأثناء، كانت الطاقة السحرية الفضية التي أضاءت السماء من إيدلين قد اختفت تمامًا، متلاشيةً خلف الغابات والجبال البعيدة.
نظر ألفريد إلى ذلك الأثر البعيد الذي يصعب تتبّعه، وتكوّنت بين حاجبيه الأبيضين تجاعيد عميقة وهو يسمع كلام سوليڤان.
“لا نعلم متى ستعود قوات سمو ولي العهد. لا سيما أن إيدلين قد ظهر بهذه الطريقة العلنية، فلا شك أن الخبر سيصل إلى العاصمة قريبًا..…”
كان سوليڤان، الذي يعرف جيدًا عدد الجنود القادرين على التحرك من قلعة إيفاريد، يشعر بالحرج.
“هذا صحيح. وإن وصل الخبر إلى العاصمة، فمن المؤكد أن ولي العهد سيسعى للعثور على سموه بنفسه، لذا لا يمكننا تقليص عدد فرق البحث.”
أطلق ألفريد تأوّهًا خافتًا وهو يمرر يده على لحيته.
“علينا نحن أن نؤمّن سلامة سموه أولًا. فهو متّهم ظلمًا بقتل ملك التنانين، وإن وصل إليه ولي العهد قبَلَنا، فلا أحد يعلم أي معاناةٍ قد تحل به..…”
تحدث سوليڤان بصوتٍ محبط، و سرعان ما خفّت نبرته.
وكان ذلك حقًا حقيقة لا يمكن إنكارها.
استرجع ألفريد صورة سيده في ذلك اليوم الذي كان أشبه بالجحيم، عندما كان يراق الدماء بغزارة وكاد يموت وهو يهرب بشق الأنفس.
فقط ذكرى ذلك اليوم كانت تثير في نفسه شعورًا مروعًا، فارتجف كتفيه بخفة.
كان ولي العهد هو الذي هاجم سيده دون سابق إنذار، جالبًا معه التنانين في غياب قائد المعبد، وكان في تلك اللحظة عاجزًا عن الدفاع أو حتى الحصول على دعم من الحرس، و لم يمتلك الا الهروب بجسده.
وإذا وقع سيده مرة أخرى في يد ولي العهد، فإنه لا يمكنه حتى أن يتخيل العذاب الذي سيواجهه بتهمة قتل ملك التنانين.
“إذاً، الأهم الآن هو العثور على سموه قبل كل شيء، يجب علينا جمع كل من يمكننا استدعائه للبحث عنه.”
“حسنًا. لكن ماذا عن القلعة؟ لا يوجد سوى موظفين مدنيين مثلي ومن يخدموننا، ولا يمكنهم حتى حماية أنفسهم…. ”
قال سوليڤان ذلك، مما جعل ألفريد يطلق تنهيدةً ثقيلة أخرى.
___________________
يس توقعت سيان فد شافت ايدلين باقي نعرف وش حقيقتها
كارل ماهمته الخطه حالياً بس همه انه يوريهم عرض ماينسونه😭
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 14"