على الرغم من أن قصر الإمبراطور الذي يمتد عبر ألف عام من التاريخ لا يُقارن، كانت غرفة الاستقبال في قلعة إيفاريد، التي أُنجزت مؤخرًا، فاخرةً ومرتبة بشكلٍ جيد.
كان أبرز ما يلفت الأنظار هو الثريا المعلقة في السقف.
كانت مصنوعةً بدقة من الكريستال، مع عدة صفوف معلقة تتدلى وتنحدر. وعندما يدخل النسيم من النوافذ، كانت تصدر أصواتًا صافية كالموسيقى مع تمايلها.
“واو…..إنها جميلةٌ جدًا.”
لم تجلس سيان على الأريكة التي دلّها عليها الخادم ديريك، بل وقفت مستمتعةً بمراقبة الثريا.
حتى الأرضية الرخامية النظيفة التي يصعب العثور على خدشٍ فيها، والأرائك المنحنية بأناقة، وكل شيء في غرفة الاستقبال كان فخمًا للغاية، لكن لا شيء يمكنه مقارنته ببهاء وفخامة تلك الثريا.
وكأنها مسلوبةُ الروح، كانت سيان تحدق في الثريا وتكرر فقط: “جميلة، جميلة”.
وعلى الأريكة المقابلة لها، جلست امرأةٌ ذات شعر أسود طويل ترتشف بهدوء الشاي الذي قدمته الخادمة.
شفتاها، حين تلامسان فوهة الفنجان، ترتسم عليهما ابتسامة رضا خفيفة كلما انطلقت من فم سيان كلمة إعجاب.
“يبدو أن المال يفيض لديهم فعلاً.”
قالت سيان ذلك فجأة، بوجهٍ مبهور كمن سُحر بعالم هذا القصر الفاخر.
حينها أصدرت المرأة، التي كانت قد أخذت رشفةً من الشاي، صوتاً غريباً وكأنها اختنقت: “كحخ.”
“هذا يجعل توقعاتي بشأن الملكية الخاصة ترتفع بسرعة..…”
“اشش.”
قطّبت المرأة الجالسة على الأريكة حاجبيها تجاه صوت سيان المشرق والبرئ.
“كفي عن الكلام الطائش، يا آنسة.”
“أووه، عذرًا.”
تأخرت سيان في إدراك أن أحدًا قد يسمعها، فضربت شفتيها بخفة.
لكن ما إن رأت آثار الثراء التي تغمر داخل القصر وخارجه، حتى اندفعت مشاعر الترقب فيها، وبدأ العرق البارد يتكوّن على راحتي يديها.
مسحت يديها المرتجفتين بسروالها بهدوء، ثم نظرت إلى المرأة الجالسة على الأريكة بأدب.
“حتى كا…..رين، من الأفضل أن تنتبه لكلامكَ. ألا ترى أن صوتكَ نقيٌ وواضح أكثر من اللازم؟”
كانت المرأة، ذات الشعر الأسود المنسدل بأناقة على كتفيها، جميلةً بلا شك، ولا يبدو مظهرها متكلفًا.
لكن من بين شفتيها المطلية بأحمر شفاهٍ صارخ، خرج صوتٌ خفيض وعميق.
“كحهُم.”
أطلق كارل المتنكر في زي امرأة سعالًا مصطنعًا، وقد بدا محرجًا من ملاحظة سيان.
“على أي حال، بالنسبة لتلك الثريا، فهي تحفةٌ من تحف الأساطير. تحكي الرواية أن أحد أحفاد الأقزام الحرفيين الأسطوريين نحت كل قطعةٍ من الكريستال يدويًا، مستخرجًا إياها من منجم ذهب عمره ألف عام. إنها أعجوبة بين أعاجيب التحف. لا يمكنكِ تخيل كم عانيت لأجلب تلك الثريا.”
قال كارل ذلك بنبرةٍ مفعمة بالفخر، رافعًا صوته بدرجتين.
ورغم أن صوته ما زال بعيدًا عن أن يكون صوت امرأة حقيقي، فإن ملامحه لم تكن لتفضحه كرجل.
“آه، هكذا إذاً..…”
ردت سيان برد مقتضب، كأنها تستمع إلى حكايةٍ مملة من عجوز.
“لكن، إذا كان المنجم منجم ذهب عمره ألف عام، فلماذا استخرجوا منه كريستالًا وليس ذهبًا؟”
“آه، يبدو أنكِ تجهلين الأمر.”
ضحك كارل المتنكر، وكأنه يستغرب جهلها بالسؤال.
“في الواقع.…”
لكنه حين فتح فمه ليشرح، لم يستطع إعطاء سبب مقنع، واكتفى بالرمش بعينيه. وكان واضحًا من ملامحه أنه هو نفسه بدأ يشك في الأمر: “حقًا، لماذا؟”
“شش، أحدهم قادم.”
تمامًا حين بدأت ملامح كارل تزداد ارتباكًا، علت أصوات خطوات الأحذية من ممرٍ خارج غرفة الاستقبال.
أنزل كارل فنجان الشاي بهدوء شديد، حتى أنه لم يُصدر أدنى صوت، كأنه من نبلاء الطبقة العليا.
توقف كلٌ من سيان وكارل عن الكلام وانتظرا بصمت، واقتربت خطوات الأقدام أكثر فأكثر.
نظرت سيان إلى كارل بطرف عينها دون أن تشعر.
‘بالتأكيد سيتعرف عليّ.’
وصل إلى أذن سيان صوت كارل وكأنه يحدثها داخليًا، مليءٌ بالقلق.
‘خصوصًا ألفريد، الوصي، الذي رافقني من العاصمة إلى هنا، لقد رآني لأكثر من عشر سنوات، لا يمكن ألا يعرفني.’
حين اقترحت سيان عليه أن يتنكر بزي امرأة، كان كارلستون قلقًا بشدة وغير مرتاحٍ للفكرة.
على أي حال، البشر مخلوقاتٌ مليئة بالأحكام المسبقة، ولهذا أجابت سيان بأن أحدًا لن يتوقع بسهولة أن الأمير الذي اختفى بعد إصابته الخطيرة قد عاد بهيئة امرأة.
لكن، حين اقترب صوت الأحذية حتى صار على بُعد خطوات، بدأ التوتر يتسلل إليها من احتمال حدوث ما لا يُحمد عقباه.
شعر كارل بالنظرات، فبادل سيان النظرة.
‘سيكون الأمر على ما يرام.’
قالت سيان ذلك بعينيها دون أن تنطق. و فهم كارل المعنى وأومأ برأسه بخفة، لكنه بدا مشدودًا أكثر من قبل، وتصلب وجهه من القلق.
قريبًا، سُمِع صوت حركةٍ خفيفة عند مدخل غرفة الاستقبال المقوس.
وما لبث أن ظهر رجلٌ في منتصف العمر بشعر أبيض متقطع، يرافقه شابٌ أصغر منه سنًا.
توقف الرجلان في مكانهما بمجرد أن أبصرا اثنين داخل الغرفة، حتى قبل أن يدخلا تمامًا.
وقد بدت الدهشة واضحة على وجهيهما، فقد كان من غير المتوقع على الإطلاق أن تكون الزائرتان المفاجئتان امرأتين.
“لتحلّ بركة التنين. يشرفني اللقاء، يا لورد إيفاريد. أنا سيان روزفلت من فيلق مخالب التنين.”
قالت سيان ذلك بابتسامةٍ واثقة، وكأنها كانت تتوقع هذا تمامًا، وقد محت من وجهها كل أثرٍ للتوتر.
نظرات الإعجاب بل الذهول لم تأتِ من الرجلين، بل من كارل.
نظر إلى جانب وجه سيان، المبتسم بكل هدوء، بدهشة لم تخلُ من إعجاب.
“لتصل بركة التنين. مرحبًا بقدومكما، نعتذر على المفاجأة. لقد بلغنا أن ضيوفًا قد وصلوا، لكننا لم نُخبر أن الزائرتين ستكونان بهذا الجمال، ففوجئنا للحظة.”
الرجل في منتصف العمر، ألفريد، تدارك نفسه بعد سماعه صوت سيان، وردّ التحية بأدب.
تبادلت سيان وكارل نظرةً سريعة دون قصد. لكن لم يدم التوتر في عيني كارل طويلًا، رغم أن ملامحه شحبت قليلًا عند رؤيته هذا الوجه المألوف جدًا.
تعبير “الزائرتان الجميلتان” الخالي من أي ريبة أكد شيئًا واحدًا: ألفريد لم يتعرف على كارل، المُتنكر في زي “كارين”، على أنه الأمير.
هذا يعني أنه لم يتعرف على ملامحه الحقيقية.
“لا بأس، فهذا أمرٌ شائع. فالناس عادةً ما يتخيلون المرتزقة رجالًا أشداء أولًا.”
قالت سيان ذلك بلطف، فانحنى ألفريد باحترام وهو يرد،
“أشكركم على تفهّمكم. أنا ألفريد روبينس، الوصي على إيفاريد ونائب اللورد. ونظرًا لغياب سمو الأمير إثر الحادث المؤسف، كان من الضروري أن أستقبل الضيوف بنفسي. لكن، بما أنكم لم تطلبوا موعدًا مسبقًا، فما الذي أتى بكما إلى هذا المكان البعيد؟”
“سمعت بالشائعات التي تتداولها الناس حول الحادث. لكنني لم آتِ بطلبٍ خاص لسمو الأمير.”
“…..وهكذا..…”
رمق ألفريد كارل، الواقف خلف سيان، بنظرةٍ جانبية. وشعر كارل بالارتباك من تلك النظرة المفاجئة، فخفض بصره بسرعة.
حين لاحظت سيان أن أنظار ألفريد وسوليفان تتجه خلفها نحو كارل، تقدّمت بخفة ووقفت أمامه وكأنها تتابع الحديث بشكلٍ طبيعي، لتغطي عليه.
“نظرًا للفراغ المفاجئ في القيادة بغياب سمو الأمير، فلا بد أن هيكل القيادة مضطربٌ حاليًا، وكذلك من المؤكد أن الشائعات المثيرة قد أضعفت الروح العامة للناس. ومع اضطراركم إلى تولي مهام حفظ النظام والحراسة وصيانة الأسوار من خلال الحرس المحلي وحده، فأنتم على الأرجح تعانون من نقصٍ حاد في الأيدي العاملة.”
عادت أنظار ألفريد، التي كانت موجهةً إلى كارل، لتتركز على سيان مجددًا بسبب حديثها السلس.
“فيلقنا، ‘مخالب التنين’، وإن كان صغير العدد، إلا أنه يتكون من نخبةٍ من المقاتلين المخضرمين الذين أدّوا مهامًا متنوعة ومعقدة على مدى سنوات. ولا شك أننا سنكون عونًا كبيرًا في استقرار الوضع الحالي المضطرب في إيفاريد.”
“آه…..هكذا إذًا..…”
تحدثت سيان بأسلوبٍ متقن كما لو كانت معتادةً على الأمر، مستخدمة نطقًا واضحًا، ولهجةً راقية، ونغمة صوتٍ ناعمة وانسيابية.
في عرض متكامل دون ثغرة واحدة، لم تقتصر دهشة ألفريد وسوليفان فحسب، بل حتى كارل نفسه لم يستطع إخفاء انبهاره.
كان الجميع يركز أنظاره على سيان.
“بكلمةٍ واحدة، تطلبين التوظيف؟”
قال ألفريد ذلك ملخصًا الأمر، فردت سيان بابتسامةٍ دافئة وإيماءة خفيفة من عينيها بدلًا من الكلام.
أمال ألفريد رأسه قليلًا باستغراب.
“لا أدري…..إنه عرضٌ مفاجئ للغاية. وفوق ذلك، كما تعلمين، سبب غياب سمو الأمير ليس بالأمر الهيّن..…”
“سرية المهام المتفق عليها هي من أبجديات عقود المرتزقة.”
قالت سيان ذلك بسرعة وبنبرة حازمة، وكأنها تخشى أن يُرفض عرضها، وكأنها تدفع ألفريد إلى الموافقة.
ارتسمت على شفتي ألفريد ابتسامةٌ خفيفة تميل إلى الحذر.
“ليس لدي نيةٌ للحكم المسبق على فيلقكم من أول لقاء. لكن الوضع الداخلي معقدٌ للغاية، ومن الصعب أن نُدخل إلى القصر فيلقًا لم يتم التحقق منه بعد.”
وحين أنهى كلماته، عاد ألفريد ينظر مجددًا إلى كارل. و هذه المرة، لم يتجنب كارل نظراته، بل بادلها بثبات، دون أن ينهض من مقعده.
لم يكن يبدو أنه أدرك أن كارل هو الأمير متنكرًا في زي امرأة. فلم تظهر عليه أي علامات استغراب أو شك.
لكن، ولهذا السبب تحديدًا، لم يستطع كارل فهم سبب استمرار ألفريد في النظر إليه بدلًا من سيان.
“لا نطمح لتولي مهام بالغة الحساسية تتعلق بالأوضاع الداخلية. يكفينا أن نُعامل كما يُعامل الناس العاديون الذين يعيشون بسلام خارج أسوار هذا القصر. فما نرغب فيه بالأساس ليس المناصب أو النفوذ، بل المهام التي تُكافَأ بأجرٍ عادل.”
“همم…..حتى وإن قلتِ ذلك.…”
ضحك ألفريد ضحكة خفيفة مرتبكة، وكان من السهل استنتاج أنه، رغم مظهره اللطيف، لن يتراجع بسهولة.
“لم تكن نيتنا إحراجكَ، يا حضرة النائب. وندرك تمامًا أن القدوم فجأةً وطلب عمل مباشر هو تصرف فيه شيء من الوقاحة والتسرّع.”
قالت سيان ذلك بابتسامةٍ مشرقة.
“سيبقى فيلقنا في إيفاريد لفترةٍ من الزمن. من الحراسة إلى المهام الأخرى، نحن مستعدون لأي عمل. إذا كنت بحاجة إلى أيدٍ عاملة في أي وقت، فلا تتردد في استدعائنا.”
“آه، حسنًا..…”
كان وجه ألفريد متجهمًا، وكان واضحًا أنه لم يكن سعيدًا بوجود ضيف غير مرغوب فيه فجأة.
في الواقع، لم تكن سيان تتوقع أن تدخل القلعة بسهولة، ولذلك لم تشعر بالإحباط من رفض ألفريد القوي.
“إذاً، سنغادر الآن. هيا، كارين.”
بابتسامة مهذبة، انحنت سيان ثم بدأت في الانسحاب.
بينما كان كارل غارقًا في التساؤل عن سبب استمرار ألفريد في النظر إليه، التفت فجأة ليتفاجأ بنداء سيان له، فألقى عليها نظرةً غامضة.
كان يبدو أن لديه الكثير ليقوله، لكنه التزم الصمت، ونهض بهدوء ليتبع سيان.
كانت الوجوه التي ارتسمت على ألفريد وسوليفان أكثر تعبيرًا عن الحيرة بعد انسحاب سيان المنظم.
كانت طلبات المرتزقة، الذين جاؤوا بجرأة بحثًا عن عمل، بسيطةٍ للغاية لدرجة أنها بدت غريبة.
“أوه، تلك التي كانت جالسةً هناك..…”
كان كارل يتبع سيان بصمت، إلا أن ألفريد نطق بصوت ملؤه شيء من التردد والتشويش. لنظر كارل بحذر إلى عيني ألفريد.
“…..نعم؟”
ثم رفع صوته ليصبح أعلى من المعتاد بمقدار عدة درجات، في نغمة قصيرة كانت مزعجة جدًا لسيان، لدرجة أنها كانت مبتذلةً للغاية بالنسبة لها.
“هل…..تلك السيدة أيضًا جزءٌ من نفس الفيلق؟”
ضحك ألفريد ضحكةً محبطة وهو يسأل. لتبادل كارل نظرةً قصيرة مع سيان، ثم ابتسم بشكلٍ خجول، وكأن الحياء قد غلب عليه.
بدون أن تشعر، ابتسمت سيان أيضًا في انسجام مع ابتسامة كارل.
كيف يمكن لأمير نشأ في قصر أن يكون مخادعًا؟…..من أين تعلم هذه المهارات التمثيلية؟
بينما كانت تفكر في ذلك، سرعان ما وقفت بين ألفريد وكارل مرة أخرى، مانعةً أي اتصال بينهما.
“هذه هي زميلتي في العمل، كارين. نحن ندير فيلق المرتزقة معًا.”
“طولكِ…..طويلٌ جدًا.”
“عندما كنتُ صغيرة، مرضت وتسبب المرض في نمو مفرطٍ للمفاصل..…”
كان ألفريد معجبًا أو ربما متأملًا، وهو ينظر إلى طول كارل الذي كان أطول بمقدار شبرٍ عن سيان.
ثم، استخدم كارل أصابعه الطويلة ليغطي شفتيه بخجل وأجاب بصوتٍ منخفض جدًا، ليخفيه عن الأنظار.
“أوه، هذا…..مؤسفٌ جدًا…..”
بينما كانت سيان تفكر مبتسمةً بمظهر كارل، كان ألفريد يبدو جادًا ويشعر بالحزن الحقيقي.
___________________
واو سيان مب بس محتالة ذي تنفع حتى سياسية
ايه نعم متوقع من بنت روي كل شي عندها بيرفكت🙂↕️
طيب لحظه كارل وش لابس؟😭 وش ذا اللبس الي خلاه كأنه حرمة ومرتزقه
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 11"