كنتُ أظن أن ذلك صحيح. حتى إنني كنتُ أُكثر من توبيخ أختي الصغرى التي لا تكبرني سوى بأربع سنوات بعبارة: “اعرفي قيمة ما أنتِ فيه الآن”، مثل عجوز متذمرة.
كنت أظن أن مرحلة المراهقة أفضل من البلوغ، والطفولة أفضل من المراهقة، والرضاعة أفضل من الطفولة…
كنت أظن ذلك فعلًا!
أنا أيضًا كنت أعتقد أن الرضاعة كلها نعيم ومتعة!
لا عمل، لا دراسة، فقط أكل ونوم وقضاء حاجة، فما الصعوبة في ذلك؟ كنت أتصور أن الأمر سهل.
في وقت الطعام تجدين من يطعمك، في وقت النوم تجدين من يربّت ظهرك حتى تهدئي، تنامين متى شئتِ… أليس ذلك جنة؟ حتى المشي لا تحتاجينه، فهناك دائمًا من يحملكِ من مكان إلى آخر.
لكن الأمر لم يكن كذلك.
ليس الأمر أن الرضيع لا يحتاج لفعل شيء، بل الحقيقة أنه لا يستطيع فعل أي شيء بنفسه!
هل تعرفون شعور الإحباط؟ أن ترغبي في إزاحة الستارة قليلًا، أو أن تحضري شيئًا أمام عينيك، لكنكِ لا تستطيعين بمفردك! ذلك الإحساس الخانق بعدم القدرة على فعل شيء!
في البداية، شعرتُ كأن أحدًا يقيدني.
أشدّ ما أملك من قوة في جسدي الصغير القصير هذا، ولا أعرف كيف أحرّكه، فأظل ألوّح بلا جدوى… بالكاد أستطيع أن أتقلب أو أنقلب على بطني!
ذلك كان بشق الأنفس. بشق الأنفس! كان حقًا أمرًا مرهقًا.
وكل مرة يحدث ذلك، ينهمر سيل من الهتاف والتشجيع والتصفيق! كم هو محرج!
‘مؤثر فعلًا…’
ولو كان الأمر يقتصر على هذا لهان.
لكن أن يتبول الإنسان! وهو نائم هكذا!… آه، كرامتي…
صحيح أن الأطفال الآخرين لا يعون هذه المسألة، لكن على أي حال، عيش الحياة كطفل لم يكن سهلًا أبدًا.
حتى مجرد الزحف على بطني كان يتطلب مني بذل أقصى ما أستطيع، لكن الكبار لا يعرفون هذه المعاناة…
كنتُ مستلقية أحدق ببرود في المعلّقة الدوارة التي علقتها بيلي فوق سريري.
كيف يُفترض أن أتسلى بهذه؟ هذه ليست نتفلكس ولا أيًّا من وسائل الترفيه الحديثة التي اعتدتُ عليها في حياتي السابقة…
‘أنا أنظر إليها لأنه لا يوجد شيء آخر، لا لأنها مسلية!’
لم يكن ممتعًا أبدًا أن أرى المعلّقة، التي صنعتها أمي بيدها، وهي تتلألأ تحت ضوء الشمس وتدور. كنت أراقبها فقط محاوِلة فهم آلية دورانها حتى بلا رياح.
لا كهرباء في هذا العالم، إذن ليست بطارية…
لكن، بصراحة، فيها شيء إدماني قليلًا. لا أريد الاعتراف، لكنها ممتعة. إنه محرج.
ابتسم أبي برقة وهو يربّت بخفة على جبيني. صوته الأجش الحلو كالعسل الذائب، وابتسامته الدافئة كانت مشرقة كأنها قادرة على إيقاف عاصفة ثلجية.
“أي وقت طويل؟ كايل، هل أصابك فقدان ذاكرة؟ لقد رأيتها هذا الصباح فقط، ومنذ ساعات قليلة لا أكثر.”
كما قالت أمي، فقد ركض أبي فور استيقاظه صباحًا لرؤيتي. ولم يتركني حتى وقت الإفطار، حيث سحبته أمي معها منذ ساعات قليلة فقط.
“سواء كانت ساعات أو دقائق، إن غبتُ عنها ثم رأيتها، فهو وقت طويل.”
“يا لها من مبالغة…”
وبينما توبخه، كانت أمي قد حملتني وضمتني إليها بقوة. ذراعاها الرقيقتان تبدوان ضعيفتين، لكنهما كانتا تحتضنانني بلا تردد.
“ابنتي شانا، سمعتُ أنكِ صرتِ تستطيعين الزحف!”
“أما تُرينا ذلك؟”
“أو… بّا….”
إذن أنزليني. أنزليني على الأرض. وبينما أمي تكلمني وهي ممسكة بي، تدخل أبي.
“يجب أن تضعيها على الأرض أولًا لترينا شيئًا.”
“لكني لا أريد إنزالها من بين ذراعي.”
“إذن لن نستطيع رؤية شانا وهي تزحف.”
بوجه متحسر، أنزلتني أمي أخيرًا.
كانت أرض غرفة الأطفال مفروشة بسجادة سميكة، وإلى جانب السرير مساحة مفروشة بلحاف كي ألعب وأتحرك فيها.
جلس أبي وأمي يتطلعان إليّ بأعين متلألئة، مترقبين.
“أرينا يا شانا!”
“هيا حاولي الزحف!”
أوه، هذان الاثنان…لولا أن لدي ذكريات سابقة وأفهم الكلام، هل ظنا فعلًا أن طفلًا لم يتجاوز الستة أشهر قد يفهم الأوامر…؟
“هيا، تعالي إلى أمك يا شانا!”
“لا، إلى أبيكِ.”
يا جماعة، أنتم تبالغون كثيرًا في طلباتكم من طفلة لم تفعل سوى أن زحفت كاليرقة!
كانا يقفان على بُعد خمس خطوات تقريبًا، ويمدان ذراعيهما إليّ على اتساعهما. لم يبدُ على وجهيهما أدنى شك في أنني أفهم كلامهما.
‘في، في هذه الحالة…’
كيف لا أرغب في أن ألبي توقعاتهما!
“آه، بّا….”
“نعم، إنه أبيكِ!”
“ماا….”
“صحيح، إنها أمك!”
آه، لمَ لا أستطيع أن أنطق جيدًا!
نظرتُ إلى والديّ بعينين متلألئتين ومشاعر متشابكة.
وجه أمي بدا شاحبًا رغم ضوء الشمس النهاري الساطع. عنقها الطويل وذراعاها وساقاها النحيفتان، وبنيتها العظمية الرقيقة، كل ذلك جعلني أتعجب كيف استطاعت أن تلد بجسدها ذاك.
‘لابد أنها أنهكت نفسها في ولادتي.’
وفوق ذلك، لم يمضِ سوى ثلاثة أشهر على خطف طفلتها، فانهارت طويلًا تحت وطأة الصدمة. ويبدو أن أمي لم تتعافَ من آثارها بعد.
“شانا!”
كان الصوت الذي يناديني عذبًا.
يكفي أن أسمع صوت أمي وأبي وهما يناديانني لأعرف أنهما يحباني.
‘يونآه.’
‘أرجوكِ اعتني بمينا.’
تمامًا كما كان والداي في حياتي السابقة.
كوني أملك ذكريات حياتي السابقة ووعيّ شخص بالغ، لم يكن من السهل أن أتقبّل هذين الشخصين كوالديّ. لكن، كيف لي أن أتجاهلهما؟
“شانا!”
هذين اللذين ينظران إليّ هكذا، بكل هذا الحب.
“بُبَيااا.”
انتظرا فقط. سأزحف إليكما.
“سمعتَ ذلك، كايل؟ سمعتَ ما قالته شانا لي؟”
“سمعت. لا أعرف ما الذي قالته بالضبط، لكني سمعت.”
كانت أمي آنايس ضعيفة الجسد، لكنها مشرقة ومرحة بطبعها. أما أبي كايل، فكان يبتسم لي بحرارة كنسيم دافئ، لكن من أسلوبه الجاف أحيانًا بدا أنه ليس لطيفًا بالقدر نفسه مع الغرباء خارج العائلة.
هل هو أحد أبطال الروايات أم ماذا…؟
لو أن موطنه في الشمال لكان مثاليًّا حقًا.
“أُه… بُوا…”
آه، اللعاب يسيل!
“سيدتي شانا، سأمسح لكِ وجهك.”
“بَيا!”
لا فائدة، سيسيل مجددًا.
بعد ثلاثة أشهر من حياة الرضع، من البديهي أن يصبح التبرّز بلا خجل وسيلان اللعاب بلا قلق أمرًا عاديًا. أنا قوية! لكن الأهم الآن أن أُظهر إنجازي.
‘يبدو أن جسدي ضعيف قليلًا.’
لا أعلم ما هو المستوى الطبيعي لطاقة الرضع، لكني كنت أنهك بسرعة وأنام بعد قليل من الحركة. إن كان هذا عاديًا، فكم يكون يوم الرضيع صعبًا حقًا…؟
آسفة يا أطفال… ظننتُ أنكم تعيشون حياة مترفة بلا عناء.
فكّرت قليلًا: كيف يمكن أن يكون التحرك سهلًا بجسد بلا عضلات تقريبًا؟ ياهذا، هيا!
“شانا، تشجعي!”
“أنتِ قادرة على ذلك!”
“سيدتي شانا، يمكنكِ فعلها!”
“قليلًا بعد!”
بالكاد وضعتُ بطني على الأرض وتخبطت كالسّلحفاة لأتحرك للأمام، لكن بلوغ والديّ بدا مستحيلًا. آه… هل هذه أول خيبة أمل في حياتي؟
“شانا! أمكِ اقتربتُ أكثر هكذا!”
“آنايس، هذا غش.”
“كايل، تعال أنت أيضًا. هيا، شانا!”
كانت أمي قريبة جدًا. لم تكن بعيدة أصلًا.
وأنا ممددة على بطني، وجهي محمرّ من الجهد، رفعت نظري نحو آنايس الجاثية على ركبتيها من أجلي.
رغم أن وجهي مبلل باللعاب، إلا أن أمي لم تخفِ مشاعرها وكأنها تموت من شدة الحب.
آه… يا للغباء.
طويت وجهي على قبضتيّ الصغيرتين.
‘قبضتاي صغيرتان ووجهي كبير، إنه يؤلمني…’
حتى التأثر لا أستطيع التعبير عنه كما أريد.
الرضع عاجزون عن فعل الكثير.
متى كانت آخر مرة دللتُ نفسي هكذا بين يدي والدي؟ لا أذكر.
في حياتي السابقة، كانت أمي طريحة الفراش طويلًا. وكان أبي يعمل جاهدًا لتغطية تكاليف العلاج، مما جعل الاعتناء بأختي الصغيرة يقع على عاتقي لوقت طويل، ثم منذ أن بلغت العشرين أصبحت مسؤولة بالكامل عن المعيشة أيضًا.
ربما لهذا السبب، كان تلقي دلال كهذا، رغم إحراجي، لا يزعجني. في الحقيقة… كنت أحبه.
“شانا، ما بكِ؟ هل أرهقتِ نفسكِ كثيرًا؟”
“أُبُو…”
لا. ليس ذلك.
مدّت أمي يدها نحوي، لكن أبي أوقفها.
“آنايس، شانا لم تستسلم بعد.”
صحيح. لم أستسلم بعد… كنتُ راشدًا يومًا ما، حتى وإن لم أتذكر تفاصيل حياتي السابقة، سأُظهر هيبة أصحاب الخبرة…
تحولت إلى سلحفاة. هذا بحر، وأنا سلحفاة، وهناك في النهاية طعام!
يدي الصغيرة الممتلئة لامست أطراف أصابع أمي.
‘ها؟’
شعرت بشيء ما يُسحب من داخلي.
‘ما هذا الشعور؟’
كان شعورًا صافياً، قوة ما، لكنها لم تكن عضلات بل أقرب إلى طاقة. سطح يدي الصغيرة الممتلئة كان يلمع.
بدت أمي وكأنها أحست بشيء، ففتحت عينيها في دهشة، بينما تجمد وجه أبي. ها؟
“شانا، أنتِ الآن…”
“هل استخدمتِ العلاج السحري؟”
“يبدو… كذلك.”
بينما كنت أحدق بهما مرتبكة، احتضنتني أمي بسرعة.
“كايل، تواصل فورًا مع الكاهن! استدعِ معالجًا وساحرًا أيضًا. استدعِ كل من له صلة بالأمر.”
“كنت سأفعل حتى من دون أن تقولي.”
“شانا، هل أنت بخير؟ لا يبدو وجهك شاحبًا…”
تحسست أمي جبيني وهي على وشك البكاء.
“رغم صغركِ، فعلتِ هذا من أجلي…”
لكن، لا… صحيح أني أردت مساعدتك، لكن هذه المرة كان الأمر غير إرادي تمامًا…
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات