لقد توقّف زمن كاليان فقط، بينما كان العالم من حوله يتدفّق مثل النهر. لقد أصبح داميان رجلاً شابًا، بينما أصبح كاليان عجوزًا ومتعبًا. ولد داميان مع قدرة الظلال لفالدوميرو وقدرة النار لهيستر. أصبح داميان معروفًا في ساحة الحروب باسم نار الجحيم المظلمة. كان داميان يكره والده كاليان لقسوته وبرودته تجاه والدته جوليانا. ولذلك، انقطعت الصلة بين الأب والابن.
[لا تتوقع مني أن أتصرّف كإبنكَ. ليس أنكَ أردتني أصلًا.]
بعد أن سلّم كاليان رئاسة فالدوميرو إلى داميان، عاش وحيدًا في منزل منفصل، مستهلكًا بالوحدة والفراغ. ومن الغريب أن كاليان أصبح مثل والده الذي كان يكرهه ذات يوم. ذكّرته معاناة داميان وحزنه على وفاة والدته، بنفسه عندما كان طفلاً، ضائعًا وحزينًا. أشفق كاليان على داميان لكن كما حدث مع جوليانا، لم يعرف كاليان كيف يُظهر مشاعره. لم يكن كاليان يعرف كيف يُعبّر عن حُبّه لإبنه. فذبل وحيدًا. لقد حافظت قدرة الظلال القوية على جسد كاليان من الشيخوخة، لكن روحه وقلبه أصبحا باهتيَن. في كل غروب الشمس، كان كاليان يفكر كثيرًا في عيون جوليانا القرمزية ويُحدّق بلا نهاية في السماء.
في بعض الأحيان كان صدر كاليان يؤلمه دون سبب.
[إذا متُّ هكذا هل ستستقبلني؟ لا، أظن أنها ستلعنني وتبصق عليّ، ولن يكون لي عذر. لم أكن معها إلّا قاسيًا وباردًا. كان بإمكاني أن أبتسم لها ولو لمرة واحدة، وأن أقول لها لقد أحسنتِ، ولو لمرة واحدة. لو فعلتُ هذا الألم الفارغ في صدري، هل سيختفي؟ لا… لقد أدركتُ أنني كنتُ أحمقًا جدًا لدرجة أنني لم أعرف ذلك، أنها كانت جزءً من حياتي. ورغم أنني كنتُ محطمًا بالكراهية والاستياء، إلّا أنها احتضنتني. لم تكن قد اختارت أن تولد هيستر، ومع ذلك فقد رفضتُ بعنادٍ أن أرى ما هو أبعد من ذلك.]
ارتسمت ابتسامة مريرة على شفتي كاليان.
[لقد كان كل هذا عديم الفائدة الآن.]
أشرق ضوء أمام عيني كاليان. لأول مرة في حياته، سيطر على كاليان النعاس العميق، نوم أبدي لن يستيقظ منه. وبينما كان يتلاشى في الظلام، ارتفع صوت من الأعماق.
{سيدي المثير للشفقة…}
لقد اهتزّت روح كاليان.
{لو أعطيتكَ فرصة العودة إلى الماضي… ماذا ستفعل؟}
وعند الموت، فكر كاليان: [أبتسم لها ولو لمرة واحدة، أقول لها لقد عملتِ بجدٍ. رغم أنني لم أُظهر ذلك أبدًا، إلّا أنني كنتُ ممتنًا لحُبّكِ غير المشروط.]
أغمض كاليان عينيه، وهو يفكر أنه سيبيع روحه من أجل تلك الفرصة الوحيدة.
[آآآه!]
ثم أيقظت صرخة قوية كاليان. أمسك رأسه المتألم، ونظر حوله. كانت غرفة مكتبه، ولكن ليس في المنزل المنفصل، بل مكتب عقار فالدوميرو الرئيسي.
أنصت كاليان في حيرة، من الخارج مجددًا جاءت صرخات ألم، مألوفة جدًا. وكأنه في حالة ذهول، غادر كاليان غرفة المكتب وتبع الصوت. هرعت الخادمات بشكل محموم عبر الممرات.
[قليلًا أكثر، ادفعي بقوة أكبر!]
ومن خلال الباب نصف المفتوح، سمع كاليان صوت الطبيب. عندما دخل كاليان انحنت الخادمات المذهولات بسرعة وفسحن الطريق.
[تقريبًا وصلنا، دفعة أخيرة!]
[آآآه!]
مع صرخة أخيرة، أشرق وجه الطبيب وهو يرفع مولودًا صغيرًا ملطخًا بالدماء.
[لقد تمّ ذلك!]
وبعد أن قطعت الممرضة الحبل السري، قامت بتنظيف الطفل بسرعة ولفّته بقطعة قماش، ثم وضعت الطفل الصغير بين ذراعي جوليانا.
لاحظ الطبيب كاليان وهو يمسح جبينه، وقال بهدوء.
[إنه ولد.]
كان كاليان ينظر فقط إلى جوليانا التي كانت تحتضن الطفل. كانت جوليانا منهكة، وكان وجهها ملطخًا بالدموع، وابتسمت بشكل خافت عندما رأت كاليان.
فكر كاليان: [في حياتي الماضية، كنتُ قد غادرتُ مبتعدًا دون أن أقول كلمة واحدة. أدركتُ الآن أنه لم يكن رفضًا، بل خوفًا. كنت أخشى نور جوليانا المختلف تمامًا عن ظلامي. ولكن هذه المرة… هذه المرة كان بإمكاني أن أقول لها. لو لم يكن هذا حلمًا… لو لم تكن هذه مجرد رؤية قبل الموت…]
تقدّم كاليان ببطء إلى الأمام، وانحنى ليُقابل نظرات جوليانا ووضع يده المرتعشة على يديها. لأول مرة نظر كاليان في عينيها وابتسم.
[لقد عملتِ بجدٍ.]
كانت الكلمات مختلفة عنه سلوكه المعتاد، لدرجة أن جوليانا تجمّدت ونظرت إلى كاليان في حالة من عدم التصديق. ولكن عندما التقت عيني جوليانا بابتسامة كاليان الحزينة، امتلأت عيناها بالدموع وانسكبت على خديها. أمسك كاليان يديها الرقيقة بإحكام.
فكر كاليان: [أخيراً، فهمتُ هذا الشعور المؤلم. لقد كان خوفًا، خوفًا من السماح لها برؤية القلعة الحجرية التي بنيتها حول قلبي، ولكن أيضًا الشوق، الرغبة اليائسة في الاحتفاظ بها بجانبي، الاحترام، الندم، الامتنان. كل ذلك متشابك مع بعضه البعض، يملأ الثقب في صدري. لن أدفعها بعيدًا]
[كاليان…؟]
نظرت إليه جوليانا في حيرة، مندهشة من تغيّره. لقد أمسك كاليان بيد جوليانا بقوة أكبر، وانحنى برأسه وكأنه خائف من أن تختفي إذا تركها.
ومنذ ذلك الحين، بدأ كل شيء يتغيّر. كان كاليان يأتي لرؤية جوليانا كل يوم. لم يكن ودودًا أو ثرثارًا بشكل علني، لكن قلقه كان واضحًا، ما إذا كانت جوليانا مرتاحة، وما إذا كانت بخير؟
جوليانا، مصدومة وسعيدة، لم تعرف ماذا تفعل بهذا الأمر. وفي بعض الأحيان، كان كاليان يحتضن داميان، وإن كان ذلك بطريقة محرجة.
[هل أنا أحمله بشكل صحيح؟]
[لا، أكثر قليلاً. ادعم رقبته.]
[هكذا؟]
بفضل جسده الضخم، احتضن كاليان الطفل الصغير بحركات ثقيلة، خائفًا من أن يكسره. ضحكت جوليانا عند رؤيتها هذا المنظر.
[نعم، هذا قريب بما فيه الكفاية.]
شعر كاليان بالحرج، فابتسم لجوليانا. لقد كان شعورًا لا يُصدّق، أن يرى ابتسامتها الدافئة مرة أخرى، لذلك استمرّ كاليان في التحديق فيها. ارتبكت جوليانا، فالتفتت، ووجهها محمر. لم تكن معتادة على أن ينظر إليها كاليان، الذي لطالما كان باردًا، بمثل هذا اللطف.
فكرت جوليانا: [قبل الولادة، كان كالعاصفة الجليدية. الآن، ربما رؤية طفله قد ليّنت قلبه.]
في إحدى الليالي، أُصيب داميان بالحُمى. حتى مع الدواء، لم تنخفض الحمى، وكان داميان يبكي بلا نهاية في أحضان والدته. لقد كان الوقت متأخرًا، وكان من المفترض أن يكون كاليلن لا يزال يعمل في غرفة مكتبه.
خوفا من أن يزعجه بكاء الطفل، همست جوليانا بهدوء.
[شش، شش… لا بأس يا حبيبي. حالما تستيقظ، ستشعر بتحسّن.]
لقد كافحت جوليانا لساعات طويلة، غارقةً في العرق. عندها فُتح الباب، كان كاليان واقفًا هناك في المدخل، محاطًا بالضوء. فوجئت جوليانا، وسرعان ما قالت الكلمات التي كانت تقولها دائمًا.
[آسفة يا كاليان. سأُهدّئهُ قريبًا، فلا تهتم بنا.]
وجهها المرهق وعينيها الخائفتين جعلت صدر كاليان يؤلمه.
[لماذا تعتذرين لي؟]
[ماذا…؟]
اقترب كاليان منها وأخذ الطفل بلطف من ذراعيها. كالسحر توقف الطفل عن البكاء.
[تبدين متعبةً استريحي.]
[ثم… الطفل…؟]
نظرت يوليانا إلى كاليان وهي في حالة ذهول. ابتسم كاليان لها ابتسامة ناعمة.
[يبدو أن داميان يُفضّل ذراعي على ذراعكِ الليلة. فلا تقلقي بشأنه.]
تركت ابتسامته اللطيفة جوليانا مذهولة، حدّقت فيه في ذهول.
♣ ملاحظة المترجمة: إذًا، كاليان هو سبب انحدارات جوليانا، وهو الذي أعادها.
التعليقات لهذا الفصل " 86"