التقى كاليان بجوليانا لأول مرة عندما كان عمره خمسة عشر عامًا. كان ذلك خلال المأدبة السنوية التي تُقام بين البيوت الدوقية. في ذلك العام، استضافت دوقية هیستر المأدبة. كان كاليان يكره التواجد هناك، قُتلت والدته على يد هيستر وهو في الثامنة من عمره فقط. رؤية والده يتظاهر بالبهجة والود مع أعدائهم اللدودين وكأن شيئًا لم يكن، أثار اشمئزازه.
تسلّل كاليان إلى الحديقة. ولكن كان هناك شخص ما بالفعل، فتاة صغيرة. من مظهرها، بدت كخادمة صغيرة، ربما إحدى الخادمات المبتدئات. كانت نحيفة، وبدا جسدها ضعيفًا جدًا وغير مناسبًا للعمل.
[مرحبًا، هل يمكنني الجلوس هنا أيضًا؟]
فوجئت الفتاة الصغيرة، وانحنت بكتفيها، ثم أومأت برأسها بخجلٍ.
كان شعرها الذهبي المتشابك كالمكنسة، وملابسها البالية بالكاد تحمي حتى من برد الشتاء. من الواضح أنها لم تكن تحظى بالرعاية. هل كانت الشفقة هي ما غيّرت سلوك كاليان ذلك اليوم؟ أم أن التباين، مظهرها الرث وعيناها القرمزيتان اللامعتان، هو ما لفت انتباهه؟ للمرة الأولى، أظهر كاليان اللطف، حتى لخادمة هيستر.
[هل لا يُقدّم هيستر حتى لخدمه وجبات أو ملابس مناسبة؟]
ناولها كاليان بعض البسكويت من جيبه، بل وأعطاها معطفه. نظرت إليه الفتاة الصغيرة بعينين واسعتين. لقد ظن كاليان أن تلك العيون القرمزية كانت لطيفة بعض الشيء.
لقد رأى كاليان تلك الفتاة مرة أخرى بعد خمس سنوات، عندما أُقيمت مأدبة أخرى لهيستر. لكنها لم تكن خادمة. وقفت بفخرٍ كإحدى بنات هيستر.
حينها فقط أدرك كاليان الحقيقة.
[الفتاة التي أشفقتُ عليها لم تكن خادمة، بل ابنة عدوي.]
غمرت كاليان موجة من الخيانة.
[لقد أطعمتُ وكسوتُ ذات مرة ابنة الشخص المسؤول عن وفاة أمي.]
أصابته الفكرة بالغثيان. اضطر كاليان للركض إلى المرحاض يتقيأ مرارًا وتكرارًا. وبعد ذلك، رغماً عنه، أصبحت الفتاة نفسها خطيبة كاليان. لم تكن خطوبتهما أكثر من تضحية سياسية لإنهاء الحرب الطويلة بين فالدوميرو وهيستر. احتجَّ كاليان أمام والده عدة مرات، لكن داركوين رفض شكواه.
فكّر كاليان في الهرب مرّات لا تُحصى. لكن كلمات أمه الأخيرة كانت تُثنيه عن ذلك.
[كن قويًا، وكن رئيسًا لفالدوميرو.]
لذلك فقد تحمّل كاليان.
وفي إحدى المآدب، أُجبر كاليان على الظهور بجانب جوليانا، واستقبلته بحفاوةٍ.
[لقد جئتَ اليوم. لم أكن أتوقع ذلك.]
ابتسامة جوليانا كانت بريئة ونقية.
[سوف أبقى لفترةٍ قصيرة فقط.]
حتى عندما أوضح لها كاليان أنه يريد المغادرة، ابتسمت جوليانا فقط وسألته عن الأطعمة المُفضّلة لديه، والموسيقى المفضلة لديه.
[أزعجني اهتمامها الساذج. في كل مرة كنتُ أنظر إليها، كنتُ أرى صورة أمي المتوفاة تتداخل مع وجهها، فتضطرب معدتي. لقد نظرت إليّ بعيونٍ صافية وغير ملوثة، لكن تلك النظرة كانت تثقلني فقط.]
مرّت السنوات، وأخيرًا جاء يوم زفافهما.
[كاليان دي فالدوميرو، هل تُقسم باسم الرب على حُبِّ هذه المرأة وحمايتها كزوجتكَ؟]
سخر كاليان في نفسه: [أُحبُّ ابنة عدوي؟ كم هذا سخيف.]
لكن كاليون، وهو يشد قبضته، أجاب ببرود.
[نعم.]
فكر كاليان: [كان عليّ أن أرث منصب رئيس فالدوميرو، مهما كلّف الأمر.]
[وأنتِ جوليانا دي هيستر، هل تُقسمين باسم الرب أن تُحبّي هذا الرجل وتتخذيه زوج لكِ؟]
[نعم.]
أجابت جوليانا وهي تبتسم مثل الزهرة.
رغم أن كاليان لم يُبدِ سوى الرفض، إلّا أن جوليانا ابتسمت.
لم يستطع كاليان فهمها: [امرأة حمقاء، تتزوج من ابن عدوها دون أن تدرك ذلك. لن تكون هناك سعادة في زواج مبني على السياسة والضغائن.]
أو هكذا ظن كاليان…
[السيدة حامل.]
وهذا ما قاله الطبيب بعد أن بدأت جوليانا بالتقيؤ وعدم القدرة على تناول الطعام.
فكر كاليان: [رغم الأدوية التي وضعتها لها لمنع الحمل، حملت. طفل ولد من أعداء، أن مصيره سيكون ملتويًا لا محالة.]
قال كاليان لجوليانا.
[لذا، تمّت إضافة سلالة أخرى من هيستر.]
نعم، هذا ما قاله كاليان، كان هذا شعوره الصادق آنذاك…
تذكر كاليان شحوب وجه جوليانا عند سماع تلك الكلمات.
[لم أكن أقصد لومها، لكنني لم أواسيها أيضًا. أظن أنه لا داعي لذلك.]
لقد مرّ الوقت سريعًا.
لم يستخدم كاليان أدوية الإجهاض التي أعدّها. فكر: [لم أكن أريد طفلاً منها، ومع ذلك، لم أستطع إقناع نفسي باتخاذ هذه الخطوة. مع نمو حجم بطنها، شعرتُ بحركات غريبة في صدري. مشاعر لم أرد الاعتراف بها. أجبرتُ نفسي على تجاهلها. لم يكن هذا ضمن خططي، بل زادني قلقًا.]
وقبل أن يدرك كاليان ذلك، كانت جوليانا في حالة المخاض. تردّد صدى صراخها في أرجاء القصر. شعر كاليان بقلقٍ شديد كما لو أنها ستموت مثل أمه.
حاول كاليان تجاهل الأمر، وانشغل بالوثائق في غرفة أخرى. وبعد فترة وجيزة، جاءت رئيسة الخادمات لتخبر كاليان بصوتٍ هادئ.
[لقد أنجبت السيدة.]
تبعها كاليان إلى الغرفة. كان هناك طفل حديث الولادة، ملفوفًا بقطعة قماش بيضاء مستلقيًا بين ذراعي جوليانا.
أعلن الطبيب على عجل وهو يمسح العرق عن جبينه.
[إنه ولد.]
كان كاليان ينظر فقط إلى جوليانا. كانت تبكي وتبتسم في نفس الوقت، وكان وجهها مليئًا بالسعادة التي لم يستطع فهمها.
عندما نظر كاليان إلى الطفل الصغير بين ذراعيها شعر بحركةٍ غريبة في صدره.
[إنه طفلنا، كاليان.]
صوت جوليانا كان متقطعًا، ممتلئًا بالعاطفة.
شعر كاليان بوخزٍ حاد في صدره. شعور غريب وغير مألوف.
[إنه طفلنا.]
عندما لم يُقدّم كاليان أي رد، بكت جوليانا بصوتٍ أعلى، متوسلةً.
حتى بعد ولادة ابنه، ظل تعبير وجه كاليان دون تغيير، باردًا. دموع جوليانا جعلت كاليان يشعر بعدم الارتياح.
فكر كاليان: [لماذا كانت تتوقع مني أشياء طبيعية، أشياء لم تكن طبيعية بيننا أبدًا؟]
استدار كاليان ومشى بعيدًا، وترك جوليانا تبكي مع الطفل.
لقد كبر الطفل بسرعة. الطفل الذي كان يتلوّى في السرير فقط أصبح الآن يتجوّل حول القصر.
[اسم داميان يعني الملاك الصغير.]
ابتسمت جوليانا وهي تشرح الاسم.
حتى عندما كان داميان طفلاً صغيراً، شعر بأن والده لم يكن مرتاحًا معه. لكن جوليانا لم تستسلم. حاولت التواصل مع كاليان وطرّزت قفازاته وملابسه بتصاميم رائعة.
ثم في إحدى الليالي، كالعادة، كانت جوليانا تعتني بالطفل. لقد كانت ليلة عادية وهادئة. ولكن في اليوم التالي، تغيّر كل شيء… تمَّ إخراج جثة جوليانا من غرفتها مغطاة بقطعة قماش بيضاء. حدّق كاليان متجمدًا، حيث كانت المرأة التي كانت تتحدث بجانبه بالأمس فقط، والتي كانت دائمًا تعد الشاي وتتحدّث عن داميان، ترقد الآن مثل دمية تحت کفن.
تحدّث كبير الخدم كليف بخوفٍ.
[يبدو أنها قُتلت أثناء محاولتها حماية السيد الشاب داميان.]
أصبح ذهن كاليان فارغًا. لم يحزن، لم تدمع عينيه. فقط… عدم التصديق. لقد اختفت الحركة الغريبة في صدره. ولكن في مكانه كان هناك شيئًا أجوفًا.
[لماذا إذًا أجد نفسي أتجول في غرفتها الخاصة كل يوم؟ لم تكن سوى ابنة عدوي. كان زواجنا خاليًا من المشاعر. فلماذا إذًا؟]
[الجو بارد في الخارج، لذلك صنعتُ لكَ هذه القفازات.]
[كاليان بدأ داميان المشي اليوم]
[كان الطقس جميلًا جدًا، لدرجة أنني ذهبتُ في نزهة في الحديقة… وفكرتُ فيكَ.]
صوت جوليانا المبهج تردّد في أذني كاليان مثل الشبح.
[أنا أُحبُّكَ كاليان.]
[المرأة التي ابتسمت لي ذات مرة بفرحٍ شديد الآن فقط أدركتُ كيف أن تلك الابتسامة قد تلاشت خلال فترة زواجنا.]
كان كاليان واقفًا في غرفة جوليانا، وهو يُمسك صدره. لقد شعر كاليان وكأنه فتح صندوق باندورا الذي لم يكن ينبغي له أن يلمسه أبدًا. توقّف زمنه عند هذا الحد، ولم يتقدّم أبدا…
التعليقات لهذا الفصل " 85"