“لا تقلقي، ارتاحي جيدًا يا جوليانا. هذا مفيد للطفل أيضًا.”
كل ليلة، بعد أن يتأكد لويد من أن المكان آمن، كان يغادر المنزل. لم أكن أعرف أين ينام، ولم أطلب منه البقاء داخل المنزل قط. إذا تجاوزتُ حدودي أشعر أنه سيصبح من الطبيعي جدًا أن يكون بجانبي طوال الوقت….. كنتُ ممتنةً للطف لويد وعنايته، لكنني مع ذلك تمنيتُ لو أنه يعيش حياته الخاصة. كنتُ أعلم أن التفكير بهذه الطريقة أناني وغير منطقي، وأنا من تعتمد على مساعدته. مهما حاولتُ إبعاد لويد، لم يرحل. بعد جدال كثير، وعدني لويد بأنه سيتراجع حالما يتأكد من ولادة الطفل بسلامة وأننا في أمان. لكن موعد ذلك اليوم غير مؤكد. لذلك حاولتُ جاهدةً عدم اعتبار مساعدة لويد أمرًا مفروغًا منه. كان لويد رجلًا طيبًا ولطيفًا بحق، لكن أحيانًا، عندما انظر إليه، كنتُ أشعر بعدم الارتياح، كما لو كنتُ أُواجه ثعبانًا، مستعدًا للتسلل من أصغر فجوة إذا خفّفتُ من حذري. لهذا السبب حاولتُ جاهدة الحفاظ على الجدار بيننا قويًا. المشكلة كانت أنه كلما بنيتُ الجدار بقوة، انحنى فوقه بعفوية.
في ذلك الصباح، كما هو الحال دائمًا، أيقظني لويد بعد إعداد وجبة الإفطار.
“لقد قلتُ لكَ أنني أستطيع الاهتمام بوجبة الإفطار بنفسي.”
حتى عند سماع كلماتي الباردة، ابتسم لويد فقط وقادني إلى الطاولة.
“صنعتُ ذلك لأني كنتُ جائعًا. بالتأكيد لن تمنعيني من الطبخ في المنزل الذي وجدته لنا، أليس كذلك؟ تفضّلي جرّبي هذا. حساء السبانخ، يُقال إنه مفيد للحوامل. وهذا عصير برتقال طازج، عصرته بنفسي.”
“ألَا يعد هذا طعامًا صحيًا لأي شخص، وليس فقط للنساء الحوامل؟”
“لهذا السبب يجب علينا أن نتناوله معًا.”
لا يمكنك البصق على وجه مبتسم. لقد كان لويد دائمًا هكذا. لقد قلتُ لنفسي أن أكون أكثر قسوة، ولكن عندما أواجه ابتسامة لويد الدافئة، لم أستطع إلّا أن أستسلم. ربما تقبّلتُ ذلك لأنني، في أعماقي، ظننتُ أن كل هذا يساعدني على العيش من أجل داميان. إن كان الأمر كذلك، فهذا يجعلني أنانيةً بالفعل.
أثناء تناول الإفطار، تحدّث لويد فجأة.
“بخصوص اسم الطفل…. إذا كانت بنتًا، ماذا عن كلوي؟ إذا كان ولدًا، ماذا عن كلود؟”
تجمدت يداي. أجبتُ بخفة، كما لو كان أمرًا طبيعيًا.
“لقد قرّرتُ بالفعل الاسم.”
نظر إليّ لويد بدهشة.
“ما هو الاسم؟”
قلتُ بهدوء.
“داميان.”
لاحظ لويد تعبير وجهي، فلم يلح عليّ أكثر. بل ابتسم ابتسامة خفيفة مريرة.
“داميان… هذا اسم جميل.”
لقد مرّ بالفعل نصف عام منذ اختفاء جوليانا. في ذلك الوقت، كان كاليان قد دمَّر نفسه جزئيًا. بصفتهِ وريث فالدوميرو، كان لا يزال يتولى الحد الأدنى من المهام، لكنه قضى كل وقته المتبقي في البحث عن جوليانا.
لم ينم كاليان نومًا كافيًا منذ شهور. قدراته العظيمة سمحت له بالعمل دون راحة تُذكر، لكن المشكلة كانت في كيفية قضائه تلك الساعات التي لا ينام فيها، يشرب حتى يغيب وعيه، أو يُرهق نفسه بالعمل حتى انهيار جسده. حتى بالنسبة لصاحب قدرة عظيمة، لم يكن كاليان بلا حدود. كلما طال الزمن ازداد انکساره.
وفي ذلك اليوم أيضًا، وبعد البحث حول ضواحي سيلفرستيل دون جدوى، كان أول شيء فعله كاليان عند عودته هو فتح زجاجة من الويسكي القوي. كان جدار غرفة مكتبه مُغطّى بخريطة ضخمة، مليئة بملاحظات مكتوبة بخط اليد وعلامات X في كل مكان. كان مكتبه مدفونًا تحت أكوام من زجاجات الخمور. حتى أنه لم يسمح للخادمات بالدخول للتنظيف، خوفًا من أن يعبثن بملاحظاته. ونتيجة لذلك، لم تُفارق رائحة الويسكي النفاذة مكتب كاليان.
دخلت ليلى لتسليم وثائق رسمية، فوجدت كاليان على الأريكة يرتشف مشروبًا تلو الآخر. كان عدد الزجاجات المفتوحة يفوق بكثير ما يمكن لشخص عادي أن يشربه.
رغم وجود ليلى هناك استمرّ كاليان بالشرب. اقتربت منه بحذرٍ ووضعت يدها على ذراعه.
“صاحب السمو، لقد تناولتَ الكثير.”
ولكن كاليان أجاب ببرودٍ فقط.
“فقط قومي بتوصيل رسالتكِ.”
كان صوت كاليان واضحًا وثابتًا، لا يوجد أي علامة على السُكر على الإطلاق.
شعرت ليلى بالحرج، فاستقامت وتحدّثت.
“التابعون غاضبون. لقد تأخّر انعقاد مجلس التابعين لعدة أشهر الآن.”
“هل فشلتِ في التحقق من تقاريرهم؟”
“لا…. ولكن بما أن المجلس، الذي يُعقد عادة بانتظام، قد تأخر لأشهر، فإنهم….”
“المجلس ليس أكثر من تابعين يتذمّرون من مظالمهم، أليس كذلك؟”ظ
نظرت إليه ليلى. فكرت: “كان وجهه شاحبًا، وفكّه أكثر حدّة من أي وقت مضى. فبينما كان كصخرة صلبة، بدا الآن وكأنه سيف، نحيف حاد وخطير. حتى أن جو الخراب الذي كان يُحيط به كان يُناسبه.”
كانت ليلى تُحدّق في كاليان بنظرةٍ متلهّفة.
عندها نهض كاليان فجأة ومشى نحو الخريطة الكبيرة. أظهرت الخريطة العاصمة المركزية، مع تحديد مناطق هيستر وفالدوميرو ومارسيلينو وسيلفرستيل. كانت أراضي فالدوميرو وسيلفرستيل ممتلئتين بالعلامات لدرجة أنه لم يبق أي فراغ. في المقابل، بدت أراضي هيستر ومارسيلينو خاليتين نسبيًا.
فكر كاليان: “كان هيستر لا يزال متوترًا للغاية بعد زيارتي الأخيرة لذلك تمّ إرسال عدد قليل من الجواسيس بهدوء إلى هناك. أما بالنسبة لمارسيلينو…..”
أثناء النظر إلى علامات X القليلة هناك، عبس كاليان وهمس.
“قال كليف أن المحققين لم يجدوا شيئًا غير عادي في مارسيلينو، أليس كذلك؟”
تیبّست لیلى قليلاً خلفه، لكنها سرعان ما أجابت بهدوء.
“نعم، هذا ما سمعته.”
“اتصلي بكليف علينا التحقيق مع مارسيلينو مجددًا.”
أجبرت ليلى تعبيرها على البقاء هادئًا وأومأت برأسها.
“إذا أمرتني بذلك، أستطيع أن أذهب للتحقيق بنفسي.”
لكن كاليان التفت إلى ليلى، وكانت عيناه الإرجوانية باردة وحادة مثل الشفرات.
“ألم أقل، اتصلي بكليف؟”
نبرة كاليان القاتلة جعلت ليلى تحني رأسها بسرعة.
“نعم صاحب السمو.”
فكرت ليلى: “رغم أن صاحب السمو كان عليه الكثير من العمل، إلّا أنه لم يوكلني مباشرة بأمور جوليانا. كان من الواضح أنه لا يثق بي عندما يتعلق الأمر بجوليانا. لقد آذاني هذا.”
لكن ليلى حافظت على تعبيرها ثابتًا، وانحنت للمغادرة. سكب كاليان لنفسه كأسًا آخر من الويسكي حتى حافته. نظرت ليلى إليه، ثم غادرت غرفة المكتب وسارت في الممرات الصامتة.
منذ اختفاء جوليانا وسقوط كاليان غرق قصر العقار بأكملها في كآبة. تحرّك الجميع بحذر، مدركين أنهم إن لفتوا انتباه كاليان في لحظة عصيبة، فلن ينجوا.
وبينما كانت ليلى تمشي عبر القاعات الهادئة التي تشبه قاعات منزل مسكون وصلت ليلى أخيرًا إلى مكتبها الخاص. وبمجرد دخولها، أغلقت الباب، وأخرجت بسرعة ورقة وقلمًا وبدأت في الكتابة. لقد كانت رسالة عاجلة، متسرّعة، موجّهة إلى شخص ما. وفي الأعلى كتبت ليلى اسمًا واحدًا.
التعليقات لهذا الفصل " 83"