لقد كان الأمر أشبه بكوني غزالًا وقعتُ في فخٍ، لم أتمكّن من الهروب من نظرة كاليان. كنتُ أعرف مدى شراسة تلك العيون الإرجوانية العميقة، والنار التي تشتعل بداخلها. وكفراشة تجذبها النيران كنتُ محاصرةً، عاجزةً عن النظر بعيدًا. رأيتُ حلق كاليان يتحرّك بخشونة وهو يبلع ريقه، وتفاحة آدم ترتفع وتنخفض. ذكّرني ذلك بحركة جسده تحت ضوء القمر.
مع أن ليلى كانت جالسة معنا في العربة، إلّا أن عيني كاليان كانتا ثابتتين عليّ وحدي بنظرةٍ حارة وهوس. هذا جعل أصابع قدميّ ترتعش. عضضتُ الجزء الداخلي من خدي لأُبعد هذا الشعور. نعم، لم يكن هذا سوى رغبة جسدية. لم يكن الأمر يتعلق بالحب، فقط رغبة الجسد في المتعة. مع أنني كرهتُ الاعتراف بذلك، إلّا أننا كنا دائمًا متوافقين جسديًا. ربما أثار شغفه الناري والحارق، شيئًا ما في داخلي أيضًا. ولكن هذا كان كل شيء. لم تكن المتعة الجسدية شيئًا مقارنة بالألم المحفور في روحي.
أغمضتُ عينيّ بقوة، محاولةً نسيان الأيام التي قضيتها في دالوت.
ساد الصمت حتى سألت ليلى فجأة في حيرة.
“سيدتي، هل تشعرين بتوعك؟”
ففزعتُ، وفتحتُ عينيّ. لحسن الحظ، لم يعد كاليان يُحدّق بي، استدار لينظر من النافذة.
واجهتُ ليلى وأجبتها بهدوءٍ قدر استطاعتي.
“أنا بخير.”
أمالت ليلى رأسها ثم أومأت.
” إذا شعرتِ بعدم الارتياح، فأرجو أن تخبريني.”
للحظةٍ وجيزة، التقت عيناي بعيني كاليان مجددًا. استدرتُ سريعًا، قاطعةً الاتصال، ونظرتُ إلى الخارج. انطلقت العربة غربًا، تحمل حرارة خانقة لا يمكن لأحد أن يشعر بها إلّا كاليان وأنا.
عندما وصلنا إلى منزل داركوين، لم يستقبلنا سوى كبير الخدم والخادمات. أما داركوين، رئيس فالدوميرو، فلم يظهر. وبدا كاليان غير متفاجئ كما لو كان معتادًا على ذلك.
انحنت ليلى بأدب.
“سأذهب لأُبلّغ صاحب السيادة أولًا.”
عادةً ما يُلقي الابن التحية على والده بنفسه. لكن كاليان أومأ برأسه ودخل المنزل.
تبعتُ الخادمات إلى الداخل، وأنا أُراقب ظهر كاليان. في حياتي الأولى أيضًا، لم يكن كاليان وداركوين قريبين جدًا، بالكاد التقيا ذات مرة، زرتُ هذا المكان لمقابلة حماي. تناولنا وجبة واحدة فقط. بالنسبة لكاليان لم يكن والده سوى ربّ العائلة السابق. بعد تولّي كاليان منصب الدوق، قطع حتى الصلة المحدودة التي كانت تجمعهما. لم أعرف قط سبب برودة علاقتهما. ولم يخبرني كاليان قط. كان ذلك مؤلمًا آنذاك. أما الآن، فقد كنتُ شبه سعيدة. كنتُ سأغادر على أي حال لم تكن لدي أي رغبة في معرفة أمور كاليان الخاصة.
أثناء العشاء، رأيت داركوين أخيرًا. لقد كان نسخة حقيقية لابنه، صامت بارد صارم.
سأل داركوين.
“إنها المرة الأولى منذ المأدبة، أليس كذلك؟”
أجبتُ بهدوء.
“نعم.”
“لن يكون مريحًا مثل منزلك، لكن اجعلي نفسكِ مرتاحةً أثناء وجودكِ هنا.”
“نعم.”
“هل الحياة في فالدوميرو صعبة بالنسبة لكِ؟”
بدا وكأنه يسألني من باب القلق، لأنه يعلم أن امرأة من عائلة هيستر قد تواجه صعوبة.
لكن قبل أن أتمكن من الرد، قاطعني كاليان.
“بعد العشاء، لدي تقارير عن اجتماع التابعين.”
تصلّب تعبير داركوين
“تولَّ الأمر بنفسكَ. لقد انسحبتُ من شؤون العائلة.”
تصلّب تعبير كاليان أيضًا.
“لا يزال التابعون يعتبرونكَ سيدهم الحقيقي.”
“وهذا يثبت أنكَ فاشل في رئاستهم.”
كان الجو بين الأب وإبنه باردًا تمامًا، وخاليًا من الدفء. وضعتُ شوكتي بهدوء، خائفة من أن أختنق إذا أكلتُ في هذا التوتر.
بالطبع، كان عليّ أنا وكاليان أن نتشارك غرفة واحدة. في المنزل الرئيسي، كانت لنا غرف منفصلة، لكن ليس هنا تحت أنظار داركوين.
بينما ساد الصمت الغرفة جلس كاليان على السرير بهدوء.
“تحمّلي الأمر ليلة واحدة فقط. سنعود غدًا.”
تجنبتُ السرير، وأخرجتُ كتابًا من حقيبتي وجلستُ على الأريكة قرب الطاولة.
“هيا نم. سأقرأ قليلًا.”
عبس كاليان بعمق.
“هل تُخططين للبقاء هناك طوال الليل؟”
“لا أستطيع النوم.”
الحقيقة هي أنني كنتُ أرغب في تجنب مشاركة السرير. بعد تلك النظرة الحارة في العربة، لم أكن متأكدة مما قد يحدث. وما لم أعرف إن كنتُ حاملاً، لم أستطع المخاطرة.
أطلق كاليان نفسًا محبطًا وهو يدفع شعره للخلف.
“لماذا تستمرين في تجنبي؟”
“ليس كذلك.”
“نعم، منذ عودتنا من دالوت. هل تعتقدين أنني سوف التهمكِ؟”
“ليس هذا هو الأمر.”
أدرتُ رأسي بعيدًا.
تنهد كاليان بصوتٍ ثقيل.
“لن ألمسكِ إذا لم ترغبي بذلك.”
نظرتُ إلى كاليان. غرقت عيناه عميقًا كما لو أنه يتذكر تلك الليالي في دالوت.
“لم أجبركِ. لقد وافقتِ، أليس كذلك؟”
كلمات كاليان الجارحة جعلت وجهي يحترق. التفتُّ بعيدًا.
“لا أريد التحدّث عن هذا.”
أطلق كاليان ضحكة مريرة.
“فماذا كانت تلك الليالي لكِ؟”
نظرت إلى كاليان رغمًا عني، وتجمدتُ.
كان كاليان الرجل القاسي عديم الرحمة يُظهر تعبيرًا مجروحًا. لم يُناسبه ذلك إطلاقا. هذا هو كاليان الذي تجاهل حتى موت طفلنا.
عضضتُ شفتي وقلتُ ببرود.
“كان الأمر مجرد واجب، أقصد الليالي الزوجية المقررة. أنتَ تعلم ذلك.”
لكن كاليان سخر.
“لا تكذبي يا جوليانا. لم نكن ننام فقط في الليالي المقررة.”
ضغط كاليان على كل كلمة بصوتٍ عال.
“في اليوم التالي، واليوم الذي يليه، في غرفة النوم، في الحمام، وحتى في العربة.”
لقد نهض كاليان اقترب أكثر فأكثر حتى وقف فوقي مثل شجرة كبيرة، شعرتُ وكأن رائحة تلك الليالي تلتصق به، تعرّقت راحتا يديّ.
التعليقات لهذا الفصل " 75"