التقيتُ بنظرةٍ كاليان المُكثّفة دون أن أنظر بعيدًا.
“هل يُهم؟”
لقد كان كاليان مَن نصحني بالبحث عن حبيب. ما أهمية معرفة مَن يكون أصلًا؟
“هذا يُهم بالنسبة لي.”
صوت كاليان المنخفض جعلني أتوقّف. لم أفهم لماذا قال ذلك، ولم أهتم بمعرفة السبب. لطالما أساء كاليان فهم علاقتي بلويد. في البداية، لم أكترث إن أساء فهمي، لكن الآن اختلفت الأمور. تذكَّر لويد الحياة السابقة. كان التورط مع لويد أكثر خطورة، من أجلي، إذ كنتُ بحاجة لمقابلة طفلي داميان، ومن أجل لويد أيضًا، ليتمكن من عيش حياة جديدة. ولهذا السبب قمتُ بقطع علاقتي بلويد تمامًا حتى أنني كشفتُ الحقيقة بشأن الطفل. ومن الآن فصاعدًا، لن أستطيع إعطاء كاليان أي أسباب أخرى لسوء الفهم.
“ليس بيني وبين لويد أي شيء.”
عند سماع كلماتي الباردة، عبس كاليان وكأنه لم يُصدّقني. نظرتُ في عينيه بوضوحٍ وقلتُ
“أؤكد لكَ ليس حبيبي.”
حدّق كاليان فيّ لوقتٍ طويل قبل أن يسأل بشك.
“إذًا لماذا لم تنكري ذلك من قبل؟”
لطالما ألحَّ كاليان عليّ بشأن لويد، ولم أُكلّف نفسي عناء تصحيحه. لم يكن الأمر يستحق الشرح، وكان الجدال مع كاليان بلا معنى.
“لم أُنكر ذلك، ولكنني لم أعترف به أيضًا.”
لفترةٍ من الوقت بدا تعبير كاليان فارغًا، ثم مضطربًا بعض الشيء كما لو كان يدرك أنني كنتُ على حق.
تنهدتُ بخفةٍ، ثم تابعت.
“تناولنا الشاي بضع مرات فقط. مكثتُ قليلًا في ڤيلا سانتبول، لكن لم يحدث شيء يدعو للشكوك.”
لو حسبتُ الحياة السابقة لكان الأمر مختلفًا. أما في هذه الحياة فقد كان الأمر صحيحًا، لم يكن بيني وبين لويد أي شيء.
نظر إليَّ كاليان وسألني.
“كيف من المفترض أن أُصدّق ذلك؟”
مازال كاليان يشكُّ بي. تنهدتُ مرة أخرى.
“تُصدّق أو لا تُصدّق، الأمر متروك لكَ. لقد أجبتُ للتو على سؤالكَ.”
التزم كاليان الصمت، كأنه يحاول قراءة صدقي. لم يكن يُهمني تصديقه لي أم لا، كل ما أردتُه هو تجنّب أي تواصل آخر مع لويد.
“لن يكون هناك أي تورّط مع لويد من الآن فصاعدًا.”
أضفتُ، وكأنني أتعهّد لنفسي.
“لا أريد أن يُساء فهمي في مثل هذه الأمور مجددًا.”
لقد تذبذبت نظرات كاليان قليلًا عند سماع نبرتي الحازمة. وضع كاليان يدهُ على فمهِ، وأصابعه تُلامس شفتيه. وهي لفتة غريبة ومحرجة.
عندما وجّهتُ لكاليان نظرة استفهام، أدار رأسه وقال.
“سأُحاول أن أُصدّقكِ.”
عند سماع تصريح كاليان الواضح، خفضتُ نظري. نعم، كان هذا صحيحًا، من أجل لويد أيضًا. لم يكن من الصواب استخدامه ذريعة لحبيبٍ غير موجود.
وبينما أستقرّت أفكاري، شعرتُ بنظرات كاليان مرة أخرى.
نظر كاليان إليّ بجديةٍ وقال.
“أنا آسف لأنني ضغطتُ عليكِ بشدةٍ في وقتٍ سابق.”
لقد كان الأمر غريبًا، في الآونة الأخيرة كنتُ أسمع من كاليان كلمة أنا آسف، لم يحدث هذا في حياتي الأولى عندما تزوجته لأول مرة.
لقد أبقيتُ تعبيري متيبّسًا عمدًا وأجبتُ ببرودٍ.
“لا بأس.”
هل لكن شيئًا ما في تعبير كاليان الهادئ أزعجني. هل كان من المهم جدًا بالنسبة له ألّا يكون لويد حبيبي؟ لم أكن أعرف. مع أو بدون ليلى، مشاعري تجاه كاليان ظلت كما هي، وكانت الكراهية. الجروح التي تركها كاليان في حياتي الماضية لم تكن مجرد ذكريات بل كانت محفورة في قلبي وروحي.
في مكتبه، توقف كاليان عن الكتابة في منتصف الجملة، وتأمّل.
[لن يكون هناك أي تورّط مع لويد من الآن فصاعدًا.]
نقر كاليان على المكتب بأصابعه الطويلة بإيقاع منتظم.
[لا أريد أن يُساء فهمي بشأن أشياء مثل هذه مرة أخرى.]
توقفت أصابع كاليان الطويلة عن النقر، اتكأ على إحدى يديه، عبس وهو يُفكر: “ربما قالت جوليانا ذلك فقط للخروج من الموقف. بعد كل شيء، كانت نظرة لويد إليها عميقة جدًا بحيث لا يمكن اعتبارها لا شيء. لا يمكن لرجلٍ أن يفوّت نظرة كهذه من رجلٍ آخر. ومع ذلك، من الغريب أن كلماتها الحازمة بشأن ضرورة إبقاء جدار بينهما جعلتني أشعر براحةٍ غريبة. ربما لم تكن علاقتهما متبادلة في النهاية. على الأقل، بدا أن جوليانا تريد الابتعاد عن لويد.”
عندما خطرت لكاليان هذه الفكرة، ارتعشت شفتاه لا إراديًا. عدّل تعبيره متظاهرًا باللامبالاة.
تمتم كاليان في نفسه: “هل كنتُ أشعر بالسعادة حقًا؟ لمجرد جملة واحدة عن عدم رؤيتها لويد مجددًا؟”
لم يفهم كاليان نفسه، لذا أجبر نفسه على التركيز مرة أخرى على العمل، لكن عينيه انحرفت إلى تقويم المكتب. فكر كاليان: “لم تكن ليلة النوم معها بعيدة.”
هذه الفكرة جعلت كاليان يشعر بثقلٍ تحت صدره، وتسارعت ضربات قلبه. تمتم كاليان في نفسه: “لقد كانت ليلتنا الأولى معًا بمثابة كارثة، وبعد ذلك لم يكن هناك سوى العض وإيذاء بعضنا البعض. لكن هذه المرة، لم أكن أُريد مواجهتها بنفس العقلية. كنا متزوجين بالفعل، لن يكون من السيئ قضاء ليلة في جو حميم، سواء نمنا معًا أم لا.”
وبينما كانت هذه الفكرة تترسّخ في ذهن كاليان، وجد كاليان نفسه يدفع عمله جانبًا، ويُخطط بالفعل لكيفية جعل تلك الليلة ليلة لا تُنسى…
استيقظ كاليان من قيلولة خفيفة، وفرك جبهته.
“هل نمتُ في المكتب؟”
كان هناك شيء غريب، لم يكن المكتب الذي كان يجلس فيه كاليان يشبه مكتبه في عقار فالدوميرو. ولكنه لم يكن غريبًا تمامًا أيضًا.
عندما ذهب كاليان إلى النافذة وفتح الستائر تدفقت أشعة الشمس الساطعة إلى الغرفة المظلمة.
“ألم يكن الليل قبل لحظة فقط؟”
وكانت الإجابة واضحة بمجرد أن نظر كاليان إلى الخارج، تحت سماء صافية امتد بحر واسع وأمواجه تتكسّر باللون الأبيض على الشاطئ. كانت ڤيلا فالدوميرو في ساحل بحر دالوت.
“هل أنا… لا أزال أحلم؟”
بينما كان كاليان يقف هناك في ذهول، سُمع ضحكة مألوفة قادمة من الشاطئ.
“داميان، تعال هنا!”
“هاها!”
كانت جوليانا تبتسم بمرحٍ وهي تمشي على طول الشاطئ مع طفلْ صغير. كان وجه الطفل مخفيًا، يمشي ببطء ولكنه يركض نحوها بلهفة. عندما هبّت الأمواج، حملت جوليانا الطفل ضاحكةً. فتح الطفل ذراعيه على مصراعيهما، ضاحكًا فرحًا بالرذاذ. كان الصوت دافئًا وسعيدًا لدرجة أن كاليان وقف هناك يراقب بصمتٍ. لقد شعر كاليان وكأن جزءً من صدره قد انفجر، أو ربما كان هناك ألم بارد عميق في الداخل. على أي حال، لم يستطع كاليان أن يرفع عينيه عن وجه جوليانا السعيد.
لقد كان يومًا غريبًا. كاليان الذي كان عادةً يتناول العشاء معي في العقار فقط، اقترح أن نخرج معًا. لقد تفاجأتُ، ولكن لم يكن لدي سبب للرفض. بعد رحلة طويلة بالعربة، غادرنا المدينة حول قصر عقار فالدوميرو وأكملنا طريقنا.
“أين نحن ذاهبان؟”
سألتُ أخيرًا.
“سوف ترين.”
قال كاليان ببساطة.
لقد مرّت الساعات، ولابد أنني غفوتُ. عندما استيقظتُ ورفعتُ رأسي، أدركتُ أن رأسي كان متكئًا على شيء ورأيتُ يد كاليان بين رأسي وجدار العربة، فزعتُ خجلتُ. سحب كاليان يده والتفتَ بعيدًا. وكأن شيئًا لم يكن.
“توقيت مثالي. نحن هنا.”
كان ضوء غروب الشمس الأحمر يتدفق عبر نوافذ العربة. رفعتُ الستارة والتقطتُ أنفاسي. كان البحر يتلألأ باللون الأحمر تحت غروب الشمس، وكان هناك شاطئ طويل يمتدُّ بجانبه، وخلفه ڤيلا مألوفة تقترب. هذا هو المكان الذي أحبَّهُ طفلي داميان أكثر من أي مكان آخر، كيف لا أتعرّف عليه؟
بينما كنتُ أنظر إلى الأمواج، خطرت لي فكرة غريبة. لا ينبغي لكاليان أن يعرف شيئًا عن الماضي الذي كان داميان موجودًا فيه… فلماذا أحضرني إلى هنا؟
التعليقات لهذا الفصل " 63"