خرج كاليان من مكتبه دون أن يرتدي معطفه بشكل صحيح. لم تكن ممرات القصر هادئةً فحسب، بل كانت معتمةً ومخيفةً تقريبًا. بسبب المهرجان غادر معظم الخدم والخادمات القصر فلم يبقَ سوى الحد الأدنى من الموظفين.
لم يكسر الصمت إلّا أنفاس كاليان الخشنة.
“جوليانا…”
الفكرة الوحيدة في رأس كاليان كانت أنه يجب عليه رؤية جوليانا الآن.
ولم يتذكر كاليان حتى أنه سمح لها بالخروج قبل ساعات قليلة فقط. شعر وكأنه سيتوقف عن التنفس إذا لم يراها على الفور.
“أوه…!”
وضع كاليان يده على جبهته وسار بخطواتٍ غير ثابتة في الممر، وتوقف عدة مرات ليتكئ على الحائط بسبب الصداع الشديد والأصوات الغريبة التي تتردّد في رأسه.
“صاحب السمو؟”
كانت رئيسة الخادمات تمر من أمام كاليان، فلاحظته وهرعت إليه بدهشة.
“هل أنتَ بخير يا صاحب السمو؟”
عندما حاولت رئيسة الخادمات أن تُساند كاليان، دفع يدها بعيدًا وسألها وهو يتنفس بصعوبة.
“أين جوليانا؟”
أجابت رئيسة الخادمات وهي مرتبكة.
“أعتقد أن السيدة خرجت إلى المدينة مع كيت… لكن يا صاحب السمو، تبدو مريضًا جدًا. يجب أن ترى الطبيب….”
“اتركي ذلك!”
وعندما حاولت رئيسة الخادمات مساعدة كاليان مرة أخرى، دفعها جانبًا واتكأ على الحائط مثل وحش يزأر.
فكرت رئيسة الخادمات: “لقد كان سموه دائمًا هادئًا ومتماسكًا، لذلك رؤيته بهذه الحالة صدمني. هل كان يشرب؟”
قبل أن تتمكن رئيسة الخادمات من التفكير أكثر، بدأت كاليان في المشي مرة أخرى، متجهًا خارج القصر.
عندما حاولت رئيسة الخادمات أن تتبع كاليان بقلق، حرّك رأسه قليلًا، وعيناه تلمعان بنية القتل، وزأر.
“إذا اعترضتِ طريقي الآن، فقد أقتلكِ. تذكري ذلك.”
كانت كلمات كاليان واضحة تمامًا، ليست غامضة على الإطلاق، والهالة المظلمة المشؤومة المحيطة به جعلت من المستحيل على رئيسة الخادمات الاقتراب منه. كان الأمر نفسه ينطبق على جميع الخدم الذين مرّ بهم. لم يجرؤ أحد على التحدّث إلى كاليان وهو يغادر القصر بحثًا بلا هدف عن جوليانا.
“جوليانا…”
لم يفهم كاليان حتى سبب يأسه الشديد للعثور على جوليانا. لكن جسده وعقله بحثا عنها مثل رجل يحتضر في الصحراء يبحث عن الماء. كان كاليان يتجوّل بين حشد المهرجان، وجهه عابس من الألم، ملابسه وشعره في حالة من الفوضى، تعبيره مشوش، يمشي بشكل غير مستقر مثل ثمل. كان الناس يتجنبونه، ولم يتخيّلوا أبدًا أن هذا هو حاكم إقليم فالدوميرو.
أمسك كاليان بكتف امرأة ترتدي فستانًا أسودًا وقناعًا أسودًا، ليرى هل كانت جوليانا. عدة مرات، أخطأ كاليان في محاولته العثور عليها، مما أدى إلى ظهور نظرات غريبة عليه. كانت الشوارع مليئة بالناس الذين يرتدون ملابس سوداء وأقنعة، مما جعل عثوره على جوليانا مستحيلًا تقريبًا.
“أين…؟”
ثم بدا وكأن جميع الأشخاص المقنعين التفتوا ونظروا إلى كاليان في وقتٍ واحد. بدت نظراتهم لكاليان وكأنهم ينظرون إلى مثير للمشاكل في حالة سُكر.
“أوه…!”
أصاب كاليان صداع مفاجئ وشديد مرة أخرى، تأرجح العالم ودار حوله
تردّدت مشاهد ابتسامة جوليانا وصوتها في رأس كاليان، وطعنت قلبه حتى شعر وكأنه على وشك التمزّق. أمسك كاليان صدره وتعثّر وسقط على ركبتيه.
“ها…! ها…!”
الناس من حوله، اعتقدوا أنه رجل مخمور ولم يفعلوا شيئًا.
أصبحت رؤية كاليان مظلمة، وأصبح تنفسه أسرع وشعر أنه قد يموت.
“كاليان…؟”
وسط كل هذا الضجيج، كان صوت جوليانا واضحًا تمامًا في أذني كاليان.
التفت كاليان نحو صوتها.
“إنها هناك…”
في وسط الحشد ذوي ملابس السوداء، وقفت جوليانا مثل وردة حمراء تتفتح وحدها. مجرد رؤيتها جعل ذهن كاليان يشعر بوضوح أكبر.
نسي كاليان أين كان، فتقدَّم للأمام وسحبها بين ذراعيه. تفاجأت جوليانا ونظرت إليه.
“لماذا أنتَ هنا؟ ولماذا تبدو هكذا؟”
لم يجيبها كاليان، فقط احتضنها بقوة، وكأنه خائف من أن تختفي.
“كاليان…؟”
وأخيرًا، همس كاليان بصوتٍ خافت.
“وجدتكِ.”
كرجل يلهث بحثًا عن الهواء بعد أن كاد أن يغرق، دفن كاليان وجهه في شعرها وتنفس بعمقٍ.
نظرت إليهما كيت وبدت عليها علامات الارتباك فجأة، وتلعثمت قائلةً.
“آه… سيدتي، لدي مكان أذهب إليه مع الخادمات الأخريات. سأذهب الآن!”
“انتظري، كيت.”
نادت جوليانا خلفها، لكن كيت كانت قد اختفت بالفعل في الحشد.
مع تنهيدة، حاولت جوليانا دفع كاليان بعيدًا.
“ماذا يحدث؟ أتركني أولًا…”
لكن جوليانا تجمدت.
كانت ملابس كاليان مُبلّلة بالعرق، وكان جسده ساخنًا للغاية، ساخنًا جدًا بالنسبة لإنسان.
“أنتَ…”
عندما التفتت جوليانا لتنظر إلى كاليان، أدركت أخيرًا مدى سوء حالته.
“أنتَ هكذا، ومع ذلك خرجتَ؟”
حتى في توبيخها، كان كاليان يمسك يد جوليانا بقوة فقط، وكأنه لن يتركها أبدًا. عندما رأت جوليانا تعبيره المذهول، توقفت عن الجدال.
“دعنا نعود إلى القصر أولاً.”
عندما عادت جوليانا إلى القصر، بحثت عن كبير الخدم والخدم لكن معظمهم كانوا في إجازة، لذلك كان عليها أن تساعد كاليان في الوصول إلى غرفته بنفسها. كانت ممرات القصر فارغة وهادئة بشكلٍ غريب. على الأقل كان لا يزال بإمكان كاليان المشي بدعم جوليانا، مما يجعل من السهل إدخاله إلى الغرفة.
لقد فكرت جوليانا في اصطحاب كاليان إلى مكتبه، ولكنها قرّرت أن هذا أمر قاسٍ للغاية بالنسبة لشخص مريض، لذلك أحضرته إلى غرفة الزوجية. وبينما دخلا، أبقى كاليان ذراعه حول كتفي جوليانا وأمسك يدها بإحكام باليد الأخرى.
وبمجرد أن أجلسته على السرير، حاولت جوليانا الوقوف لاستدعاء الطبيب. في لحظة، سحبها كاليان إلى أسفل تحته.
“كاليان؟”
نادت جوليانا باسمه متفاجئة، لكن كاليان لم ينظر إليها إلّا بنظرةٍ مذهولة وغير مُركزة، تمامًا مثل ليلة الظلال في الحياة الماضية.
“جوليانا…”
كانت عيون كاليان غير مُركزة، وكان تعبيره متألمًا، وكأنه تحت تأثير شيء ما. قبل أن تدرك جوليانا ذلك، ضغط كاليان جسده القوي بين ساقيها، رأسه مدفون في كتفها، أنفاسه ساخنة وثقيلة.
“كاليان!”
لم يبدو أن كاليان يسمعها، فقط كان يتنفس بصعوبة على كتفها. انزلقت يد كاليان الكبيرة من خصرها إلى الأسفل وأصبحت جوليانا في حالة تأهبٍ تام. كان هذا مشابها جدًا لتلك المرة في حياتها الماضية وقد ردّت جوليانا على الفور. دفعته بعيدًا بكل قوتها وصفعته بقوة.
“ها…! ها…!”
وبينما كان كاليان يتنفس بصعوبة، عضّت جوليانا على شفتها المرتعشة وتحدّثت بحزمٍ.
التعليقات لهذا الفصل " 59"