خفّف صوت لويد الهادئ ببطء من توتّر قلبي. ربما كانت هذه الحياة مختلفة عن حياتي الماضية، لذلك من الممكن أن تكون الأمور مختلفة أيضًا. لو كان لويد يتذكر حياتنا الماضية حقًا، لما أصبح صديقًا لي. نعم، لو كان لويد يتذكر… لكان قد ألغى زواجي من فالدوميرو.
أخذتُ نفسًا عميقًا وقمتُ بوضع خصلات من غرتي خلف أذنيّ، وشعرتُ الآن بالهدوء. “أنا آسفة. أعتقد أنني أسأتُ فهم شيء ما. سأذهب الآن.” غادرتُ الغرفة بسرعة. وبينما كنتُ عائدةً إلى غرفتي، كان رأسي ممتلئًا بالهموم. أريد فقط أن أستلقي وأرتاح.
في ذلك اليوم، كان لويد خارجًا في عمل. لقد كانت الذكرى الخامسة لزواجنا، لكنني لم أُفكر في الأمر حقًا. يبدو أن كل شيء كان هادئًا من الخارج، زوجي الطيب والموثوق، وحياتنا المُستقرة معًا، ولكن في أعماقي كنتُ أشعر دائمًا بالفراغ. لم يعد مفاجئًا بالنسبة لي أننا لم نُنجب طفلًا. حتى بعد عودتي بالزمن عشر مرات، لم أتمكن أبدًا من إنجاب طفل مع أي رجل تزوجتُه. بسبب قدرة النار بداخلي، لم أتمكن من الحمل بطفل بشكلٍ طبيعي. لقد كنتُ آمل أنه ربما مع لويد، الذي لديه أيضًا قدرة الجليد، قد تكون لديّ فرصة. لكن حتى طاقته كانت عکس طاقتي تمامًا، ولم يكن الأمر يبدو ممكنًا. بينما كنتُ غارقةً في أفكاري، فُتح الباب ودخل لويد. “لويد…؟” جلب معه نسمات من الهواء البارد، وهو يحمل شيئًا قريبًا من صدره تحت عباءته. بدا وجهه متحمسًا بل سعيدًا تقريبًا. أظنُّ أنه أعدَّ هدية لذكرى زواجنا. ابتسمتُ بشكل ضعيف ونظرتُ إليه. “ماذا أحضرتَ هذه المرة؟” تردَّد لويد ثم تحدّث أخيرًا. “هذه المرة، شيء مميز. شيء أعلم أنكِ أردتيه بشدة.” “شيء أردتُه؟” لم أظن أن هناك ما ينقصني. لويد كان دائمًا يحرص على أن يكون لدي كل شيء. نظرتُ إليه بفضول، وبعد لحظة من التردد سحب لويد عباءته، ثم رأيتُه. لقد كان طفلًا… طفلٌ صغير، ربما يبلغ من العمر عامين تقريبًا، يمص إبهامه وينظر إليّ بعيون مُشرقة. لقد تجمّدتُ… لم يلاحظ لويد رد فعلي المفاجئ، بل تحدّث بصوتٍ مرتجف. “لم تقولي ذلك قط، لكنني أعلم أنكِ أردتِ طفلاً. أعلم أننا لم نتمكن من الإنجاب… لكن….” لقد نظر لويد إلى عينيّ وقال بصدقٍ “لنُربّي هذا الطفل معًا. كطفلنا.” توجّه لويد نحوي بلطفٍ وهو لا يزال يحمل الطفل. لم يبكي الطفل، بل حدّق بي بعيونٍ فضولية بريئة. لم أستطع الحركة. شعرتُ بتيبّس في جسدي كله. ثم، دون أن أشعر، مددتُ يدي. قام الطفل أيضًا بمدّٓ يده، ولفّ أصابعه الصغيرة حول يدي. في تلك اللحظة، تذكرتُ يدي داميان الصغيرتين وهما تمسكان بإصبعي تمامًا. ارتجفتُ، وسحبتُ يدي بعيدًا كما لو كنتُ قد تعرّضتُ للحرق، وتراجعتُ خطوة إلى الوراء. “جوليانا؟” “آه…” نظرتُ إلى لويد والطفل، مذهولةً من رد فعلي. لا يزال الطفل ينظر إليّ بعيون نقية ومشرقة. ولكنني… رأيتُ داميان في ذلك الطفل. هل يمكنني حقًا أن أُحبُّ هذا الطفل كما لو كان طفلي؟ هل يمكنني أن أرى هذا الطفل ليس كداميان، ولكن كطفل آخر؟ إن مُجرد التفكير في هذا الأمر جعل قلبي يؤلمني بشدة، لدرجة أنني لم أتمكّن من التنفس. لقد شعرتُ وكأنني إذا أحببتُ هذا الطفل، فإن ذكرى داميان سوف تختفي. ولكنني كنتُ الوحيدة التي تتذكر داميان في هذا العالم. لقد كنتُ أُمُّهُ… ماذا لو نسيتُه؟ لا، لا يمكنني أن أنسى داميان أبدًا. ولا حتى في الموت. بغضّ النظر عن عدد إنحداراتي، فإن هذا الطفل سيظل دائمًا جزءً من روحي. حاولتُ إقناع نفسي أنني بخير، وأنني أستطيع العيش بدون طفلي. ولكن الآن فهمتُ… لم أكن بخير بدون طفلي داميان. حتى لو كنتُ على قيد الحياة، لم أشعر وكأنني أعيش. لم أستطع النظر إلى هذا الطفل بعد الآن. لقد شعرتُ بالقسوة والأنانية عندما أُسقط حزني على طفل بريء. “أنا آسفة، لويد.” تركتُ ورائي لويد والطفل المرتبكين وخرجتُ من الغرفة. حتى لو أنجبتُ طفلاً من لويد، فلن أتمكن أبدًا من نسيان طفلي داميان. رؤية هذا الطفل الآن جعلني أدرك ذلك بوضوح. تدفّقت الدموع على وجهي. لقد كرهتُ نفسي لأنني أدركتُ هذا الآن فقط. وشعرتُ بالذنب تجاه لويد، الذي كان يحاول جاهدًا أن يُحبّني، على الرغم من أنني كنتُ مجرد قشرة فارغة. ركضتُ عبر الحديقة، ولم أُلاحظ عندما انزلق حذائي. عندما رأيتُ أن لويد لم يكن يتبعني، انهرتُ في زاوية هادئة من الحديقة وبكيتُ بصوتٍ عالٍ. “أنا آسفة، لويد. أنا آسفة…..” أعتقد أنني لا أستطيع حقًا أن أُحب أي طفل آخر غير طفلي… “وأنا آسفة لأنني أدركتُ ذلك الآن فقط. لاستغلالكَ… ولكن عدم قبولكَ بشكل حقيقي أبدًا.”
عندما فتحتُ عينيّ كنتُ أبكي. كنتُ مستلقيةً على السرير الذي كنتُ أتقاسمه مع لويد في حياتي الأخيرة، وأُحدّق في السقف. لقد افتقدتُ طفلي داميان كثيرًا. دفئه، جسده الصغير، كل شيء فيه. هو فقط مَن يستطيع ملء الفراغ في قلبي. هو وحده القادر على شفاء الجروح في روحي… لم أستطع أن أختبئ في هذه الڤيلا إلى الأبد. عاجلًا أم آجلًا، سوف يكتشف فالدوميرو الأمر. لقد دخلتُ إلى الجحيم فقط للعثور على طفلي داميان مرة أخرى. الآن كنتُ أهرب، خائفةً من العيش في الجحيم؟ إذًا ما الهدف من اختيار هذه الحياة الثانية عشرة؟ تذكرتُ الطفل الذي أحضره لي لويد في حياتي الماضية. وقد ساعد لويد لاحقًا هذا الطفل في العثور على عائلة مُحبًة. وبعد ذلك ابتعدتُ عن لويد ببطء، للتحضير لإنحداري الثاني عشر. لكن لويد ربما ظن أنني دفعته بعيدًا بسبب الطفل، لأنه تبنّى طفلاً دون أن يسألني. لابد أن لويد ظن أن هذا هو السبب الذي جعلني أتركه. ربما هذا هو السبب الذي جعلني أشكُّ في لويد مؤخرًا. اعتقد أنه ربما تذكر حياتنا الماضية…..
في ردهة قصر عقار فالدوميرو. كانت كيت تكنس بهدوء بوجه عابس. “لقد مرّت أيام منذ أن غادرت سيدتي جوليانا القصر. بدأت شائعات غريبة بالانتشار. قالوا إن السيدة جوليانا كانت تعتدي جسديًا على ليلى سكرتيرة صاحب السمو. بالطبع، لم أُصدّق ذلك. سيدتي التي عرفتها لن تفعل مثل هذا الشيء أبدًا.” وكما هو الحال دائمًا، سمعت كيت الخادمات الثرثارات يهمسن في مكان قريب. “في الآونة الأخيرة، ألَا تبدو الآنسة ليلى كئيبة للغاية ويصعب التحدث معها؟” “أوه، كما لو كنتِ قريبةً منها دائمًا.” مع أنهن جميعًا يخدمن في قصر العقار، إلّا أن ليلى كانت من عائلة نبيلة، بينما كانت الخادمات الأخريات من عامة الشعب. لذا كن يُعجبن بها، لكنهن في الوقت نفسه كن يتجنبنها. ثم تحدّثت إحدى الخادمات وهي متردّدة. “لقد رأيتُ شيئا غريبًا في غرفة الآنسة ليلى.” “غريب؟ مثل ماذا؟” انحنت الخادمات الفضوليات، واختبأت كيت خلف عمود للاستماع. “أنتن تعرفن أنني المسؤولة عن تنظيف غرفة الآنسة ليلى، أليس كذلك؟” “نعم، نعم.” “حسنًا، قبل بضعة أيام، ذهبتُ لتنظيف غرفتها وسمعتُ صوتًا غريبًا من الحمام.” “صوت غريب؟” “لقد بدا الأمر وكأنه…. أنين أو صرخات تأوه….” احمرّت الخادمات الأخريات وشعرن بالخجل على الفور. “يا إلهي! ربما تواعد رجلًا ما! إنها في عمر تجاوز سن الزواج.” الخادمة التي بدأت القصة هزّت رأسها بسرعة. “لا، ليس هكذا. لم أجد أي أثر لوجود أي رجل آخر هناك. كنتُ قلقةً من حدوث شيء ما، فألقيتُ نظرة خاطفة إلى الداخل….” “و؟” تردّدت الخادمة ثم خفضت صوتها. “لقد كانت تؤذي نفسها.” “ماذا….؟” فجأة، خرجت كيت من خلف العمود بوجهٍ غاضب. توجهت نحو الخادمات وأمسكت بيد الخادمة التي روت القصة بقوة. “هل أنتِ متأكدة من ذلك؟” “ماذا؟ دعيني أذهب!” حاولت الخادمة التظاهر بأنها لم تقل شيئًا، لكن كيت لم تُصدّق ذلك. ثم أخرجت كيت خاتمًا فاخرًا من جيبها. كان الخاتم الذي حصلت عليه من جوليانا. “إذا شهدتِ بالحقيقة، سأُعطيكِ هذا الخاتم.”
التعليقات لهذا الفصل " 51"