لحسن الحظ، كنتُ قد مشيتُ عمدًا مسافةً طويلةً من العقار قبل أن أوقف العربة، ظن السائق أنني مجرد سيدة نبيلة ذاهبة في رحلة.
وبعد لحظة من التفكير، أجبتُ بهدوء.
“إلى هيلستون من فضلك.”
كانت هيلستون قرية صغيرة وهادئة قرب العاصمة، بعيدة عن منطقة فالدوميرو. وكانت أيضًا المكان الذي أقمتُ فيه خلال إحدى إنحداراتي السابقة.
أومأ السائق برأسه دون أن يطرح أي أسئلة وبدأ في قيادة العربة.
وبينما اختفى عقار فالدوميرو في المسافة، نظرتُ إليه دون أي عاطفة ثم نظرتُ إلى حقيبة سفري. حتى لا أستطيع العودة إلى عائلة هيستر بهذه الطريقة. لو عدتُ لن يُرحب بي أحد على الأرجح سيُقيدونني ويُسلّمونني إلى فالدوميرو. لقد غادرتُ العقار جزئيًا بدافع الاندفاع، ولكن في الوقت نفسه، كانت لدي فكرة واضحة… إن هذه الحياة تسير بشكل أسوأ من حياتي الأولى. بالطبع كان كذلك. في حياتي الأولى، كنتُ حمقاء أُحبُّ حتى نظرة كاليغن الباردة ولا مُبالاته. لم يكن هناك طريقة أستطيع بها، أنا التي أكرهه الآن أن أتوافق معه أبدًا. لقد قللتُ من شأن نفسي. اعتقدتُ أنني أستطيع أن أعيش بهدوء مثل الدمية، وأحصل على داميان منه، وهذا سيكون كافياً. ولكنني لم أكن أدرك مدى صعوبة ذلك….
بينما كنتُ أنظر من النافذة بنظرة فارغة، وجدتُ نفسي أُفكر، هل يجب عليّ أن أموت فقط؟ سأعود مرة أخرى على أي حال. هل يجب عليّ أن أموت الآن وأبدأ من جديد؟ هل سأكون قادرةً على تحمّل كاليان بشكل أفضل في المرة القادمة؟ أم أنني سأتخلى عن داميان وأختار تلك الحياة الجهنمية مرة أخرى؟ لم تكن لدي الثقة في كلتا الحالتين.
“سيدتي؟”
فوجئتُ، فرفعتُ رأسي وأدركتُ أن السائق كان يُناديني.
“لقد وصلنا إلى هيلستون.”
لقد كانت رحلة استغرقت أربع ساعات، لكنها مرّت سريعًا بينما كنتُ غارقةً في أفكاري.
أعطيتُ السائق عملة ذهبية من محفظتي وخرجتُ من العربة. كان السائق في غاية السعادة، فعضّ العملة الذهبية عدّة مرات للتأكد من أنها حقيقية، وساعدني بكل سرور في حمل حقيبتي.
“أتمنى لكِ رحلة سعيدة!”
بإبتسامة صادقة، انطلق السائق بعربته سعيدًا.
راقبتُه للحظة قبل أن أستدير لألقي نظرة حول المدينة. رغم أنها كانت قرية صغيرة، إلّا أنها كانت قريبة من العاصمة ومُعتنى بها بشكل جيد، جيدة وهادئة. لقد كانت نفس القرية التي هربتُ إليها بعد إنحداري الأول. إلى الشمال كان سيلفرستيل، وإلى الجنوب كان مارسيلينو، فوق الجبال الشرقية حيث العاصمة كان هيستر، وإلى الغرب كان فالدوميرو.
بسبب موقع القرية المركزي بالقرب من العاصمة، كانت أيضًا مركزا للتجار. رفعتُ حقيبة سفري ومشيتُ بخطوات مدروسة. بدلاً من النزل الكبير، دخلتُ إلى نزل قديم مهترئ يقع في زقاق جانبي.
“مرحباً!”
صوت مألوف استقبلني، وكان هينغستون صاحب النزل. بالطبع لن يتعرّف عليّ في هذه الحياة….
ومع ذلك، ابتسمتُ بمرح، سعيدةً لرؤيته.
“هل لديكَ أي غرفة شاغرة؟”
لقد نظر إليّ في حيرة عندما رأى ابتسامتي المبهجة وأجاب بتردّد.
“كما ترين هذا المكان قديم نوعًا ما. لدينا غرف كثيرة لكنني لستُ متأكد من أن أيًا منها سيكون مناسبًا لكِ يا سيدتي…”
لقد نظر إلى ملابسي الجميلة، وكان من الواضح أنه غير متأكد.
ابتسمتُ ابتسامة لطيفة.
“ما دام بإمكاني النوم هناك، فهذا يكفي.”
حك رأسه بشكل محرج، مندهشًا من تصرفاتي الودية غير المعتادة.
“حسنًا… في هذه الحالة، اتبعيني.”
بعد أن تركتُ أغراضي في الغرفة، خرجتُ مرة أخرى. كانت هذه هي القرية التي عشتُ فيها بعد انحداري الأول وكان هينغستون صاحب النزل الفظ، ولكن اللطيف، جارًا لي. هذا النزل كان قديمًا ومتهالكًا، لكنه كان المكان الذي حاولتُ فيه يومًا ما أن أبدأ حياة جديدة مُفعمة بالأمل. على عكس إنحداري الحادي عشر والأخير، عندما أقسمتُ على الحصول على داميان بأي ثمن، ففي ذلك الوقت كان لا يزال لدي أحلام… حلم لقاء رجل بسيط في هذه القرية، أعيش بهدوء، أزرع حديقة، وأخيط وأبيع التطريز، وأنجب أطفالاً، حياة دافئة وعادية. وبالطبع، في النهاية، تبين أن هذا الحلم لم يكن أكثر من مجرد حلم…
قبل أن أعرف ذلك، أخذتني قدماي إلى المنزل الصغير الذي كنتُ أُسمّيه ذات يوم موطني. عندما رأيتُ الشكل المألوف للمنزل، بدأ قلبي ينبض بقوة. وعندما اقتربتُ…
“هاهاهاها!”
انطلقت ضحكة طفل مشرقة. خرج رجل مألوف من المنزل الصغير، وهو يحمل طفلاً بين ذراعيه. لقد كان الرجل العامي الذي تزوّجتُه في انحداري الأول. لطيف وذو شخصية طيّبة، على الرغم من أن وجهه الآن أصبح بالكاد مُجرد ذكرى بالنسبة لي. ابتسم الرجل ابتسامة عريضة، ورفع الطفل لأعلى، وضحك الطفل من الفرح.
آه… أصابني اندفاع من العاطفة. مرارة؟ فراغ؟ خيانة؟ لا… بل أشبه بالارتياح. فأنتَ سعيد بدوني، الآن لديكَ طفل. أنا سعيدة… كنتَ قلقًا جدًا بشأن عدم إنجاب الأطفال…. أنا سعيدة. تبدو سعيدًا. أنا سعيدة…
ولكن على الرغم من هذا الارتياح، كان هناك فراغ عميق يملأني. لم أفتقد زواجي منه. لم أتمكن حتى من تذكر وجهه أو اسمه بوضوح. رؤيته لكن رؤيته يضحك، الآن فقط بعد أن رحلتُ أصبح رجلاً كاملاً، وأبًا، فقط بدوني، لقد جعلني أشعر بغرابة… كما لو أنني لا أنتمي إلى أي مكان.
“هانز العشاء جاهز، أحضر الطفل.”
نادت امرأة ذات مظهر دافئ من النافذة. تقدّم هانز نحوها وقبّل جبينها بلطف. لقد بدوا مثاليين معًا. ضحك الطفل وقبّل خد المرأة، أمه، في المقابل. لقد بدوا سعداء حقًا. لقد بدوا… جميلين.
فجأة سقطت الدموع من عينيّ. حينها فقط أدركتُ أنني كنتُ أبكي. رفعتُ يدي لألمس خديّ المُبللتين. لماذا كنتُ أبكي؟ ماذا تعني هذه الدموع؟ حتى أنا لم أعد أعرف. مشاعري أصبحت باهتة جدًا.
في تلك اللحظة…
“جوليانا..”
صوت مألوف يُناديني. لطيف، مليئ بالقلق. اتجهتُ ببطء نحو الصوت. وكان هناك، لويد دي سيلفرستيل. الرجل الذي كان زوجي في حياتي الحادية عشرة والأخيرة.
“كيف فعلتَ؟”
لا أزال مصدومةً، سألتُ.
ابتسم لويد ابتسامة مريرة.
“الشركة التجارية التي أعمل معها تمرُّ بهذه القرية. مررتُ بها ورأيتكِ هنا.”
ابتسم لويد بحرارة.
“محظوظ، أليس كذلك؟”
لقد مشيتُ عبر المدينة المألوفة، محاولةً جاهدةً عدم النظر إلى لويد. لم أكن أرغب في الاعتماد عليه، ليس الآن، ليس عندما كنتُ أشعر بالضعف. مثل هانز، لويد أيضًا سيكون سعيدًا بدوني. هذا ما أؤمن به الآن.
“امتنعتُ عن الكتابة إليكِ ظنًا مني أنكِ ستكرهين ذلك. لذا، رؤيتكِ هنا… سُررتُ كثيرًا.”
وعلى عكس كلمات لويد المبهجة، أبقيتُ نظري للأمام ومشيتُ دون أي عاطفة.
ثم، وكأنني أحسم أمري، تنهدتُ ونظرتُ في عينيه.
“قلتَ أنكَ هنا من أجل العمل، أليس كذلك؟”
“نعم، هذا صحيح.”
“إذًا لا تقلق عليّ. اذهب واعمل.”
لقد استدرتُ لكي أبتعد، لكن لويد سرعان ما خطى أمامي. عبستُ قليلاً ونظرتُ إليه.
لقد ابتسم لويد بشكل جذاب.
“إلى أين أنتِ ذاهبة؟ دعيني أرافقكِ.”
تجنبتُ النظر إلى عينيه، وتحدثتُ ببرود.
“هناك عربة فالدوميرو قريبة. سأعود إلى ضيعة فالدوميرو.”
لقد كانت كذبة. أردتُ فقط أن أُبقي مسافة بيني وبينه، وكان هذا هو العذر الأسهل.
لقد بدا لويد وكأنه يشعر بعدم ارتياحي وتراجع إلى الوراء بابتسامة مريرة.
“أرى…..”
تجاهلتُ تعبيره واحنيتُ رأسي قليلاً.
“سررتُ برؤيتكَ مجددًا، لويد دي سيلفرستيل. وداعًا.”
بدون أن أنظر إلى الوراء، مشيتُ نحو الحشد. لقد خططتُ للاختفاء في الشوارع المزدحمة، حتى لا يتبعني لويد. بعد إن مشيتُ طويلًا، نظرتُ خلفي أخيرًا، لم يكن يتبعني. شعرتُ بالارتياح، ثم عدتُ ببطء إلى النزل.
لقد شعرتُ بالاستنزاف الكامل، وسحبتُ قدميّ. وعندما اقتربتُ رأيتُ ضوءً خافتًا من النزل. ولكن بعد ذلك تحت ضوء النزل، لمحتُ رجلاً مألوفًا يقف هناك.
“هل هذا هو عقار فالدوميرو؟”
♣ ملاحظة المترجمة: أوه… لويد مُرعب بالفعل! دعونا نرى كم سيخطط بعد مع ليلى؟!
التعليقات لهذا الفصل " 47"