صباح آخر أيام المهرجان، ورغم وجود الثلوج التي تغطي العاصمة، إلا أن السماء مشرقة، كأنها تحتفل بنهاية العام…
كانت تقف على ناصية الشارع تحمل سلة صغيرة، كانت ترتدي عباءة سوداء تغطيها بالكامل، لا يظهر سوى حاشية فستانها الرمادي البسيط، تنقل بصرها في أنحاء المكان…
“هل جعلتكِ تنتظرين كثيراً؟!”
“راف!”
شعرت بصوته خلفها والتفتت بتعبير مشرق وسعيد، رغم جسده المغطى بالكامل بالسواد، لكن جسده الكبير وهيئته القوية جعلتها تعرفه تماماً…
ابتسم لها وقال بمرح:
“إذاً، ما الذي سنفعله اليوم؟!”
بتعبير حماسي وصوت سعيد:
“لم أخرج إلى مهرجان من قبل، إنها مرتي الأولى، لذا أريد أن أستمتع بكل شيء، ما رأيك؟”
“إنها مرتي الأولى أيضاً، لذا لا بأس… سأحب ذلك، …. ثم آيا، ما هذه السلة؟!”
أخرجت أريانا علبة صغيرة نوعاً ما منها وأعطتها لرافائيل وأظهرت له السلة الفارغة وقالت:
“إن صندوق الحلوى هدية امتنان من ماريان لما فعلته لأجلي، رغم أنه كان يجب عليَّ أنا أن أهديك هدية، لكني لم أفعل.”
عبست بطريقة طفولية، لأنها كانت تفكر في جلب هدية لرافائيل أثناء المهرجان لكنها لم تخبره، ونظرت له بابتسامة لطيفة بعدها وأكملت كلماتها:
“وعندما أخبرتها أنك أحببت الحلوى قررت صنعها لك…”
وابتسمت بحماس. رافائيل الذي شعر بتضخم قلبه، لم يتلقَّ هدية امتنان من أحد، كان شيئاً جميلاً، لكنه كان يرغب في هدية من أريانا أكثر، لكنه لم يكن منزعجاً فالحلوى تلك أصبحت شيئاً يفضله خصوصاً مع أريانا..
بعدها بدأوا في التحرك، شعرت أريانا بأحدهم يلاحقها فالتفتت لرافائيل:
“راف، هناك من يتبعنا.”
ونظرت في جميع الاتجاهات. ربت رافائيل على كتفها وقال بلطف:
كان السوق مزدحماً جداً بالباعة والأكشاك وحتى الناس، كان هناك أطفال يجرون وسط عائلاتهم وهناك الروائح المتنوعة، كانت أريانا مندهشة بكل ما حولها لكنها كانت تتمهل لأجل أن لا تتأثر صحتها الهشة، أما راف فرغم انجذابه نوعاً ما لأجواء المهرجان، إلا أن تركيزه كان منصباً على أريانا، ضحكتها وصوتها المبهج، وكان يحاول أن يجعلها تمشي في طرق أقل ازدحاماً…
وأثناء ابتعاد رافائيل قليلاً، اقترب منها كاسبر وبراين بوجوه متحمسة:
“سعيد بلقاء السيدة وهي بصحة وسلامة، هل أوصل جلالته سلامنا؟”
رفعت أريانا حاجبها وضحكت:
“يبدو أنه نسي تماماً.”
عبس كاسبر ولكنه عاد لحماسه ونظر لبراين وهمس بصوت يسمعهما هما الثلاثة…
“سيدتي، هل ستحضرين مأدبة رأس السنة؟!”
“مع الأسف لا.”
“هل عائلتكِ ليست مدعوة؟!”
اندفع براين في سؤال أحمق، لكن أريانا التي شعرت بالألفة معهما:
“ليس كذلك، ولكن صحتي سيئة قليلاً… ربما في مأدبة أخرى.”
“ربما تحضر السيدة مأدبة الربيع، في عيد ميلاد جلالته.”
تحمس كاسبر وتكلم بعيون مترقبة، وضعت أريانا يدها أسفل ذقنها:
“أمممم، إذا أصبحت صحتي أفضل إلى ذلك الحين سوف أحضر.”
تحمس الاثنان، فنظرت لهما بنظرات متسائلة:
“لما تريدان حضوري بشدة؟!”
أُحرج الاثنان ونظرا لبعضهما ثم همس كاسبر المتهور:
“نخشى أن يتورط جلالته في زواج سياسي.”
“وهل هو راضٍ بذلك؟!”
“لا، جلالته لا يعطي الملك ناثان أي فرصة، حتى أنه رفض الرقص مع الأميرة…”
تكلم براين وهو يفكر:
“سمعت أن المرة الوحيدة التي رقص فيها جلالته كانت مع الإمبراطورة الراحلة عند عيد ميلاده العاشر، يقال أنها كانت ألطف رقصة بالوجود، جلالتها كانت تعتز بطفلها كثيراً، هذا ما سمعته…”
“أعتقد أن الرقصة التالية لجلالته ستكون مع السيدة.”
جفلت أريانا لكلمات كاسبر المتهورة وارتبكت، وضعت يدها على قلبها من تحت الرداء لعلها تخفف نبضها المجنون فحاولت تغيير الموضوع لكن شفتيها لم تنفتح، كان براين سريع الإدراك فضرب رأس كاسبر وهمس له:
“لا تتهور بكلماتك، لقد أحرجت السيدة.”
فتحت عيون كاسبر على وسعها ونظر لأريانا وفتح فمه ليعتذر….
“هل تأخرت؟!… “
كان يبتسم وهو يحمل في يديه دميتين قماشيتين لطيفتين وعندما رأى كاسبر وبراين، عبس وقال:
“راف، لقد قاما بتسليتي حتى لا أشعر بالملل عندما تأخرت.”
نظر لهما بمعنى “هل هذا صحيح؟”:
“نعم جلالتك.”
أجابا في نفس اللحظة مما جعل أريانا تضحك بمرح ونظرت لكشك صغير يبيع اللحم المشوي:
“راف، أرغب في تناول الأسياخ، هل تجربها معي؟!”
“لم آكلها مسبقاً، لكن لا بأس.”
تناسى وجود كاسبر وبراين اللذين هربا بسرعة، تحمست أريانا وبدأت بالمشي وهي تنظر للكشك الذي يبيع الطعام، أشارت لرافائيل أن يأتي معها..
“أفكر في انتظارك في تلك النقطة.”
وأشار لها في الزقاق القريب منها، أومأت أريانا بإيجاب وانطلقت لشراء اللحم المشوي وعندما وصلت قالت بحماس وترقب:
“أريد أربعة أسياخ دجاج لو سمحت.”
تكلمت بصوت جميل ولطيف مع البائع العجوز، رغم مظهرها الغريب والبسيط وردائها الأسود الطويل ووجهها المخفي جيداً تحت الغطاء، لكن أسلوبها اللطيف جعل البائع يغض الطرف عن ذلك…
أثناء انتظارها كانت تنقل بصرها للزقاق المظلم، حيث كان رافائيل يقف متكئاً على الجدار بهالته الساحقة، كانت نظراته التي تمسح المكان مظلمة وباردة:
‘هل هو غاضب…؟!’
“تفضلي يا آنسة.”
قطع تفكيرها صوت البائع العجوز، فأعادت نظرها له وابتسمت بلطف وسلمته النقود وأخذت الأسياخ ذات الرائحة المعطرة بلحم الدجاج المتبل والمشوي..
انطلقت بحماس لذلك الواقف ببرود وقالت بصوت عذب:
“راف.”
عندما سمع صوتها الدافئ ونظراتها المشرقة بعينيها السماويتين، أسقط نظراته الباردة وابتسم وقال بأسلوب مرح كأنه لم يتصرف ببرود منذ لحظات:
“ما الذي سترينه لي هذه المرة؟”
ضحكت بمرح:
“هذه المرة سأطعمك.”
قامت بتسليمه سيخين بفخر وقالت:
“تذوقه وأعطني رأيك.”
قبل أن يضع الطعام في فمه شم رائحته وبدا أنها تروقه فتكلم بأسلوب ساخر:
“آيا، ألا يؤثر هذا الطعام على صحتك؟”
نظرت إليه بعبوس وقضمت السيخ بشهية متناسية كل الآداب الأرستقراطية:
“لطالما رغبت بتجربة هذا الطعام، مرة واحدة لن تضر.”
ضحك راف بملء قلبه وقال:
“تبدين كطفلة مشاكسة.”
نفخت خدودها وزاد عبوسها وردت:
“تناول طعامك بصمت.”
أكل طعامه وهو ينظر لتصرفاتها التي لطالما فاجأته، فرغم تصرفاتها العجيبة لكنها تروق له…
نظرت آيا له وابتسمت عندما شاهدته يأكل بشهية، ثم قالت:
“إذا مرضت سوف تقوم بعلاجي أليس كذلك؟!”
نظرت إليه بعيون الجرو مما جعله يضحك ويضرب برفق على رأسها:
“حسناً، سأهتم لأمرك.”
ثم تكلمت بتساؤل وهي ما زالت تأكل السيخ الأول:
“ما الذي تفكر فيه؟! تبدو منزعجاً.”
“يبدو أن نصيحتكِ كانت في محلها، إن المعبد يختلس الأموال.”
“…”
أمالت أريانا رأسها بحيرة، وحثته على التكملة:
“هناك الكثير والكثير من الفقراء، وسيظهرون أكثر في ظل الأيام العادية.”
“ربما الفقراء أكبر من دعم الخزينة.”
“آيا، ما تدفعه الخزينة يكفي عشر أسر نبيلة لمدة عام، أما العامة فحياتهم أبسط، وما نرسله للمعبد أكبر مما تتخيلين، من غير التبرعات من النبلاء وأموال الأنشطة الأخرى التي يقيمها الـ…”
لم يكمل كلماته إلا بطفل في العاشرة اصطدم به بقوة حتى وقع، نزل رافائيل لمستوى الطفل وأمسكه برفق، كان الطفل يحاول الهروب من قبضة رافائيل…
نظر رافائيل لأريانا التي ابتسمت بمرح ونزلت لمستوى الطفل:
“أعد ما أخذته.”
دهش الطفل ورافائيل الذي شعر بشيء خاطئ، كان صوتها لطيفاً وصارماً، نظر رافائيل لأريانا وهمس:
“هل أنتِ متأكدة؟!”
“راف، هل تأكدت من كيس أموالك؟”
سلم رافائيل السيخ المتبقي لأريانا وفتش الأموال بيده التي كانت تحمل السيخ بينما كان ممسكاً بالطفل، وبالفعل تفاجأ باختفاء الكيس، نظر لأريانا التي تمتمت:
“لقد رأيت من هؤلاء الأطفال، وأعرف طرق التعامل معهم.”
لم يسمعها إلا رافائيل الذي احتار من ذلك، لم تكن أريانا تقصد جعله يسمع لكنه قد انكشف الأمر، لذا قررت تجاهل الأمر ونظرت للفتى الصغير وتكلمت بصرامة لكن بصوت لطيف:
“هل سرقت المال؟ لا تحاول أن تنكر، لأنه ليس في صالحك.”
تلعثم الفتى وحاول الهروب لكن رافائيل كان محكماً في إمساكه… نقل الطفل نظره بين أريانا ورافائيل، ثم تكلم بصوت حزين:
“أنتم تبدون أغنياء، لن تضر الأموال بشيء ووالدتي مريضة..”
تغيرت نبرتها لنبرة لطيفة لكن الحزم ما زال موجوداً، نقل الطفل نظره بين أريانا ورافائيل وحاول الهروب بشدة وقد امتلأ قلبه بالخوف:
“اتركوني، لقد أخذتم مالكم، اتركوني الآن.”
“إذا تركتك، ما الذي يضمن لي أنك لن تعيدها؟ أنت شخص معتاد على ذلك… لصالح من تسرق؟”
“…”
ارتبك الطفل أكثر وأكثر وحاول الخروج، لكن أريانا كانت تعلم أنه خائف، فبيدها الحرة ربتت على رأس الطفل بلطف خالص:
“هل يجبرونك على السرقة؟ أخبرني… إن الصديق الذي أمامك ساحر قوي، يمكنه أن يساعدك…”
كان الفتى يتلوى من الخوف وحاول سحب نفسه من رافائيل، فهمست أريانا لرافائيل بشيء، فابتسم ووضع يده الحرة على رأس الصبي…
“.أهه ……”
كاد الصبي يصرخ لكنه صمت لأنه شعر بالدفء في جميع أنحاء جسده، رفع بصره لأريانا ولرافائيل ونزلت دموع الطفل.
أصبح جسده الذي كان ملطخاً بالجروح والندوب نظيفاً وبصحة جيدة، أبعد رافائيل يديه عن الطفل الذي كان يخفف نحيبه بنفسه…
“تبدو جائعاً، كل هذا حتى تستعيد طاقتك..”
أعطته أريانا أسياخ اللحم المتبقية والتي لم يمسها الاثنان، استجمع الطفل صوته وقال:
“أليس هذا طعامكما؟”
“لا بأس لقد أكلنا كفايتنا، والآن هل ستأخذها؟!”
مد الطفل يده وأخذ الطعام وبدأ يأكله بدون أن يصدر صوتاً، وعندما انتهى من الطعام نظر لهما بعيون كبيرة ومحتارة، تكلمت أريانا:
“ما اسمك؟!”
“ليون.”
“أخبرنا بكل شيء، وسوف نساعدك.”
لم تكن أريانا هي التي تكلمت إنما رافائيل الذي قال ذلك بلطف، تأثر الطفل وابتلع لعابه:
“إنه الزعيم غابريال، على كل طفل منا أن يسلم له مبلغاً من المال كل يوم، وإن لم يعطه الحصة المتفق عليها، سيتعرض للضرب أو التجويع، لست الوحيد، هناك الكثير منا…”
ربتت أريانا على رأس الطفل، وقبل أن تسلمه حقيبة المال التي سرقها سابقاً وقالت بلطف خالص وهي تمد إصبعها الخنصر:
“أولاً، عدني أنك لن تسرق مجدداً.”
تردد الطفل قليلاً ثم مد إصبعه وعقده مع أريانا، ابتسمت أريانا وأعطته المال وقالت بلطف:
“ستأخذ المال وسوف تعطي حصة اليوم فقط للزعيم وتساعد أصدقائك ولا تخبر أحداً أنك قابلتنا… أبداً، ليون فتى ذكي وسوف يقوم بما تطلب منه الأخت الكبرى فعله.”
“بالتأكيد.”
أومأ ليون بوجه مشرق وصادق وغادر، لوحت أريانا مع رافائيل للطفل، ثم أشارت أريانا لكاسبر وبراين بأن يأتيا… لم يستطيعا أن يرفضا إشارتها، فتقدما منهما:
“هل يمكنني طلب خدمة صغيرة منكما؟!”
نقلت أريانا نظرها بينهما وبين رافائيل، الذي أعطى الإذن بسهولة…
تكلمت أريانا بابتسامة خبيثة ونظرة واثقة:
“لم لا نلقن البالغين الأشرار درساً؟… عليكما تعقب الطفل والوصول لمخبئهم، ثم لكما حرية التصرف، أروني فخر الفرسان الإمبراطوريين الشخصيين… شرطي الوحيد أن تجدا للأطفال مكاناً جيداً لرعايتهم.”
انحنيا بقوة وأسرعا ليلحقا بالطفل، نظر رافائيل لأريانا بعد ذهابهما:
“هل نذهب لتأكلي شيئاً؟ لقد أعطيت الطفل طعامك.”
“لا بأس حالياً لست جائعة، ثم يمكنك أن تسأل.”
ونظرت له بابتسامة ذات معنى، ضحك رافائيل وتكلم:
“ما الذي تفكرين به؟!”
“تحسين صورة جلالة الإمبراطور.”
“وكيف ذلك؟!”
“ببساطة، نسب الأعمال الصالحة للإمبراطور ولتابعيه، ابدأ بحرب المعبد بجعل الشعب يتخلى عنه ببطء، لا تخرب صورته… بل اجعل اعتماد الشعب على الإمبراطور… إذا كان المعبد يساعد عشرين فقيراً فليساعد الإمبراطور مائة…. فهمتني؟”
وابتسمت بوجه مشرق ولكن بطريقة خبيثة، ضحك رافائيل وقال بتلقائية:
“من الجيد أنكِ معي…”
ابتسمت أريانا وشعرت بقلبها ينبض بسرعة، لكنها حاولت تجاهل الأمر وقالت بمحاولة لتغيير الموضوع:
“كيف كانت مأدبة المهرجان؟”
“مملة ومتعبة وأريد أن تنتهي سريعاً.”
نظرت له أريانا بصدمة، فنظر لها بمعنى “ما الأمر؟!” اتسعت ابتسامة أريانا وقالت:
‘من الجيد أن راف بدأ يكلمني عن يومه بسهولة، يبدو أنه بدأ يفتح قلبه لي.’
“أنا سعيدة أن راف يشتكي لي.”
“هل أنا أشتكي؟…”
شعر راف بالإحراج لأنه تكلم بسهولة أمامها، لكن أريانا قالت بصدق:
“من الجيد أن تشتكي لي أحياناً… لا تحمل حملك وحدك، لهذا الأصدقاء موجودون.”
نظر رافائيل لأريانا بشعور خالص من الامتنان وقال بصوت دافئ:
“شكراً لكِ.”
ابتسمت أريانا ومن ثم سألت بفضول:
“هل تكون التحضيرات للمأدبة بهذه الفخامة كل عام؟”
“بالعادة يكون الحفل فخماً لأنه يكون حفلاً للتنين الفضي حامي أرض كاسيان ولكن هذا العام ستكون ليلة القمر الفضي، التي تكون مرة كل ألف عام كما تقول الخرافات، وتثلج السماء بثلوج بيضاء فضية…”
“ثلوج فضية، وقمر فضي… الليلة التي ماتت فيها أريانا.”
فتحت أريانا فمها وتمتمت بصدمة بصوت شبه مسموع، نظر لها رافائيل بحيرة:
“ماتت أريانا؟!”
“…”
تلعثمت أريانا ونظرت لرافائيل بوجه مشوش لم تستطع أن تقول أي كلمة ووجهها أصبح شاحباً فما سمعه رافائيل شيء لا تملك عنه أي تفسير، سوى الحقيقة…
التعليقات لهذا الفصل " 13"