على أي حال، لم أكن أكترث كثيراً، فقد كنتُ ممتلئة بالضيق من عائلتي لحظة موتي في المرة الأولى.
لكن ريموند كان مختلفاً. لقد مرّ وقت منذ أن وطئتُ قدمي روديسيا، لذا لم أسمع شيئاً عن عائلة فاتروي.
لم أكن أعلم، لكن بدا أنّ عائلته قد تكون في خطر.
ففحصتُ تعابير وجهه بعناية. إلا أن ملامحه لم تهتز، حتى أمام تهديد الأمير المرعب، وكأن شيئاً لم يحدث، سواء اتخذ إجراءات أم لم يفعل، أو كانت هناك قصة أخرى يخفيها.
ومع ذلك، فقد حالفه الحظ حين قبض على الأمير.
جميع المشكلات التي كنتُ أفكر فيها أثناء محاولتي الهرب من هنا حُلّت دفعة واحدة، وإذا أخرجتهم فسيكون الأمر مسألة وقت قبل أن أخرج من هذا المكان.
والأمير ظلّ يجرّه ويدفعه في الموضع المناسب، فكان كل شيء بخير.
لكن فجأة، التقت عيناي بعيني لوسيان، الواقف بتوتر خلف الفرسان، وقد استرخت تعابيره كمن خرج في نزهة داخل حديقة.
كانت عند طرف فمه ابتسامة ساخرة لطيفة وهو يتابع المشهد.
لا بد أن لابتسامته سبباً.
نظرتُ حولي سريعاً، وكأنني اتخذتُ القرار في اللحظة نفسها.
فوقعت عيناي على رجلٍ يشدّ الوتر نحو الخلف، رغم أن الفرسان والجنود جميعاً قد توقفوا عن الحركة.
وكانت سهامه الحادة الموجهة إليّ تنطق بالعداء.
“هاه؟”
بدا الزمن كأنه يتباطأ؛ رأيتُ العداوة التي تحملها السهام المتجهة نحوي، لكنني لم أستطع تفاديها.
كانت تبطئ كما لو كان كل شيء يتباطأ، وبينما كنت أحدّق بالرامي، رفع يده بالقوس.
انطلقت السهام حادة كهبوط طائرة، متجهة نحوي لتستقر في قلبي.
“لا!”
في تلك اللحظة، ترك ريموند الأمير تماماً وركض نحوي، لكن كان الوقت قد فات ليدفعني أو يعانقني ليمنع السهم عني.
وفي النهاية، اعترض طريق السهم وتلقّاه بدلاً مني.
– دَسَك
دوّى صوت مكتوم في الهواء. كان ريموند ما يزال واقفاً أمامي، وسهمٌ حاد يخترق صدره وقد أُطلق من مسافة قريبة. وما زالت من السهم قطرة أو اثنتان من دمه الساخن تتساقطان.
ركضت إليه متأخرة، لكن للأسف، كان السهم دقيقاً.
يبدو أنه اخترق قلبه. وعيناه كانتا تفقدان بريقهما.
“ريموند؟”
انهار جسده الضعيف.
أمسكته، لكن جسده كان ثقيلاً عليّ. سقط تماماً، ورأسه استقر على صدري، بينما كنت أهزّ كتفيه وأصرخ باسمه بصوت مختنق بالبكاء.
لكن قلبه… الذي توقّف عن العمل… شيئاً فشيئاً…
لم أستطع أن أشعر بأي نبض.
خفضتُ بصري نحو وجهه المسجيّ على ظهره، وقد أصبح الآن جثة هامدة. كان السهم الذي اخترق قلبه يحمل ألماً عظيماً، لكن لم تظهر أي علامة لذلك على جفونه. بل على العكس، بدا وكأن عند طرف فمه ابتسامة هادئة.
هل كانت ابتسامة… حافظت على حياتي؟
ما فائدة ذلك؟
لن يعني شيئاً بالنسبة لي إن مات.
لماذا لا يدرك أن عالمه بدوني لا معنى له، لكن عالمي من دونه يفقد كل معنى؟
كان الأمر مؤلماً، لكنه الآن بلا نفس… ولا أستطيع السؤال.
حينها، جاء لوسيان إليّ من مكانه الآمن خلف الجنود.
نظر إلى ريموند الذي توقف جسده عن الحركة، واطمأنّ إلى أنه أصبح آمناً. وأومأ برأسه على مضض، لكنه لم يكن ليجرؤ على إيذاء ريموند مجدداً وسط صدمة موته.
اقترب مني، وأنا أحمل جثمان ريموند البارد، وجذبني نحوه، قابضاً على شعري دون تردد. كان الألم في رأسي لا يُحتمل فصرخت.
“آه!”
“أنتِ شريرة. أمسكتُ بك. إلى متى ستظلين شريرة؟ ألا ترين كل هؤلاء الناس الذين تأذوا بسبب شرّك؟”
صرخ بتمثيل واضح.
لكني كنت أعرف جانبه القبيح والشرير، ولم يكن ما يقوله سوى قذارة وبغض. أمسك بشعري ورفعني.
وكان يتحدث لمن حوله وكأنه صاحب الحق.
“لقد تم القبض على الشريرة روزالين فون إدفيرز على يد لوسيان فون بيدرو!”
كان يريد أن يبدو جيداً، رغم قبحه، وأن يقطع أي صلة تُظهر أنه كان يوماً ما على علاقة بروزالين.
لكنه جاء إليّ وحده.
ركض مسرعاً أكثر مما يجب.
ونسي شيئاً مهماً: الأصفاد والسلاسل التي كانت تقيد ذراعي لا تزال هناك.
ركلته في ساقه الثقيلة بالأصفاد، وكانت الركلة ـ رغم ضعفها كامرأة ـ موجعة بما يكفي لتألمه.
“آغ!”
ترنّح بضعة خطوات، قابضاً على ساقه المصابة، وأفلت شعري.
وما إن تحرر رأسي، حتى التقطت بسرعة خنجر ريموند الذي سقط عند قدمي، وصوّبته إلى عنق لوسيان العاجز عن الوقوف بثبات.
“لا تتحرك، وإلا طعنتك.”
“أه… أيتها العلَقة.”
“أغلق ذاك الفم القذر أيضاً.”
جرحته جرحاً سطحياً قوياً، ثم صرخت بالجنود الذين كادوا يندفعون نحوي.
“إن اقتربتم… سأقتله!”
توقّف الفرسان مكرهين أمام تهديدي، وألقيتُ نظرة على الأمير الذي كان السبب في سقوط ريموند.
كان الأمير ملقى على الأرض بوجه مشوّه، وقد أحاط به فارسان يدعمانه من الجانبين، وهو يرتجف غضباً بسبب ما حدث.
“مولاي… هل نعيدها الآن؟”
شُغل الأمير للحظة بسؤال الفارس، ثم هز رأسه.
“انتظروا… لديها رهينة.”
انحنى الفارس امتثالاً لأمره. وبدلاً من الاقتراب، وسّعوا الطوق حولي كجناحين، محاصرين كل طرق الهروب.
ضحك لوسيان وهو ينظر إليّ:
“لن ينفعك هذا، يا غبية. تعتقدين أنك قادرة على الخروج من هنا؟”
“……”
“لو صبرتِ قليلاً، لمتِ بسلام… أما الآن فلن تموتي بسلام، لأنكِ لمستِ ولي العهد. ربما سيتعذب جسدك ويتألم حتى الموت. ستتوسلين وأنت تحتضرين، أليس كذلك؟ ‘أرجوكم… اقتلوني…’ “
كان يتحدث بحرية مقززة، ثم أدار عينيه نحو جثة ريموند عند قدمي.
نظرتُ إلى ملامحه التي أصبحت شاحبة تماماً، فقال لوسيان:
التعليقات لهذا الفصل " 28"