كان الموقف يائسًا بلا أي منفذ للهروب، لكنه لم يُبدِ أي نيّة للفرار.
أومأت بخفة واختبأت خلف ظهره. كان هذا كل ما أستطيع فعله.
وأثناء النظر إليه، رمقني ولي العهد بنظرة ساخرة، ثم صرخ بصوت مرتجف بالغضب:
“روزالين، ما أشدّ يأسك. هل كان صعبًا عليكِ إلى هذا الحد أن تعترفي بذنبك؟ هاها… نعم، لا بد أنه كان صعبًا. لو كان لديكِ أدنى وعي بندمك على خطاياك، لما ارتكبتِ تلك الأفعال الشنيعة.”
“إذن، من هذا الرجل؟ أحد أولئك الحمقى الذين أغراهم جمالُ امرأةٍ تافهة؟ كالعثّ الذي يطير نحو الضوء على أمل أن يحصل على شيء، غير مدرك للحقيقة—”
“لا تُهِن ريموند!”
لم أحتمل سماع إهانته لريموند. خرجتُ من خلف ظهره وصحتُ.
كان توبيخه لي مفهومًا—هو يلوم “روزالين” التي كنتُ أغلف بها نفسي، حتى ولو لم أكن مذنبة حقًا.
لم أشأ أن أشرح كل شيء الآن، وكان بإمكاني تحمّل اللوم وحدي.
لكنّ إهانته لريموند… كانت شيئًا لا يُغتفر.
لن أغفر له أن يربط بين ريموند وتصرّفات روزالين السابقة، أو أن يقلّل من شأنه حين حاول إنقاذي، أو أن يصوّره كشخص دنيء مثل لوسيان.
تقدّمت خطوة إلى الأمام، وغضبي أكبر من كل ما اتُّهمت به.
لكنّ ذلك لم يؤدِّ إلا إلى اشعال غضب ولي العهد أكثر.
“لقد أصبحتِ الآن صريحة تمامًا بشأن رجلك. حتى بعد أن خُطِبتِ لي… كنتِ تتلاعبين كما تقول الشائعات؟ كيف تجرئين على السخرية مني في أحضانه؟ إن آخر ذرة شفقة لكِ تكاد تزول.”
“إذن اقتلني.”
“… ماذا؟”
“اقتُلني. الآن… ولكن قبل ذلك…”
كان مؤلمًا أن أخسر فرصة النجاة الثمينة هذه.
لكن لا تزال لدي حياة واحدة. ظننتُ أنني قد أتدارك ما لم أُحسن فعله في هذا الهروب، وأنجح في المرة القادمة.
لكن مهما تكرّر مشهد موت ريموند أمامي، لا أستطيع أن أتحمّل رؤيته يموت مرة أخرى.
“أبقِ هذا الرجل على قيد الحياة.”
“ما هذا الهراء؟ لا أستطيع أن أغفر لمن ارتكب الفضائح معك.”
“هو ليس كذلك.”
“ماذا؟”
“إنه… ليس أكثر من انعكاس لذاتي السابقة. رجلٌ مخلصٌ خسر حياته لينقذ سيّدته القديمة لا غير. أرجوكَ… دعْه يعيش، حتى لو أخذتَ حياتي.”
“وكيف لي أن أثق بكلامك؟ كم من الناس يختلقون التضحية كذريعة لمصالحهم؟ أتدرين كم منهم رأيت؟”
“هذا…”
كنتُ أريد أن أقول إن علاقتي به ليست عاطفية، وأنّ ما بيننا لا يتجاوز محاولة النجاة.
كنتُ أريد أن أحمي حياته.
لكن الدفء الذي لفّ ظهري أفقدني الكلمات.
والجو من حولنا امتلأ بارتباكٍ صامت.
ظهر ريموند خلفي، وأحكم قبضته على كتفي.
نظرتُ إليه دهشةً من هذا العناق المفاجئ.
ثم التفت نحو ولي العهد ومن حوله، وفتح شفتيه بهدوء:
“أنا أحب هذه المرأة.”
“… ماذا؟”
“أحبّ روزالين فون إدفيرز. أيّ ذنبٍ اقترفته؟ حتى لو لعنها الجميع… لا أستطيع التخلي عنها.”
كان من المعروف في العاصمة أنّ روزالين أقامت علاقات مع رجالٍ كُثُر.
لكن أحدًا منهم لم يعترف لها بالحب.
كان كل شيء معها مجرّد تبادل مصالح.
أما ولي العهد… فمشاعره كانت مقترنة بالمكانة والغضب والكبرياء.
لكن ريموند اعترف أمامه، بلا خوف، بأنه يحبّني.
ثم همس في أذني:
“لا تحاولي حمل كل العبء وحدك.”
“ريموند…”
“قلتِها، أليس كذلك؟ سنخرج معًا.”
اهتزّ قلبي.
لكنّ الدموع لم تنهمر كما من قبل.
لم يعد هناك مكان للضعف.
كل شعورٍ خانني في حياتي الماضية والحالية تلاشى الآن.
عضضتُ شفتي وأومأت، ثم رمقتُ ولي العهد بنظرة ثابتة.
تغيّر وجه ولي العهد إلى ملامح مرعبة.
كان جميلًا وأنيقًا وهادئًا أمام إبريل، لكنه الآن… بدا كطفلٍ غاضب خسر لعبته الوحيدة.
حين أدركت ذلك، شعرت بالشفقة على روزالين.
‘كيف استطاعت أن تفعل تلك الفظائع من أجل رجلٍ كهذا؟’
أدرتُ وجهي عنه، وحررتُ نفسي من ذراع ريموند لأواجهه.
كان وجه ريموند مغطى بالدم والعرق، ومع ذلك بدا جميلًا بنظري.
كنت أريد تقبيله أمام الجميع.
لكنني لم أملك رفاهية ذلك ونحن على حافة الموت.
فاكتفيتُ بأن عانقته من كتفه.
لم يكن لدي أكثر من ذلك.
لم يحتمل ولي العهد المشهد أكثر، فأمر:
“أمسكوا بهذين اللذين تجرّآ على تحدّي ولي عهد الإمبراطورية! وإن رفضا، اقتلوهما في الحال!”
تحرّك الفرسان على جانبيه فورًا، ممتلئين بحماسة أوامره.
رفعوا سيوفهم، وكان واضحًا أن قوتهم ليست كقوة الجنود العاديين.
في حالته الحالية، كان ريموند عاجزًا عن صدّ ثلاثة أو أربعة منهم.
وقفتُ خلفه في توترٍ شديد، وبدأت رأسي تدور في أسوأ سيناريو ممكن.
لم يكن هناك أي منفذ للهرب هذه المرة.
من الأمام يقف فرسان ولي العهد الأقوياء،
ومن الخلف النار التي لم تخمد بعد.
الوضع كان خانقًا… بلا مهرب.
‘فكّري… فكّري… بأي طريقة…’
عضضتُ رأسي بأفكاري وهمست بيأس:
“أنا آسفة… لا أستطيع… لا أجد طريقة توقف هذه الكارثة…”
وفجأة، دوّى انفجار هائل من خلفنا.
اندلعت ألسنة النار من المبنى كالأفاعي، وضربت ظهري.
كان هناك عدد من البراميل الخشبية قرب المخزن، يبدو أنها كانت مملوءة بالكيروسين.
وصلت النار إليها، فانفجرت وانتشر اللهيب في كل مكان.
“آآه!”
سقطتُ إلى الأمام، وكذلك ريموند والفرسان، وقد أطبقت أصواتهم وتشتتوا على الأرض.
كان الجميع في ذعرٍ كامل.
شعرت بألمٍ حاد يحرق ظهري، وكأنني التحفتُ بطّانية من اللهب.
والدخان يلفّنا بصوتٍ مدوٍّ.
“آنسة!”
نهض ريموند دفعة واحدة، وركض نحوي عبر الحرارة الملتهبة، ثم سحبني خارج مدى اللهيب، وغطّاني بذراعيه.
أمسك بملابسي المحترقة بلطف دون أن يضغط على آثار الحروق، ثم هزّ كتفي بقلق:
“آنسة!”
“ريموند…”
“هل أنتِ بخير؟”
“… ظهري يحترق.”
“لا تتحركي.”
“لا أعلم ما عليّ فعله…”
“الأفضل… الأفضل أن تُبعديه!”
“من؟”
“اذهب… إلى الأمير!”
لقد ابتعد كثيرًا، وكان الفرسان الذين يحمونه مشغولين بالانفجار.
إنها فرصة.
صرخت بريموند رغم الألم الحاد في ظهري.
كان لا يريد تركي لكن لم يكن أمامنا أفضل من ذلك.
تردده لم يطل.
أمسك خنجرًا، واندفع نحو الفرسان والجنود الملقَين أرضًا، واتجه إلى الأمير.
ثم وضع الخنجر على عنقه، وهتف بهم:
“تراجعوا! جميعكم!”
“أيها الوغد! كيف تجرؤ!”
“طالما أن حياة ولي العهد على المحك، تقدّموا خطوة واحدة وسأقتله!”
تجمّد الفرسان.
كانت سيف ريموند يلامس رقبة ولي العهد، ولم يجرؤ أحد على التحرك.
تراجع ريموند خطوة وهو يسحب الأمير معه.
توجّهت نحوه، والسيوف تُصوَّب نحونا من كل جهة، لكن دون قدرة على الاقتراب.
حتى في قبضتنا، كان الأمير يصرخ بغضب:
“هل تظنّ أنّكما ستنجوان بهذا؟!”
قال ريموند بهدوء:
“جلالتك… يبدو أنك سترافقنا قليلًا.”
“هذا خيانة للدولة! لن تُعدم وحدك فقط… بل سيُباد كل من ينتمي إليك!”
التعليقات لهذا الفصل " 27"