صرختُ بمرارة، شاعرةً بألم انتزاع كل شعري، وكأنهم يمسكون بحيوان يحاول الفرار.
ثم جاء الجنود الذين كانوا يعتنون بها، وأحدهم أمسك بمعصمي، وآخر قبض على كتفي.
كانت محاولتي للفرار، التي كانت قريبة جداً من النجاح، تعود إلى هاوية الفشل.
وفي تلك اللحظة، اقتحمت الظلال من خلف الباب إلى الغرفة، وسمعتُ صرخات الجنود الغاضبين.
مدّت الظلال يدها نحو الجنود الذين كانوا يمسكون برأسي ومعصمي وكتفي، كما أمسكت بأيدي الجنود العديدين الذين حاولوا القبض عليها.
هجم الجنود على تلك الظلال دون أن يدركوا هويتها.
اندفعوا للقتال، لكن قبل أن يتمكّنوا من ردّة الفعل، سبقتهم يد الظل بالحركة.
ومع مرور الظل بينهم، سقط الجنود في أماكنهم وهم يمسكون مواقع مختلفة من أجسادهم، وقد ضُرِبوا في مواضع قاتلة.
وتوقفت الظلال، التي أطاحت بكل الجنود في الغرفة، عند قدميّ. كان شعره أحمر متّقداً كاللهب. وما إن رأيتُ ذلك الشعر الأحمر المألوف، حتى امتلأت عيناي بالدموع.
إنه ريموند.
كان قد اخترق صفوف الجنود حتى وصل إليّ، وها هو يقف أمامي.
تلاقت أعيننا.
بقينا صامتَين، نحدّق في بعضنا.
كنت أريد أن أسأله لماذا جاء. أردت أن ألومه لأنني كنتُ قادرة على الفرار وحدي. أردت أن أوبّخه لأنه لا يفكر في حماية نفسه. أردت أن أشكره. أردت أن أقول له إنني آسفة.
أردت أن أقول الكثير…
لم يَمضِ يوم على عدم رؤيته، ولكنني اشتقت إليه كثيراً، وما إن رأيت وجهه حتى تذكّرت كل شيء.
ألاف الكلمات التي كانت عالقة في صدري تكسّرت وتبعثرت.
كأن الصوت من حولنا قد اختفى.
كانت صرخات الجنود الذين يندفعون إلينا تملأ المكان كله، لكنني لم أعد أسمع سوى أنفاس ريموند.
سرت نحوه بخطواتي، وهو يحدّق بي، ثم نظر إليّ بدهشة فارغة.
عانقت خصر ريموند بقوة.
تفاجأ ريموند من فعلي المفاجئ وحاول التراجع، لكنه عندما أدرك أنني لن أدعه يبتعد، حدّق بي باهتمام.
همستُ وأنا بين ذراعيه:
“عِدني… لن تموت أمامي برغبتك أو بسببي. لن تفعل ذلك. حتى لو متُّ… أنت لن تموت.”
نظر إليّ ريموند للحظة باستغراب، لكن سرعان ما ارتسمت ابتسامة هادئة على شفتيه، واقترب وهمس في أذني بصوته الرقيق:
“لا أعرف لماذا تقولين هذا فجأة… ولكن سأرجوكِ ألّا تقولي ذلك.”
“…”
“سأحميكِ يا آنستي. لا تقولي إنك ستموتين أمامي. إن قلتِ هذا… سأغضب منك كثيراً.”
كان همسه العذب يضرب قلبي بقوة.
لم أدرك كيف أصبح وجهي شاحباً كحقل ثلج بلا شجرة، تهطل عليه الثلوج بكثافة.
رفعتُ ذراعيّ قليلًا، وأحطتهما حول كتفيه.
أغمضتُ عيني واقتربت بشفتيّ من شفتيه. بدا مصدوماً في البداية، ثم أغمض عينيه وقَبِل قبلتي.
خمس ثوانٍ. لم تكن سوى خمس ثوانٍ.
بدت وكأن الزمن توقف، وكانت تلك اللحظة القصيرة زمناً هائلاً لنا.
ثم ابتعدتُ، وقد احمرّ وجهي قليلاً، بينما نظر إليّ ريموند بخجل واضح.
نظرت إليه سريعاً.
“لنذهب.”
“لنغادر هذا المكان… معاً.”
وعند سماعه لكلمة “معاً”، التي منحتني قوة هائلة، أومأ ريموند بثبات، ثم قبض على يدي الموضوعة على صدره.
وفي تلك الأثناء، عاد الجنود إلى الباب كأمواج متلاحقة لا تُرى، وكانوا قد صُدموا بظهور ريموند للحظات.
وبينما كنتُ أستعيد نفسي، عاد الضجيج من حولنا، وامتلأت أذناي بالتهديدات والشتائم.
ولكن طالما أن ريموند كان هناك، لم أعد أخشى أي حقد.
ركل الجنود المتجمعين أمام الباب بينما يمسك بيدي، فسقطوا إلى الوراء وفتحوا لنا فجوة من أحد الجوانب.
كانوا مشتتين، فاندفع ريموند خلالها بسرعة ابن عرس يتسلل داخل وخارج قنّ الدجاج. أغمضتُ عيني خوفاً من أن يُمسك أحدهم مؤخرة رقبتي كما فعلوا سابقاً، وشعرت ببعض الارتطامات، لكنهم لم يمسكوا بي لحسن الحظ.
ولحسن الحظ، لم يكن أحد موجوداً في الممر خلف الدرج. كان ممراً مسدوداً بلا أحد ليوقفنا.
كان الأمر غريباً.
أدار ريموند جسده ليواجه الجنود الذين اندفعوا للصعود إلينا، ثم ناداني بسرعة:
“آنستي، سأبقيهم بعيداً. إن رأيتِ باباً خلفياً أو نافذة، أخبريني.”
“حسناً.”
كان جوابي سريعاً.
انطلقتُ أركض عبر الممر الخلفي بينما كان ريموند يصدّ الجنود من الأمام.
ثم بدأتُ أفتّش الغرف بحثاً عن باب جانبي أو نافذة كبيرة.
‘لا بد أن لهذا المبنى الضخم مخرجاً ما.’
لكن على عكس ما توقعت، لم يكن هناك أي طريق للهروب. كل النوافذ عالية أو محصّنة.
شعرت بخيبة أمل كبيرة واستدرت.
وعندها رأيت شيئاً يمكن استخدامه كطريق للهروب.
كان مخزناً صغيراً مليئاً بأغراض طبية مؤقتة كالأدوية والضمادات.
كان مختلفاً عن باقي الغرف المبنية بالطوب، فهو مصنوع من الخشب.
أسرعت إليه وطرقتُ على الحائط.
كانت الخشبة مجوّفة، لكنها ليست سميكة. ليست قوية كالجدار ذي الطبقتين. لكنها في الوقت نفسه صلبة جداً على أن تُكسَر بسهولة.
وفكرت قليلاً، ثم خطرت ببالي فكرة جيدة.
نظرت حولي فوجدت بعض الشموع. كان المكان مظلماً رغم الإضاءة الضعيفة القادمة من الخارج، وكانت الشموع مشتعلة.
سكبتُ بعض زجاجات الكحول الطبي على الحائط، ثم قربتُ الشمعة. اشتعلت نار صغيرة كأنها موقد غاز.
ومع اتساع النار، راحت تنتشر عبر الحائط كله.
ما إن انتهيت، عدتُ مسرعة إلى ريموند.
كان ريموند يصدّ موجات لا تنتهي من الجنود، يطيح بهم واحداً تلو الآخر، لكنهم كانوا يصيبونه، وبدأت جروحه تتزايد.
اقتربت منه وأمسكت بيده بقوة. وفي تلك اللحظة، بدأ الدخان يتصاعد من المخزن.
“آه…”
“أرجوك… لا تُصب بأذى.”
“إلى أين تذهبين؟”
“علينا أن نهرب.”
كان لا يزال لا يفهم، لكنني لم أملك وقتاً لشرح طويل. سحبته معي نحو المخزن الذي بدأ يشتعل.
لكن ظهرت مشكلة.
كنت أظن أن النار ستحرق جزءاً بسيطاً من الجدار، لكنها اشتعلت بقوة؛ فقد كان المكان مليئاً بمواد سريعة الاشتعال.
إن تقدمنا مباشرة نحو النار، سنُحرق قبل أن نخرج. كما أن الجنود كانوا يقتربون باستمرار.
هل سنُقبض علينا من جديد؟
وبينما كدت أستسلم لليأس من المصيدة التي حفرتها بيدي، خطرت لي فكرة أخرى.
نظرت إلى ريموند الذي كان يحدّق في اللهب بذهول.
“ريموند! أعطني بعض الوقت!”
ركضت إلى الغرفة المجاورة. كانت فارغة إلا من بعض الأسرّة؛ لقد نُقل كل المرضى منها. سحبتُ الشراشف. وفي كل غرفة دلو ماء لغسل وجوه المرضى، فسكبت الماء على الشرشف.
تشبّع الشرشف بالماء. ثم سحبته وركضت نحو ريموند.
كان ريموند والجنود يقفون على بُعد ثلاث أو أربع خطوات من بعضهم، غير قادرين على الاندفاع. صرخت:
“ريموند!”
التفت إليّ، فرأى الشرشف المبلل.
بدت الدهشة على وجهه حين دخلت، لكنه بعد لحظة فهم ما أنوي فعله، فاقترب وألقى بالشرشف فوقي كاملاً.
“اركضي! اركضي!!”
غطّينا أنفسنا بالشرشف وقفزنا مباشرة نحو اللهب. اخترق لهيب النار الساخن بشرتي. لم يكن هناك مجال للعودة. لم نرَ شيئاً أمامنا بسبب الدخان، لكننا ركضنا بلا توقف.
دفع ريموند جسده نحو الجدار بكل قوته.
كان الجدار الخشبي، الذي أضعفته النار، سهلاً للكسر تحت وزن اندفاعنا. تهشّم واندفعنا خارجه، وارتطمت أجسادنا بالأرض خارج المبنى. لم أشعر بحرارة النار بعد الآن؛ ربما نجونا.
صرخت وأنا أتنفس الهواء النقي غير الملوث بالدخان:
“لقد هربنا!”
وسحبتُ الشرشف عني بسرعة.
لكن بينما كنت على وشك الفرح بالنجاة مع ريموند، تجمّدت ابتسامتي.
إذ عشرات الجنود، وعلى رأسهم ولي العهد، كانوا يحيطون بنا مسلحين من كل اتجاه.
التعليقات لهذا الفصل " 26"