الفصل 17
رأيت حلماً.
جلستُ في وسط حقل من أزهار الكولزا الغنّاء، حيث يتدفق الماء الأصفر من شعري. هذه هي روديسيا. لم تكن مألوفة لي، لكنها كانت مشهداً مألوفاً لروزالين، مما جلب دفئاً مريحاً إلى قلبها.
كان أمامي ريموند جالساً، رجل ذو وجه محمّر قليلاً. تردّد طويلاً، وأخيراً اتخذ قراره وقال لي شيئاً حتى احمرّ وجهه.
— آنسة، لماذا لا تبقين هنا؟
— همم؟ ماذا تقصد؟ عليّ أن أعود بعد غدٍ…
كانت وجهة النظر بصيغة المتكلّم، لكن لساني لم يتحرك بحرية. كانت روزالين وحدها هي التي تتكلم.
بينما كنت أحاول فهم الوضع، لم أرَ سوى الأفعال أمامي.
— لا بد أنكِ عانيتِ كثيراً حين ذهبتِ إلى الإمبراطورية، لتعودي إلى حقول الكولزا. ألا تشعرين بضغط المركيز؟
— لا، أنا أحب الذهاب إلى تلّ الأكاذيب.
— ماذا؟
— أنت تكذبين. أرى ذلك في تعابير وجهك.
— ما خطب وجهي؟
— حقاً كنتِ تبدين مشرقة جداً حين جئتِ إلى هنا. لكن عندما عدتِ، لم ترغبي في الدراسة، وبدوتِ مكتئبة مثل طفل أُجبر على دخول قاعة الدراسة.
— يا له من كلام سخيف…
لم أكن أنا من تتحدث، بل روزالين.
حاولت أن أعترض بشيء، لكنني صمتُّ. كان محقاً حين قال إنني لم أرغب في العودة. في الحقيقة، لو لم يكن من أجل والدها، مركيز إدفرز، لما عادت إلى الإمبراطورية، ذاك الذي بدا وكأنه يسير على جليد رقيق بفعل احتكاكاته السياسية.
نظر ريموند إلى روزالين لحظة، ثم تردّد وفتح فمه.
— آنسة، لا ترحلي.
— هيه، ما بك اليوم؟
— أنا… لا أريدك أن تعودي إلى الإمبراطورية.
— ماذا؟
— أريدك فقط أن تبقي هنا. أود أن تكوني قريبة.
إنها اعتراف. كدت أن أصرخ أمام اعتراف ريموند الخجول. لكن صرختي لن تصل إليه على أي حال.
ومع ذلك، فعلى الرغم من اعترافه الناقص، لم تجب الشابة روزالين لبرهة.
ثم خرج من فمها صوت بارد ولا مبالٍ، لم يكن فيه أي ودّ.
— هذا… هل هو اعتراف؟
— …..
— ها. أيمكن أن أكون على صواب؟
صمت ريموند بانفعال، ولو كنتُ مكانها، لتلقيت اعترافه بمزيد من الدفء. لكن بطريقة ما، كانت ردة فعلها باردة.
شعرت بالضيق، فنادت اسمه الكامل مقطعاً إياه.
— ريموند فون فيذيرواي.
— ماذا؟
— أشعر بخيبة أمل. أن تكون لديك مثل هذه المشاعر تجاهي.
— آسف، لكن…
— وماذا؟
قاطعته روزالين، وكأنها تريد أن تقول له ألا يجرحه، أن يكون أكثر دفئاً، أن يكون أكثر شبهاً بنفسه، لتتأكد أنه لن يكون الوحيد الذي سيُصاب بالأذى. لكن ذلك لم يكن سوى صدى فارغ، لأنني لم أكن قادرة على السيطرة على جسدي، ومع غياب إرادتي المتلهفة، استمرت غرور روزالين.
— سأتغاضى عن الأمر، لكن إن تكرر هذا مجدداً، فسوف…
— …
— كيف يمكن لخادم أن يقع في حب ابنة سيّده؟
أطلقت روزالين عبارة قاسية، باردة، ولا مبالية.
كان ريموند مطأطئ الرأس، وكأنه تلقّى جرحاً غائراً.
‘أرجوك! أرجوك، تراجع. وقل إن كل ما قلته كان مجرد مزحة. واعتذر. أرجوك…’
صرخت وصرخت، حتى تمزق حلقي، لكن صوتي لم يتمكن من الخروج.
ثم فجأة، أمسك ريموند بمعصمها عندما استدارت، وألقى إليها بنظرة حادّة.
— “ماذا تفعل؟”
— “سيدتي، لا يهمني إن كنت أحملك في قلبي، فقط لا تعودي إلى الإمبراطورية، فلن تجدي هناك إلا المعاناة وستفقدين روحك. أرجوك عيشي حياتك…”
قبل أن يتمكن ريموند من إنهاء كلماته، دوى صوت حاد على خده، فانحرفت رأسه إلى الجانب.
شهقت روزالين وحدقت فيه بعينيها.
— “قلت لك، لا تتجاوز حدودك ولو قليلًا.”
— “سيدتي…”
— “لا يهمني ما يحدث لك، لست من عائلتي وأنا سيدتك. لا تكرر هذا أبدًا، ولا تنسَ واجبك.”
تركت قلبه متجمّدًا، ولوّحت بيدها نحوه بازدراء، ثم خطت بخطوات غاضبة مبتعدة عنه، وسط حقول أزهار السلجم.
ظل وحيدًا بين الأزهار، يراقب اختفاء روزالين في البعيد.
‘أرجوك…’ أردتُ أن تتوقف وتعود، وأردتُ أن تقول لريموند شيئًا دافئًا، كلمة مؤثرة واحدة فقط. أردتُ أن أمد له يد العون، لكن لم يكن هناك شيء أستطيع فعله.
شعرتُ بالدموع وكأنني أخوض سباقًا مصيريًا، غارقة في حالة من التردد والعجز.
بكيتُ وأنا أشعر بمرارة العجز. وللمرة الأخيرة، تلاشت رؤيتي مثل مصباح استنفد آخر لحظة من نوره.
***
فتحتُ عيني.
كان هذا على الأرجح اليوم الخمسون.
فركتُ يديّ على الإحساس الغريب والوخز حول عينيّ.
كانت بشرتي، التي صارت خشنة بفعل صنوف المعاناة، مبللة بالماء. في ذلك اليوم، أدركت أنني كنت أبكي.
لقد كان حلمًا مزعجًا شديد الوضوح، حتى إنني شعرتُ وكأنني كنت روزالين حقًا.
وحين استعدت ذكرى روزالين في ذلك الوقت، بدا أن اعترافه لم يكن أمرًا مهينًا فحسب.
لا، بل شعرتُ بصدق بسعادة في قلبي. لكن روزالين كانت حينها صغيرة جدًا وغير ناضجة.
وكانت دائمًا ترزح تحت وطأة الضغوط العائلية. ولهذا السبب بدت أكثر قسوة مما ينبغي مع ريموند.
ولو أنها شعرت فعلًا بالسوء تجاه اعترافه، لما كانت لتسمح له لاحقًا بالاقتراب منها.
لو أنها فقط أصغت له حينها، لو أنها قبلت اعترافه،
أكان يمكن أن يتغير هذا الحاضر؟
ألم يكن بالإمكان تفادي نهاية مأساوية كهذه لو بقيت في روديسيا دون أن تعود إلى الإمبراطورية؟
ذكّرتُ نفسي بمدى عبثية هذا التفكير، بينما بقيت الدموع عالقة في عينيّ.
لكن حين مسحت دموعي، لمحت شيئًا غريبًا: شيء غريب كان مكتوبًا على معصم يدي.
“X9؟”
X9؟ ما هذا؟ لم أستوعب الأمر جيدًا. فركت معصمي بثيابي لأمحوه.
لكن لم يُمحَ، وكأنه وشم منقوش بعمق.
‘مستحيل!’
خطر لي شيء فجأة: كنت قد لعبت ذات مرة لعبة أركيد، وكان هذا أشبه بإشارة من تلك الألعاب.
— “تسع أرواح؟”
لا، لا أظن… لكن في اللحظة التي تذكرت فيها ذلك، اجتاحني شعور غريب، وكأن شيئًا مجهولًا يجذبني من جديد.
— “هاه؟”
أملتُ رأسي أمام الصور التي تدفقت فجأة في ذهني. لم تكن ذاكرة روزالين، بل كانت ذكرياتي أنا، من العالم الحقيقي.
لم يكن هناك أي ذكرى كهذه من قبل، التي بدت وكأنها تكررت تسعًا وأربعين مرة.
لكن اليوم، وكأن كلمة مفتاح فتحت مخزن ذاكرتي القديمة، انطبعت بوضوح في رأسي.
لقد كان ذلك المشهد الأخير من ‘سجلات الورود’، اللعبة التي شاهدتها مرات كثيرة، ولم يكن اسم ريموند يُذكر في نهايتها حين لعبت.
لكن الآن صار جليًا أمامي أنه كان موجودًا داخل اللعبة.
حككت رأسي، أتساءل إن كان عقلي يخذلني، لكنني لم أستطع منع نفسي من استدعاء ما ترسخ في أعماقها.
ملفك الجديد وسجلاتك كانت طويلة جدًا، لكن ما كنت أراه كان جملتين من الفقرتين الأخيرتين.
[كان ريموند في ذلك اليوم الذي شنقوا فيه روزالين.
تفاجأ برؤية موت روزالين، وفي النهاية لم يتمكن من تجاوز صدمة الموت فشنق نفسه في غرفته في اليوم التالي.]
— “ماذا؟”
كررتُ الجملتين الأخيرتين عدة مرات، ثم شعرت بمعنى تلك الجملة يسري في جسدي كله ونفثتُ بصوتٍ غريبٍ أشبه بالصراخ.
‘مجنون’، لم تعد فمي ينطق إلا باللعنات.
ظننتُ أن ذلك كان ليثنيه عن الهرب، رغم أنه لم يكن يقصد نفسه. ظننتُ أنه من واجبي أن أرسله سالماً إلى الوراء، رغم أنني قد غرست في قلبه حزنًا مُرًا.
لكن لم يكن الأمر كذلك.
نهايتي كانت نهايته. خلال الثمانية والأربعين يومًا، باستثناء الهروبَين، افتقدني في غرفة لا يهمها أحد ومات في الممر.
كان يعاني من نزعة تدمير ذاتي جهنمية لم أستطع كبحها منذ اليوم الذي متُّ فيه دون قصد، ذلك اليوم الذي أخذته بخفة، ثم مات ببطءٍ كورقة تسقط في أواخر الخريف.
ماذا فعلتُ له؟ ماذا فعلتُ له؟ كنت أعلم أنه سيستسلم.
ظننتُ أن كل شيء سينتهي إذا قبلتُ بالموت، لكن خفَّتي تجاه ذلك الموت تحوّلت إلى بقعةٍ كثيفة من الدم لم تُمحَ من قلبه.
بعد كل شيء، لم أفعل له شيئًا، لكني منحتُه موتًا بائسًا. نهضتُ ضعيفةً من السرير.
ثم مشيتُ نحو القضبان. ‘عليّ الخروج من هنا.’
أمسكتُ القضبان بيدين مرتعشتين، متأملةً، ومع أن القصة بدت بسيطة، فإن قوتي الضعيفة بلا مفتاح لم تقدر على تحريك القضبان.
عندما أردتُ أن يفعل هو ذلك، جاء يركض إليّ محاطًا بمخاطره، ولكن حين احتجتُه، كان معي.
لم أستطع أن أمنحه ذلك. جعلني العجز عن فعل شيء كهذا حزينَةً وغاضبةً جدًا.
صرختُ، من أعماق صدري، وضربت القضبان بأقصى ما أستطيع بقبضتي.
— “آآه!”
– طرقة
— “لماذا؟ لماذا تفعل هذا بي؟ لقد أزعجتني بما فيه الكفاية! لماذا تؤذيني؟ لماذا! لماذا!”
– طرقة
صرختُ، واضرب القضبان عدة مرات، وكان يغيظني كيف أنهم أرسلوني إلى هنا.
لماذا سيجعلني ريموند تعيسة بلمسي له؟
لماذا ربطتُ ريموند بتضحية الموت من أجلي وتركته هناك بلا أكثر؟
لماذا؟
كنتُ متعبةً من مطالبة أحدٍ بإجابة، فسقطتُ على ركبتيّ، ممسكةً قضبان الحديد.
اصطدمت القبضات بقساوةٍ في القضبان الفولاذية وشقَّت الدماء راحتيّ يديّ.
— “ما الذي تفعله بي بحق الجحيم؟ ما الذي فعلته في العالم… ماذا فعلتُ خطأً؟ لا أعرف ما هو، لكن أعتذر عن كل شيء! إنها غلطتي. لقد أخطأت في كل شيء، فلتنهي الأمر من فضلك. أرجوك.”
حلَّ بي يأسٌ أعمق مما شعرتُ به حين رُقعت أو قُذفت بالحجارة في جلسات التعذيب.
كنتُ أرغب في الموت.
أردتُ أن أنهي كل شيء فورًا.
لكن حتى مع سخرية القدر، لم أستطع أن أموت هكذا. الآن أدرك أن حياتي ليست بهذه الخفة.
لمرةٍ واحدة، علّمتني موتي الذي أخذته باستخفاف كم كان عميقًا ومروعًا لريموند، وكم كان الخداع الذي سببته لنفسي مدمرًا.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 17"