لكن السيّد لم يُظهر ملامح من اكتشاف صادم أو دهشة كبيرة، بل أجاب ببرود وهو يرسم على وجهه تعبيرًا لا مباليًا:
“على نحو عابر.”
ومع ذلك، فقد أوكل إليه مهمة النقل للمرة الثانية؟ كان الأمر مفاجئًا للغاية. فالرجل الذي عرفته بيلوني هو شخص لا يمنح فرصة ثانية أبدًا إن خانَه أحد، بل يسحقه دون رحمة.
لاحظ السيّد علامات الدهشة في ملامحها، فمسح وجهه بكفيه كما لو أنه يحاول طرد التعب.
“كنتُ مَدينًا لوالدي ذلك الفتى، فأردت أن أمنحه فرصة أخرى.”
عندها فقط أدركت بيلوني السبب الذي جعل ذلك الرجل، في حياتها السابقة، ينجو بحياته ولو بمهانة. فالذي يردّ الدين بصرامة مثل السيّد، هو نفسه الذي يميز الجميل بدقة. لذلك، رغم الخسائر الفادحة، أراد أن يعطيه فرصة ثانية.
“وهل ستستخدمه هذه المرة أيضًا؟”
“سأستخدمه، لكن مع رقابة صارمة. وإن اتخذ قرارًا أحمق آخر… فحتى أنا لا أعلم ما سيكون مصيره.”
هزّ السيّد كتفيه بلا مبالاة.
لكن وجه بيلوني لم يصفُ. كانت متأكدة أنه، حتى في حياتها السابقة، اتخذ القرار نفسه وهو يعلم أن الرجل قد خانه بالفعل. وهكذا انتهى الأمر، وغرقت السفينة في رحلة النقل الثانية أيضًا، وضاع كل شيء دون أثر.
وما جعل الأمر أشد وطأة أن السيّد كان قد عرض قليلًا من التوابل على القصر الإمبراطوري وكبار النبلاء قبل هذه الحادثة، ليعرّفهم عليها. وذلك لم يزد إلا من حجم المسؤولية التي تثقل كاهله الآن. ليت الناس ما عرفوا بوجودها أصلًا، لكان الأمر أهون بكثير.
ترددت بيلوني، عاجزة عن صياغة كلماتها.
“… عمّي. هل تجرّب أن تثق بي لمرة واحدة فقط؟”
“ماذا؟”
“أقصِ ذلك الرجل تمامًا.”
فتحت بيلوني كلامها بهدوء وروية.
لقد أدركت أن السبب الذي جعله يتعاطف مع ذلك الرجل هو الدين الثقيل الذي يحمله تجاه والديه. وها هو الآن يمنحه فرصة ثانية. لذلك، لو ضغطت عليه باندفاع، قد تنقلب الأمور سوءًا.
“أنا أؤمن أن الإنسان لا يتغير بسهولة. صحيح أن بعض الأحداث الكبيرة قد تقلبه رأسًا على عقب، لكن ذلك الرجل لم يمرّ بتجربة كهذه. ثم إنك لو كلفته بمثل هذه المهمة الخطيرة، فهذا يعني أنك كنت تُبقيه قريبًا منك، أليس كذلك؟ إذاً، هو يدرك تمامًا مدى خطورة الأمر عليك.”
أومأ السيّد برأسه مؤكدًا.
“ومع ذلك، خانك. وهذا يعني ببساطة أنّك لم تعد في حساباته أصلًا.”
لو كانت خيانته صغيرة، لما قالت شيئًا. لكنها تعلم أن الضربة التي تلقاها السيّد بسببه كانت كفيلة بتهديد مكانته، حتى إنه كاد يفقد موقعه كسيّد أزقة الظل. لقد كان الأمر جللًا.
والآن، في هذا الوقت الذي تحتاج فيه بيلوني لمساعدته، لا يجوز أن تهتز مكانته. ثم إنه الرجل الوحيد الذي يعرف حقيقة والدتها، ولذلك رغبت أن تحميه.
“لا تُبقِ بجانبك من اعتاد اعتبار الامتيازات حقًا له. فهذا أخطر من أي عدو.”
ظلّ السيّد صامتًا، ينظر إليها طويلًا.
ومع مرور الوقت حتى شعرت بيلوني بالثقل، فجأة ارتسمت على شفتيه ابتسامة واسعة، وانفجر ضاحكًا بملء صوته.
لم تره بيلوني يضحك بهذه الحماسة من قبل، فاتسعت عيناها دهشة. للحظة، خشيت أنها تجاوزت حدودها أو قالت ما لا ينبغي، لكن ملامحه لم تكن إلا مسرورة.
“حسنًا. سأفعل كما قلتِ.”
“حقًا؟”
لم تتوقع أن يوافق بهذه السهولة.
أومأ برأسه بثبات.
“كنتُ في الحقيقة أفكر في هذا منذ فترة. لكن كلماتك أقنعتني، وعليّ أن أضع حدًا للأمر الآن.”
على الأرجح، حتى في حياتها السابقة، كان قد غاص طويلًا في التردد قبل أن يقرر إعطاءه فرصة ثانية.
“سأتولى أمره بنفسي، فلا تقلقي. وإن تم كل شيء بنجاح، فسأكافئك.”
حتى وهي تمنحه معلومات ثمينة، وعدها بالمكافأة، وذلك وحده كافٍ ليُدرك المرء أن المسألة لم تكن هينة.
ثم قال بوجه بشوش تغمره الرضا:
“إذن، ما الذي تريدينه؟ هذه ليست مساعدة صغيرة، ولا بد أن مطلبك بحجمها.”
سردت بيلوني دون إخفاء كل ما كانت قد سمعته من شانور.
كان السيّد من القلائل الذين يمكنها أن تثق بهم كليًا. بل وأكثر من ذلك، ما دام قلبه لا يزال معلقًا بأمها، فلا شك أنه يحمل عداءً عميقًا نحو مركيز جيريم. بمعنى آخر، هو في صفّها.
“إن كان الأمر قد عُولج عبر أزقة الظل، فلا ريب أن وراءه شيئًا غير عادي.”
تصلبت ملامح السيّد للحظة عند ذكر ارتباط الأمر بأزقة الظل.
لكن ما لبث أن ضحك بانشراح.
“سأنهي المسألة بسرعة. لا شيء يخفى عليّ إن كان من شؤون الأزقة.”
اطمأن قلب بيلوني، وابتسمت بدورها.
“على أي حال، أكنتُ مفيدة لك هذه المرة؟”
“هاه؟”
“كنتُ قد جهزت نفسي للعمل على الأمر أسبوعًا كاملًا.”
“آه!”
أدركت بيلوني في تلك اللحظة أن من أبقى موظفي بيت ماركيز جيريم محتجزين لأسبوع كامل لم يكن سوى الزعيم نفسه.
“لقد ساعدتني حقًا، كنت أتساءل من يكون الفاعل، فإذا بك أنت من فعلها.”
لم يكن مهمًا من يقف خلف الأمر، لكن سماع أن الزعيم هو من فعل ذلك جعلها تشعر براحة غامرة. فهذا يعني أنه قد أزاح عنه كل ضغينة تجاهها، وذلك كان كافيًا ليريح قلبها.
“لقد فكرت كثيرًا بعد أن سمعت كلماتك السابقة.”
لم يتردد طويلًا قبل أن يرفع نظره ليلتقي بعينيها.
“أشعر بالذنب، كنت أعلم كل شيء ومع ذلك أدرت ظهري لك.”
ابتسمت بيلوني عند سماع اعترافه.
برؤيته الآن على هذه الحال، خطر لها أن من الممكن أنه كان قد ساعدها كثيرًا حتى في حياتها السابقة. عندما تتأمل ماضيها، تجد أن الحظ كان دومًا بجانبها.
كانت محظوظة حين حصلت على استثمارات، ومحظوظة أكثر حين نجحت تلك الاستثمارات. محظوظة بوجود معاونين أذكياء بقربها، ومحظوظة أيضًا لأن أعمالها مضت بسلام.
ولو لم يكن لعطف الزعيم ورعايته نصيب في حياتها السابقة، لربما كان طريقها مليئًا بالعثرات.
“رغم أنني لا أعرف الكثير عن والدتك، لكن إن رغبتِ فسأكون سعيدًا بمشاركتك ذكرياتي عنها.”
“بالطبع، هذا تمامًا ما كنت أتمناه. لم يبقَ الكثير ممن يتذكرونها.”
ارتسمت على وجهه ابتسامة حزينة.
بعد أن أنهت حديثها معه، غادرت بيلوني لتعود إلى العربة حيث ينتظرها نوسيل ومارينا.
وما إن جلست حتى لاحظت مارينا أن ملامح سيدتها لا تبدو بخير، فسألتها بقلق:
“سيدتي، هل هناك ما يزعجك؟”
“سيدتي.”
“آه، صحيح، يجب أن أناديك هكذا. لم أعتد الأمر بعد.”
ابتسمت مارينا بخجل، وبيلوني كذلك لم تعتد اللقب الجديد، لكنها تعلم أن عليها أن تسمعه كثيرًا خلال السنة القادمة حتى يرسخ في ذهنها.
“ليس أمرًا مهمًا…”
لكن في الحقيقة كان الأمر جللًا.
قبل أيام قليلة، عادت إلى ذهنها ذكرى من ليلة زفافها، حين تبادلت قبلة مع شانور. وما إن خطرت لها تلك اللحظة حتى صارت تطاردها باستمرار، حتى إنها استغربت كيف غابت عن بالها من قبل.
وهذا ما كان يرهقها، فكلما وقعت عيناها على شانور، انجذب نظرها لا إراديًا إلى شفتيه، ليعود ذلك المشهد ليتكرر داخل رأسها بلا توقف.
ذاك الإحساس الطري، الأنفاس الحارة، حركة اللسان المنزلقة، والرطوبة…
“سيدتي، وجهك محمّر! هل أنتِ بخير؟ هل أصابك الحمى؟”
عادت بيلوني إلى وعيها على لمسة مارينا التي تحسست جبينها.
لهذا السبب لم تستطع بيلوني مواجهة شانور مباشرة. حتى سماع اسمه وحده كان يجعل قلبها يخفق بجنون، فوجدت نفسها خلال الأيام الماضية تتفاداه من دون قصد. لكنها كانت تدرك جيدًا أنها لا تستطيع الاستمرار هكذا، وأن عليها أن تجد حلاً.
“مارينا، ماذا لو أن هناك شخصًا… وفي كل مرة أراه، لا يسعني إلا أن أتذكر أمرًا محرجًا؟ وأنا حتى لا أعرف إن كان يتذكر ذلك أم لا.”
“هل ترغبين بمعرفة إن كان يتذكر فعلًا؟”
“نعم.”
“إذًا، لمَ لا تحاولين تكرار الموقف نفسه؟ إن أظهر أنه يعرف، فمعناه أنه يتذكر، أما لو بدا مرتبكًا، فهذا يعني أنه لا يعلم شيئًا!”
أضاء وجه بيلوني من بساطة الفكرة.
‘يعني عليّ أن أتظاهر بتقبيله…؟’
لكنها ما لبثت أن دفنت رأسها في الجدار بحرج. لا يمكنها أن تقدم على تقبيله فقط لتتأكد إن كان يتذكر.
‘ربما أنا من توهمت. فشانور لم يُبدِ أي ردة فعل، أليس كذلك؟’
…انتظري. لم يُبدِ أي ردة فعل؟
غرقت بيلوني في التفكير وهي تستعيد أحداث الأيام الماضية. صحيح، فبعد الزفاف كان شانور يطيل النظر إليها باستمرار.
كانت تدير رأسها متظاهرة بعدم ملاحظته، لكن نظرته الحادة المختلطة بشيء من الضيق كانت تخترقها وتلسع قلبها.
“…يا إلهي!”
قفزت من مقعدها صارخة.
إنه يتذكر!
ولهذا ظل يحدّق بها بذلك الشكل!
“يا لدهشتي! سيدتي، ما الذي أصابك فجأة؟”
“ماذا أفعل؟ حقًا، ماذا أفعل…؟”
دفنت بيلوني وجهها بين كفيها من شدة الخجل. لم تكن بحاجة إلى مرآة كي تعلم أن وجنتيها صارتا حمرواين كالجمر. حرارة وجهها كانت كافية لتفضحها.
“…لا بد أن أعتذر لشانور.”
فمن ردّ فعله، بدا واضحًا أنها كانت من بادرت أولًا. كيف لها أن تتجاهل الأمر وكأن شيئًا لم يكن، بينما هو الطرف الذي تلقى ذلك؟ لا بد أنه شعر بالظلم حين رآها تتصرف وكأنها لا تتذكر شيئًا.
لهذا ظل يرمقها بعدم رضا طوال الوقت.
تنفست بيلوني بعمق ووجهها يزداد احمرارًا. كان الطريق نحو قصر الدوق ثقيلًا منذ البداية، لكنه بات الآن أكثر صعوبة.
ومع ذلك، ومع مرور الوقت هدأ قلبها قليلًا. بدأت أنفاسها تتزن واطمأنت قليلًا… إلى أن وقع ما لم يكن في الحسبان.
“سيدتي! لا تخرجي!”
دوّى صوت نوسيل من خارج العربة، تلاه صليل سيوف متصادمة.
أسرعت بيلوني إلى النافذة لترى المشهد، فإذا برجال يرتدون ملابس سوداء يهاجمون العربة من كل اتجاه.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات