ألصقت وجهها بزجاج النافذة تفتش بعينيها، لكنها لم تستطع إنكار الحقيقة: لقد دخلوا حقًا إلى قصر الدوق. وقبل لحظة فقط، كانت تتمنى لو يفتح لها ذلك الباب المغلق بإحكام، أما الآن، فكل ما تريده هو العكس.
كان كل ما تتمناه أن تعود العربة أدراجها إلى قصر المركيز، لكن لسوء حظها لم تتوقف العجلات إلا عند أعتاب القصر العظيم.
وما إن توقفت العربة حتى فُتح بابها، وامتدت يد قوية إلى الداخل.
وبينما كانت زوجة المركيز ترمش بدهشة، ابتسمت بيلوني حين رأت اليد المألوفة، ومدّت يدها إليها مطمئنة.
وضع الدوق كفه العريض الصلب تحت يدها، وساعدها على النزول من العربة بخفة ورشاقة.
“لقد أديتِ الدور بإتقان.”
“قلت لك إنني واثقة من نفسي، أليس كذلك؟”
قالت بيلوني وهي تومئ بعينيها مازحة.
كان شانور قد استمع إلى خطتها، واعترف في داخله أن كل شيء يسير على نحوٍ كامل. ومع ذلك، أولى اهتمامه الأشد لشيء واحد فقط: التمثيل.
حين أعلن أنه سيتولى الأمر بنفسه، لم تتردد بيلوني في أن تذرف دموعًا حقيقية أمامه خلال ثوانٍ معدودة، لتثبت قدرتها. ثم خرجت بخطوات ثابتة، ودموعها ما زالت تتلألأ على جفنيها، لتواجه زوجة المركيز.
“على أي حال، أظن أن حالة أرييل ليست على ما يرام. ينبغي استدعاء الطبيب الخاص بها.”
عند سماع ذلك، تذكّر شانور أخيرًا الفتاة التي جاء بها الفارس على ظهره. كان قد انشغل بالعربة التي اقتربت آنذاك فلم يلتفت إليها، لكن الآن وقد أعاد النظر، وجد أن وجه أرييل قد ازداد شحوبًا حتى مالت زرقة الموت على ملامحها.
بدا الأمر خطيرًا بحق، فأومأ شانور برأسه.
“إكتر لا بد أنه قد استعد مسبقًا.”
إكتر، الذي لا تخفى عليه الأمور، كان ليتصرف فور رؤيته حالة أرييل، ويستدعي الطبيب على الفور.
التفتت بيلوني برفق، لتواجه زوجة المركيز المرتجفة في مكانها.
“سيدة المركيز.”
ارتجفت كتفا المرأة كمن لدغها البرد، وحدّقت في بيلوني بعينين ممتلئتين بالذعر.
“بي… بيلوني…”
“لدينا ما يجب أن نتحدث عنه، أليس كذلك؟”
ابتسمت بيلوني ابتسامة صافية صادقة، وقالت:
“انزلي بنفسك… قبل أن يضطر أحد إلى جرك.”
حتى زوجة المركيز، التي طالما افتقرت للبديهة، أدركت أن هذه اللحظة لا تحتمل التردد. فاندفعت لتنزل مسرعة، لكنها تعثرت عند الدرج وسقطت متدحرجة.
“احترسي.”
أسرع شانور، يمد ذراعه ليمسك بكتف بيلوني ويشدها إلى الوراء بعيدًا عن الخطر.
“شكرًا لك.”
قالت بيلوني بابتسامة رقيقة، ممتنة لوقايته إياها من الاصطدام المريع.
وبينما ترقد زوجة المركيز أرضًا متأوهة، كان الاثنان يتبادلان كلمات هادئة وكأنهما في نزهة لا يعكر صفوها شيء.
لم تجد زوجة المركيز في نفسها القدرة حتى على الغضب. بالكاد تمكنت من رفع جسدها الموجوع، وارتسمت على وجهها ابتسامة متزلّفة وهي ترمق بيلوني برجاء.
“بيلوني… ها أنا قد خرجت.”
“إذن، اتبعيني.”
ألقت بيلوني الكلمات ببرود، ثم شبكت ذراعها بذراع شانور وسارت بخطوات واثقة نحو القصر.
فقدت زوجة المركيز حذاءها حين سقطت، ولم تجد وقتًا لاستعادته، فتبعتهم مترنحة، حافية القدمين.
كان القصر الدوقي غارقًا في السكينة، عدد الخدم فيه نادر، وما من أحد يصادفهم سوى الفرسان الذين يظهرون بين الحين والآخر.
كانوا جميعًا ينحنون بأدب واحترام لبيلوني والدوق، غير أن أعينهم حين تقع على زوجة المركيز لا تخفي ما تبعثه من برودة قاسية.
كانت نظراتهم هي نفسها نظرات الدوق، فارتجفت المرأة وانكمشت على نفسها، مسرعة الخطى كي لا تبتعد عن بيلوني لحظة. فقد أدركت بفطرتها أن الشخص الوحيد في هذا القصر الذي قد يمنحها فرصة للنجاة لم يكن سوى تلك الفتاة.
لم يعر الاثنان أي اهتمام لزوجة المركيز، يتبادلان الأحاديث وكأنها لم تكن موجودة. ومن ذلك أدركت أنها كانت محقة: الرابط بينهما أقوى بكثير مما ظنت.
ففي النهاية، لم يتردد شانور في الذهاب معها حتى إلى قصر آل جيريم. أجل، ركل أرييل جانبًا ببرود، لكنها لم تتخيل ولو للحظة أن يفعل الشيء نفسه بعائلة بيلوني.
عندها، حاولت زوجة المركيز أن تهدئ من روعها، وتطمئن نفسها بأن الوضع قد لا يكون سيئًا إلى هذا الحد.
غير أن تلك الطمأنينة الزائفة كانت أكبر أخطائها.
فشانور لم يضع آل جيريم في حسبانه يومًا، وكذلك بيلوني أيضًا.
وصلوا أخيرًا إلى غرفة الاستقبال. جلست بيلوني في مقعدها بجوار شانور، ثم أومأت برأسها نحو زوجة المركيز.
“اجلسي.”
ابتلعت الأخيرة ريقها بصعوبة، وجلست بخطى مترددة فوق الأريكة.
“ذاك هو…”
“لقد منحتكِ اختيارًا من قبل.”
“م-ماذا؟”
لم تترك لها بيلوني فرصة للاعتذار أو التبرير، إذ قطعت حديثها بنبرة حاسمة.
“قلت إنكِ لو بقيتِ بعيدة عني وعشتِ بهدوء، فلن أتدخل في شؤونك. على الأقل، كنت أنوي أن أمنع سقوطكم الكامل وبيعكم للقب.”
ثم رفعت بصرها فجأة نحوها، بعيون خاوية من أي إحساس.
“فقد كنت أنوي أن أجعلكِ غير قادرة على الاقتراب مني مجددًا.”
عادت زوجة المركيز لتستعرض ما فعلته.
لقد جاءت فعلًا.
هل جلبت رجاءً خافتًا أو توسّلًا صادقًا؟
بالطبع لا.
بل ثارت غاضبة حين لم يُسمح لها بالدخول، وحشدت الصحفيين لتطلق الشائعات. صحيح أن ما فعلته يمكن تلخيصه بجملة قصيرة، لكن طريقها إلى ذلك كان طويلًا مليئًا بالفضائح.
أدركت خطأها أخيرًا، فانزلقت عن الأريكة وسجدت على ركبتيها.
“أ-أنا آسفة يا بيلوني! لقد فقدت عقلي للحظة، لا بد أنه كان جنونًا مؤقتًا. فقط… فقط شعرت بظلم فادح حين رفضوا إدخالي. كان الأمر جارحًا لكرامتي، لم أحتمله…”
“آه…”
أجابت بيلوني بصوت هادئ، وكأنها تفهم.
ومع ذلك، وفي اللحظة التي كاد الأمل يعود لوجه زوجة المركيز، أردفت بيلوني ببرود:
“إذن، كل ما فعلتِه، كان لمجرد أن رفضوا إدخالك، فأصابك الغضب والجرح في كبريائك؟”
لو أقرت، فستبدو كمن أثار فضيحة لسبب تافه لا يُغتفر. ولو أنكرت، فإن كلماتها السابقة ستفضحها.
“بيلوني…”
تمتمت باسمها كمن يبحث عن مخرج يائس.
“…أنا آسفة حقًا. أندم منذ زمن بعيد على قسوتي عليك. أرجوكِ، سامحيني بصدق.”
“سيدة المركيز.”
كان الصوت باردًا حادًا، لا يترك لها منفذًا بعد الآن.
ورفعت المرأة رأسها بشكل غريزي، وحين التقت عيناها بعيني بيلوني، أدركت الحقيقة: لقد فات الأوان.
“لو قلتِ هذا قبل شهر فقط، لكان جوابي مختلفًا قليلًا. لكنك تأخرتِ كثيرًا.”
كانت بيلوني واثقة: لولا أنها الآن زوجة الدوق، ولولا أنها صارت دوقة بالفعل، لما كانت هذه المرأة قد رضخت بهذا الشكل أبدًا.
فالمرأة ذاتها في حياتها السابقة لم تكف يومًا عن كرهها وازدرائها.
لقد عاشت بيلوني حياة قاسية لدرجة أنها رغبت ولو لمرة أن تجد عزاءً بين أفراد عائلتها. وعندما لم تجد حنانًا بين أهل زوجها، عادت إلى قصر آل جيريم، لتقابل ببرودٍ قاسٍ من زوجة المركيز.
– ‘هل تظنين أنك الوحيدة التي تزوجت؟ أنا كذلك، والجميع كذلك. لماذا تُظهرين هذا الضعف؟ لو صبرتِ قليلًا بدل المجيء لإثارة المشاكل، لكان خيرًا لك.’
لم تطلب بيلوني مالًا، ولا معونة.
كل ما رغبت به هو أن تجلس مع عائلتها على مائدة طعام واحدة.
لم يهمها إن أظهروا استياءهم، ولا إن أثاروا المشاكل أثناء الوجبة. كل ما أرادته كان أن تتشارك مع عائلتها لحظة واحدة.
لكن، حين سُحبت بالقوة عائدة إلى بيتكونت بيكوم، أدركت الحقيقة: لم يكن لها عائلة حقيقية يومًا.
“بيلوني.”
جذبها من شرودها صوت هادئ بجوارها، فالتفتت.
“هل أنت بخير؟”
حين التقت عيناها بعينيه المليئتين بالقلق، أدركت أنها قد سرحت طويلًا حتى بعد مغادرة زوجة المركيز.
“آه… كنت أفكر قليلًا.”
كان يكفي النظر في عينيها الغارقتين في الذكريات ليُفهم أن ما يشغلها لم يكن تفكيرًا عابرًا. لم يسألها شانور شيئًا، بل مدّ يده ليمسك يدها برفق.
دفء كفه جعل شفتيها تنحنيان بابتسامة صغيرة.
“أين أرييل؟”
“لا بد أنها في غرفة الضيوف.”
وقفت بيلوني من مقعدها، ترددت قليلًا ثم شدّت على يده متسائلة:
“هل… ترافقني؟”
لم يكن السؤال متوقعًا، لكنه لم يتردد لحظة وأومأ برأسه.
“نعم.”
ثم نهض هو الآخر وهو لا يزال متمسكًا بيدها. ابتسمت بيلوني بخفة، وغادرا الغرفة معًا.
قادهم إكتر الذي كان بانتظارهم، حتى وصلا إلى غرفة الضيوف، حيث كانت أرييل ممددة فوق السرير.
كانت قد استعادت وعيها للتو، تتجرع الدواء وملامحها مشدودة من الألم.
“أ… أختي؟”
ارتبكت أرييل للحظة حين رأت بيلوني، لكن ما إن وقعت عيناها على شانور حتى تجمد وجهها. فقد تذكرت على الفور من الذي ركلها بتلك القسوة، وجفافٌ مرّ في حلقها.
وعلى الرغم من أن بيلوني أدركت خوفها، فإنها لم تطلب من شانور الخروج.
بل أمسكت بيده بإحكام أكبر.
“سأمنحك خيارًا.”
لم يكن ذلك بدافع طيبة قلبها.
إنما لمسة أخيرة من الرحمة، فقط لأنها ما زالت تذكر تلك الطفلة الصغيرة التي خبأت لها قطعة خبز خلسة في أيامها المظلمة.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات