كان يغضبها أنه يفكر بما قد يحدث بعد رحيله، وفي الوقت نفسه كانت تشعر بالامتنان لأنه يفكر في حمايتها.
لكنها لم تستطع أن تُظهر كل ما في قلبها، فقد منحها من الرعاية والاهتمام ما يكفي، والآن حان دورها لتبادله بشيءٍ من الاهتمام.
قالت بصوتٍ خافت:
“أنت…”
كان شانور يترقب ردها وقد حبس أنفاسه.
“…أنت شخص غريب حقًا.”
لم يكن في كلماتها غضب ولا امتنان، بل دهشة صافية. ارتبك شانور للحظة، يرمش بعينيه متفاجئًا من جوابها غير المتوقع.
“أنت تقول إنني غريبة، لكن في نظري… شانور أنت أغرب مني بكثير.”
بدت كلماتها وكأنها خرجت بلا تفكير، ربما بفعل أثر الشراب الذي أخذ يسري في جسدها.
“كنت أظن أنني امرأة سريعة البديهة، أقرأ الناس بوضوح، لكن كلما نظرت إليك، أدرك أنني لست كذلك.”
كان شانور حقًا شخصًا غريبًا.
قبل كل شيء، فقد قبل عرضًا ما كانت لتفكر هي نفسها أن تلتفت إليه، ثم لم يكتفِ بالقبول، بل عاملها بطيبة، وساعدها حتى في انتقامها الصغير، ومنحها أكثر مما تجرؤ على طلبه.
“أن تكون وريثة للعرش… هذا يتجاوز فكرة الحماية فحسب، أليس كذلك؟”
فحتى إن مات شانور، ستظل بيلوني وريثةً للعرش، محميةً من قِبل الإمبراطورية نفسها. صحيح أن ترتيبها سيكون أدنى من الأمير الثالث، لكنها ستظل شخصية لا يُمكن المساس بها بسهولة.
لكن ماذا لو حدث حادث مروّع وقُضي على الإمبراطور وولي العهد وشانور والأمير الثالث معًا؟ في تلك اللحظة ستكون بيلوني، بصفتها دوقة راينهارت، الوريثة الأولى للعرش. فبعد غياب هؤلاء الأربعة، لن يعلو على حقها في الخلافة أحد.
وذلك معناه أن قرونًا من تاريخ الإمبراطورية قد تتحطم كالرمال المتداعية.
مهما قيل إنها مجرد “حماية استثنائية” أو حتى “ثمن الاختبار”، فالأمر بدا لها مبالغًا فيه.
رفعت عينيها نحوه وسألت بصوتٍ متردد:
“لماذا تعاملني هكذا؟”
لماذا؟
“لماذا تمنحني كل هذا وأكثر مما أستحق؟”
أيّ قيمةٍ لها حتى يعاملها بتلك الطريقة؟
هل لأن حياتها الآن تسير بعكس ما عاشته في حياتها السابقة؟ كلما عاملها شانور بكرمٍ ومكانة لم تحلم بها، كانت الدهشة تشتعل في صدرها من جديد.
لطالما كتمت سؤالها، فلم تكن تجرؤ على التشكيك في نوايا من يمدّها بالعطف. لكن حين منحها حق وراثة العرش، لم تعد قادرة على الصمت.
“لأنك أنتِ.”
أجاب شانور بلا تردد. كان ذلك الجواب الوحيد الممكن بالنسبة له.
“لأنك أنتِ… لذلك أريد أن أحسن إليك، ولا أكفّ عن التفكير بك.”
أردف في نفسه ما لم يستطع قوله: “وأضمك بين ذراعي.” لكنه ابتلع العبارة قبل أن تفلت من شفتيه.
غير أن جوابه، رغم وضوحه، لم يكن كافيًا لبيلوني.
“هل أنا شخص مميز لديك فعلًا؟ أم أنّه لو كانت امرأة أخرى في مكاني… لكنت فعلت الأمر نفسه معها؟”
“لا. مستحيل.”
قالها شانور بلا تفكير، يهز رأسه بنفيٍ قاطع.
فلو أن امرأة غير بيلوني عرضت عليه بهذه الطريقة الوقحة أن يهبها طهره، لكان قطع عنقها بلا تردد.
لكنه قبل ذلك العرض، وصدّقه، فقط لأنها “بيلوني”.
“الأمر كما قلت… لأنك أنتِ.”
همست بيلوني وكأنها تكلم نفسها:
“…وما الذي يجعلني أنا؟”
ففي حياتها السابقة، لم تكن يومًا إنسانةً ذات قيمة عند أحد. صحيح أن “مارينا” كانت بجانبها، لكن ذلك وحده لم يكن كافيًا.
أما عائلتها التي أفنت روحها في حمايتهم، فلم يقابلوها إلا بالتجاهل والخيانة، حتى أوردوها إلى الموت.
خمس سنوات كاملة من العذاب كانت كافية لتمزّق كيانها وتفتت إنسانيتها.
“بيلوني.”
نطق شانور باسمها وقد أدرك أخيرًا ما يدور في ذهنها، ثم مدّ يده فجأة وأمسك بيدها، ليضعها فوق وجهه.
ارتعشت حين شعرت بأطراف أصابعها تلمس برودة القناع المعدني على وجنتيه، لتعود بصرها إلى التركيز بعد أن كانت غارقة في شرودها.
قال بصوتٍ هادئ حازم:
“أنا لست إنسانًا طيبًا. لستُ محسنًا، بل عقلانيٌّ وقاسٍ.”
كان يصف نفسه بصدقٍ جارح، بلا أدنى محاولة لتجميل صورته.
فهو لم يغفر يومًا لخادمٍ خانه، ولم يتردد لحظة في إسقاط سيوفه على فرسان الأعداء.
ولم يكن كل ذلك نتيجة طفولةٍ بائسة أو معاناةٍ ماضية؛ صحيح أنه كبر بلا والدين، لكنه لم ينشأ محرومًا أو منكوبًا، وباستثناء اللعنة التي وُلد بها، لم يكن في حياته أزمة عظمى.
لقد وُلد ببساطة على هذه الصورة: حادًّا، صارمًا، لا يعبأ بنظرة الناس، يفعل ما يراه صوابًا بغير مواربة.
ثم نظر إليها وسأل:
“أمثل هذا الرجل… هل يمكن أن يمنحك كل هذا بلا سبب، بلا هدف؟”
أجابت بصوتٍ ثابت:
“لا.”
أمالت بيلوني رأسها نافية كأنها مسحورة.
خلال شهرين من مراقبتها لشانور، تأكدت أنه لم يكن أبدًا من ذلك النوع من الرجال.
لكن المشكلة أنها لم تستطع أن تعرف السبب، ولا الغاية الحقيقية وراء ما يفعله.
وكأن ارتجاف أصابعها فوق قناعه كان يعكس اضطرابها الداخلي.
فجأة أمسك شانور بيدها، وجعلها تحيط بخده كما لو كان يريدها أن تثبت هناك.
حين شعرت ببرودة القناع تحت راحتها، ابتلعت ريقها بصعوبة.
قال بصوت خافت، وهو يميل برأسه قليلًا حتى لامست شفتاه كفها:
“فكّري جيدًا… فأنتِ ذكية.”
كانت شفتاه حارّة بشكل يثير الذهول، كأنها نار تذيب جليد القناع، وقد طبع قبلة ثقيلة على كفها كأنها ختم لا يُمحى.
ذلك التناقض بين برودة القناع وحرارة الشفاه جعل بيلوني تطلق أنفاسًا متقطعة لم تتحكم فيها.
وخلال ذلك، كان شانور يثبت بصره على رموشها المرتجفة.
قال بهدوء:
“عندما تترتّب أفكارك… أخبريني بما توصلتِ إليه.”
كان يريد أن يسمع منها.
هل ستصيب في ظنونه، أم ستأتي بإجابة لم يتوقعها؟
“سأنتظرك.”
ثم أضاف في نفسه:
وسأنتظر أيضًا متى ستدركين مشاعري.
“وأتطلّع لذلك.”
كلما تحركت شفتاه بالكلام، شعرت بيلوني بدغدغة في راحتها، حتى اضطرت لابتلاع ريقها مرارًا.
كانت تعلم أنه إن سحبت يدها فستنتهي تلك الدغدغة، لكنها لم تقوَ على الحركة.
فاكتفت بأن تهز رأسها سريعًا كي تجعله يتوقف عن الكلام.
“سأفعل… سأفكر في الأمر.”
أجابت بارتباك، وقد احمرّ خداها.
وتمنى شانور بكل قلبه أن يكون ذلك الاحمرار بسببه لا بسبب أثر الشراب.
✦✦✦
رمشت بعيني في شرود.
في كل مرة كنت أفتحها، كان السقف الباهت يظهر وسط العتمة ثم يختفي.
مع كل نفسٍ أطلقته، كان عطر النبيذ الفاكهي العذب يملأ أنفي.
(كم شربتُ يا ترى؟)
كنت قد احتسيت عدة زجاجات مع شانور.
بقينا جالسين طويلًا، ومع كل كأس كان الإحساس بالدوار يزداد، وكنت أبرر لنفسي أنني فقط أتجاوز محنة حفل الزواج، فواصلت الشرب بلا حساب.
وحين غلبني النعاس انسحبت إلى السرير، وما هي إلا لحظات حتى أحسست بالفراغ بجانبي ينضغط وكأن جسدًا ضخمًا استقر قربًا مني.
“…سيدي.”
فجاء صوته مجيبًا:
“عندما يسكر المرء، أليس من المعتاد أن ينادي بالاسم؟”
كما توقعت… لم يكن نائمًا.
(صحيح، هكذا يجب أن يكون…)
صرنا في مقامٍ يسمح لي بمناداته باسمه…
ابتسمتُ بهدوء، وقلت:
“لكنني أفضل أن أناديك بـ (سيدي).”
“لماذا؟ أتكرهين مناداة اسمي؟”
“ليس كذلك… لكن لقب (سيدي) يليق بك أكثر.”
فصوته الحازم ونبرته الجافة، الممزوجة بشيء من العجرفة، لم يكن فيها تفاخر أجوف، بل قوة طبيعية تليق به.
مظهره الأخّاذ، وبنيته المهيبة، وعينيه نصف المغمضتين… كان شانور أميرًا بكل معنى الكلمة.
لذلك، كان لقب (سيدي) ينسجم معه بشكل يبعث القشعريرة.
ابتسم قليلًا وقال:
“وأنتِ أيضًا… اسم بيلوني يليق بك جدًا.”
“حقًا؟”
لم أكن فكرت في ذلك من قبل، فأملت رأسي باهتمام.
“عندما يُنطق اسمك، على الشفاه أن تنغلق برفق… وهذا يشبهك كثيرًا.”
لم أكن قد لاحظت ذلك من قبل، فأخذت أردد اسمي همسًا وكأنني أجربه لأول مرة. وكان كلامه صحيحًا.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات