سرعان ما اقترب وقع الأقدام، وانفتح الباب قليلاً.
ظهرت الوصيفة التي لا تفارق جانب سيدتها، ثم دفعت الباب على مصراعيه.
التفتت السيدة التي كانت محاطة بالناس برأسها نحو الداخل.
ارتفع شعرها المموج بعناية، كاشفاً عن عنقها الأبيض الناصع.
وتحت حاجبين مرسومين في قوس مستدير، بدت عيناها ألين من المعتاد ذلك اليوم، فيما ازدادت أنفها البارز وشفاهها الممتلئة جمالاً ووضوحاً.
كان فستانها بلون الكريم الفاتح، مشابهاً لملابس شانور، في ظاهره مجرد فستان زفاف جميل وبسيط.
غير أنّ أطراف تنورته قد زُيّنت بأزهار حقيقية، مانحةً إياه هالةً فريدة.
إنها الأزهار ذاتها التي ملأت أرجاء الممر.
زهور بنفسجية تفوح منها رائحة عميقة تكاد تسكر الحواس.
وبينها وقفت السيدة، من دون منازع، أجمل عروس في أرجاء الإمبراطورية.
في اللحظة التي وقعت فيها عينا ميشيل عليها، أقرّ في داخله:
نعم… إنّها بحق المرأة الوحيدة الجديرة بأن تكون رفيقة سيّده.
“شانور.”
نادته بيلوني بصوت كأنّه مشبع بعطر الزهور.
كان من العسير أكثر من أي يومٍ مضى أن يُزيح نظره عنها، فحبس شانور إعجابه في صدره.
ثم مدّ إليها باقة الزهور التي كان يحملها بين ذراعيه.
“كل ما ترتدينه اليوم يليق بك أيما لياقة.”
لم تكن كلماته: “أنتِ الأجمل في العالم” أو “أنتِ رائعة هذا اليوم.”
لم تكن تصريحاً مباشراً، ومع ذلك، ابتسمت بيلوني ابتسامة خجولة.
“وأنت أيضاً، يا شانور.”
أجابت بإخلاص.
وما إن نظرت إلى وجهه، حتى أيقنت أنّ هذا الزواج سيظل محفوراً في ذاكرة الناس زمناً طويلاً.
(ترى… هل سيُذكر هو كأجمل عريس في العالم؟)
وبينما كانت غافلة عن إدراك وسامته الفائقة، خطرت في بالها هذه الفكرة، فإذا بكفٍ متصلّب مكسوّ بالندوب يمتد نحوها.
رفعت رأسها، فوجدت شانور يبتسم ابتسامة رقيقة وهو يحدّق بها.
بادلت ابتسامته، ووضعت يدها فوق راحة يده.
لم يكن مستعجلاً، لكنه ما إن قبض على يدها حتى أمسك بها بإحكام.
ومن شدّة تماس أصابعه الخشنة، أحسّت أنّه لن يُفلتها مهما حدث.
ذلك اليقين، وذلك الأمان، ملأ قلبها بالرضا.
ولهذا سلّمت بيلوني يدها بين يديه عن طيب خاطر.
لم تمضِ ساعتان على انتهاء مراسم الزواج، حتى صدر العدد الجديد من “فضائح المجتمع الراقي”.
وبما أنّ حفل الزفاف لم يكن متاحاً للجميع، ظلّ من لم يحضره يترقّب المجلة بلهفة تكاد تقتلهم انتظاراً.
وما إن نُشرت حتى اندفع الناس إلى اقتنائها وقراءتها فوراً.
أول ما استوقف أنظارهم كان رسماً توضيحياً يملأ صفحة كاملة بخلاف المعتاد.
إنّه مشهد من الزفاف، مرسوم بعناية بالغة وتفاصيل دقيقة، حتى كاد يبدو حيّاً.
غير أنّ كل ذلك تلاشى أمام أعينهم، إذ لم تقع أنظارهم سوى على بطلي الحفل.
كانا يرتديان اللون نفسه، لكن فستان الدوقة كان يزهو من أسفل بأزهار بنفسجية متفتّحة.
تصميم لم يسبق أن رآه أحد من قبل، ومع ذلك بدا كأنّه خُلق لأجل العروس.
أما سرّ تفرّد هذا الرسم، فهو أنّه ـــ وللمرة الأولى ـــ قد صُوّر فيه وجه الدوق بوضوح.
وجه لم يطمسه سحر جمال العروس الفريد ولا فستانها غير المسبوق.
ظلّ الناس مأخوذين طويلاً بملامحهما المتبادلة الابتسام، حتى كادوا ينسون متابعة القراءة.
لقد تمّ أخيراً ذلك الزفاف الذي شغل أرجاء الإمبراطورية منذ شهرين كاملين، وتمّ بنجاح باهر.
أما بطلَا الحفل نفسيهما، فقد جلسا منهكين.
بعد أن أزيلا كل ما أثقلهما من زينة وأناقة، بدا عليهما الارتياح.
لقد أُنهكا بيومٍ طويل، فجلسا على الأريكة يلتقطان أنفاسهما.
“حقاً… هل انتهى كل شيء؟”
تساءلت بيلوني وهي تحدّق في الفراغ.
وعلى خلافها، كان شانور ما يزال جالسًا بظهر مستقيم، لكنه شعر منذ زمن طويل، ولأول مرة، أن قواه قد خارت.
“انتهى حقًا.”
تنفّست بيلوني زفرة ارتياح.
“الزواج… لا أظن أنّه شيء يمكن للمرء أن يفعله مرة أخرى.”
“أتفق معك.”
لم يكد يوافقها بصدق حتى التفت فجأة نحوها بدهشة.
ألا تعني كلماتها أنها، حتى لو افترقا، فلن تفكر في الزواج مجددًا؟
في الحقيقة، كان في قولها شيء من التناقض.
فهما في الأصل ليسا زوجين حقيقيين. أقاما حفل زفاف، نعم، لكن تسميته بزواج حقيقي أمر فيه إشكال.
ومع ذلك، لمجرّد أن بيلوني لن تعيد الكرّة، شعر شانور أن ثقل جسده يزول فجأة وكأنه أصبح خفيفًا.
تأمّل شانور الغرفة من حوله. كانا الآن في الجناح الذي يخصّ الدوق وزوجته.
وبعد لحظة قصيرة من الارتباك فرضها “ليلة الزفاف الأولى” عديمة المعنى، كان الإرهاق قد أسقطهما جنبًا إلى جنب.
“ألستِ جائعة؟”
“لقد اعتنيتَ بي جيدًا قبل قليل، ولذا لا أشعر بالجوع.”
كان حفل الاستقبال أكثر إنهاكًا بأضعاف من مراسم الزواج نفسها.
فقد انقطعت بيلوني طويلاً عن المجتمع ولم تلتقِ أحدًا، فيما كان شانور قد أنهى لتوّه خمس سنوات من العزلة.
لهذا السبب، اندفع المدعوّون نحوهم في الاستقبال كما لو كانت فرصتهم الأخيرة، فاستنزفوا وقتهم وجهدهم بمجرد تبادل التحيات.
ولحسن الحظ، كان أغلبهم يراقبون مزاج شانور غير الاجتماعي، فلم يجرؤوا على التمادي.
وكان شانور، كلما رأى بيلوني محاطة بالناس، ينتشلها بهدوء ليأخذها إلى الشرفة، حيث يقدّم لها كأسًا من شراب الفاكهة أو بعض المقبلات الخفيفة.
وكانت تلك اللحظات القصيرة بمثابة استراحة ذهبية لبيلوني المنهكة من المجاملات.
“إذن… ما رأيك بكأس خفيف من الشراب؟”
“فكرة جميلة.”
بلّت بيلوني شفتيها وهي تستعيد طعم شراب الفاكهة الحلو.
سكب شانور بعضًا منه في الكأس ومدّه إليها.
وحين ارتشفت مبتسمة، تلاقت الكؤوس في صوت رنّان صافٍ.
“فلنجعل أيامنا القادمة طيبة يا شانور.”
“أعتمد عليكِ، يا زوجتي.”
ضحكت بيلوني بخفة عند الكلمة التي بدت محرجة.
أحسّ شانور بالارتياح إذ لم تنفر من اللقب، بينما هي كانت تخفي ارتباكها، مطمئنة لأنه لم يلحظ اضطراب قلبها المتسارع.
(زوجتي…!)
كرّرت الكلمة في داخلها، بينما كانت ترفع الكأس إلى شفتيها.
وقبل أن ينساب الشراب عبر حلقها، شعرت بوجهها يحترق حمرة.
“بالمناسبة، هل أعجبكِ هديّة جلالته؟”
في اللحظة ذاتها، شدّت بيلوني على كأسها بقوة.
فقط تذكّر الأمر كان يثقل صدرها حتى شعرت بالدوار.
“حتى وإن كان ثمن اجتياز الامتحان… فهي هدية مبالغ بها حقًا.”
خلال حفل الاستقبال، بدا أن الكثيرين يتحيّنون الفرصة للحديث مع بيلوني.
والسبب لم يكن فقط أنها أصبحت دوقة راينهارت، بل لأمر أعظم.
“هل تدرك كم صُدمتُ حين منحني حق وراثة العرش؟”
فقط بمجرد التذكّر، شعرت كأن قلبها سيتفجّر.
ففي ختام الحفل، حين خرج الإمبراطور ليلقي كلمته أمام الدوق وزوجته، أعلن فجأة أنّ بيلوني، دوقة راينهارت، تمتلك حق وراثة العرش.
وبحسب قوانين الإمبراطورية، فإنّ من يتزوج وريثًا للعرش يحصل تلقائيًا على الحق نفسه.
لكن المشكلة أنّ شانور كان قد تخلّى منذ زمن عن حقه في الوراثة.
ومع ذلك، اعترف الإمبراطور لبيلوني بهذا الحق، مما يعني ضمنيًا أنّ شانور، بصفته زوجها، صار بدوره محاطًا بظلّ ذلك الحق.
“كنتَ تعلم بالأمر، أليس كذلك؟”
تيقّنت بيلوني من ذلك، لأنها لاحظت أنّ الوحيدين اللذين لم يبدُ عليهما الاندهاش هما وليّ العهد وشانور.
“علمت به قبل بدء الحفل بلحظات… لكنني لم أرَ فيه أمرًا سيئًا.”
وأدار شانور بصره متجنبًا نظراتها الغاضبة.
أن تصبح وريثة للعرش أمر مربك بلا شك، لكنه في الوقت نفسه كان ضرورة بالنسبة إليها.
فهي في النهاية خصم معلن للأمير الثالث وللإمبراطورة، ولم يكن أمامها سوى أن تمتلك السلطة لتحمي نفسها.
أما شانور، فلم يشأ أن تكون بيلوني نقطة ضعفه.
لم يرد لها أن تعيش مختبئة أو منكمشة في الظلال بسبب ارتباطها به.
أراد لها أن تسير في الحياة مرفوعة الرأس، تفعل ما تشاء بحرية.
“بامتلاكك حق الوراثة، ستصبحين أكثر أمنًا، وسيكون لكِ القدرة على حماية نفسك.”
لم يخطر ذلك لبيلوني من قبل، فأصلحت جلستها وأصغت إليه بكل انتباه.
فتلطّف وجه شانور، وأخفض نظره متحدثًا بصوت متهدّج.
“وحتى إن حدث لي مكروه خلال مدّة العقد… فسيكون ذلك الحق درعًا يحميكِ.”
تجمّدت بيلوني في مكانها.
لم يكن حصوله على حق الوراثة مجرّد تقوية لسلطتها.
لقد فعل ذلك ليمهّد لها درعًا يحميها يوم يفارقها.
تحركت شفتاها لكنها لم تجد ما تقول.
تشتّتت أفكارها في دوّامة متناقضة.
غضب وسخط يتداخلان مع امتنان غامر.
الانستغرام: zh_hima14
التعليقات