نعم، ما زال غير متأكد مما إذا كانت مشاعره مجرد شفقة… أم شيئًا آخر نابعًا منها.
هذا النوع من المشاعر الغامضة لن يكون نافعًا لسيسيليا.
نظر تيزيت إلى يورغن المنحني الرأس، وعض على أسنانه. لم يرد على التحذير بعدم الطمع بها.
كل ما فعله هو أنه أوضح بأنه سيتراجع مؤقتًا.
“غادر الآن، يورغن.”
“نعم، يا سيدي.”
تلاشت خطوات يورغن تدريجيًا في البعيد.
صرّ تيزيت على أسنانه وهو يحدق في باب الصالة المغلق بإحكام. كان القلق الخانق يعتصر صدره.
كان الوضع أفضل عندما كان يتحرك بدافع وحيد: أن يصبح الإمبراطور، أن يستعيد مكانته المستحقة.
وقد أصبح الإمبراطور الذي طالما أراد أن يكونه.
نظر تيزيت إلى يديه.
لماذا يشعر وكأنه لم يحصل على شيء؟
تذكر ذلك اليوم… يوم جاء فيه الشتاء.
كانت أصابعه متجمدة من البرد، متيبسة بالكامل، وراح الدم يتسرب من راحتيه الممزقتين. أظافره سوداء وقذرة مليئة بالتراب.
“خذ يدي وتعال معي.”
أمسكت سيسيليا بيده دون تردد.
“هذا الطريق يتجمد لأن السيد أحيانًا يسكب عليه ماءً ساخنًا.”
“لا تنظر إليه هكذا—إنه ليس شخصًا سيئًا. يفعل ذلك لأن الطريق يصبح زلقًا، فيقع الأطفال. صحيح أن النتيجة ليست جيدة، لكنه يقصد الخير.”
ماذا قالت بعد ذلك؟
غارقًا في التفكير، نظر تيزيت حول القصر.
كان من الغريب أن أكثر الأماكن أمنًا ونُبلًا في جنيفيا شعرت بأنها أسوأ من الشوارع.
لم يكن هناك مزيد من الثلج المتساقط، ولا خوف من الانزلاق. لكنه تمنى لو أنها تمسك بيده مجددًا… كما فعلت حينها.
“لم أكن أرغب بالذهاب إلى الحفل.”
ماذا سيقول خبر الغد هذه المرة؟ لقد طلب من الطفل الذي التقى به أن يجلب له الجريدة بشكل منتظم لمدة شهر واحد فقط. ربما ما كان عليه أن يفعل ذلك.
دونغ—دونغ—
رنّ صوت الساعة في أرجاء الغرفة. نظرت سيسيليا إلى الساعة الموضوعة في زاوية الصالة. لم يتبق الكثير من الوقت قبل بدء الحفل.
كان هذا أول حفل يُقام منذ صعود تيزيت إلى العرش. لم ترغب في إفساده بوجودها.
ضحكت سيسيليا بخفة.
“ألم يكن قد فُسد بالفعل منذ اللحظة التي ارتديتُ فيها هذا الفستان؟”
ومع ذلك، ها هي تفكر بأنها لا تريد أن تفسده. فكرة سخيفة.
انحنت سيسيليا وخلعت حذاءها وجواربها، ثم وضعتهما جانبًا. ولامست قدماها السجادة الناعمة.
كانت آثار التثليج تملأ قدميها، وكان ظفر إصبع قدمها الكبير مفقودًا. لم يكن منظرًا جميلاً.
لقد أصيبت بالتثليج مرات عديدة خلال سنوات تجوالها في الشوارع، فأصبحت الجروح ندوبًا دائمة.
بدأت تفك أزرار زيها، زرًا تلو الآخر. سقط المعطف الخارجي على الأرض، وتبعه القميص الأبيض.
كان هناك جرح صغير لكن طويل بين رقبتها وكتفها.
كانت في الرابعة من عمرها آنذاك. وهو جرح سببته زجاجة خمر رماها والدها المخمور.
ظنت أنه سيزول سريعًا لأنها كانت صغيرة. لكن حتى بعد أن تلاشت كل ندوب الحرب، بقيت ندوب والدها راسخة.
فكت سيسيليا شعرها المشدود بإحكام، فانسكبت خصلاتها البنية الطويلة على بشرتها الشاحبة.
وبعد أن خلعت سروالها، وقفت أمام الفستان. مدت يدها النحيلة نحو أزرار الفستان المثبّت على الحاملة.
أدخلت ساقيها في الثوب. انسابت عليهما القماشة الناعمة. كان نسيجه الحريري والناعم شيئًا رغبت في دفن وجهها فيه.
رفعت الفستان إلى كتفيها، وثبّتته بيديها، وانتظرت. طق—فُتح الباب.
هبّت نسمة باردة إلى الداخل. لم تكن بحاجة إلى الالتفات لتعرف من هناك. لم يكن هناك من قد يدخل دون أن يطرق الباب.
“هل يمكنك أن تغلق الأزرار من الخلف؟”
لم يأتها رد. لكن صوت خطوات تقترب على الأرض جذب انتباهها. يد دافئة لامست الأزرار عند خصرها.
“هل سترفعين شعرك؟”
“لا. هناك ندبة على كتفي.”
“وأنا كذلك. مجرد ندبة. يجب أن ترفعيه… سيبدو أجمل هكذا.”
جمع تيزيت شعر سيسيليا برفق. وظهر كتفها الشاحب الشفاف.
كانت هناك ندبة، غير مستوية، بلحم جديد، قبيحة المظهر.
“لكن لا توجد سيدة واحدة مدعوّة اليوم تملك مثل هذه الندوب. ولا أقدامًا متجمدة، أو أياديًا مملوءة بالجلد الخشن.”
“……”
“رأيت الشابات وهن ينزلن من العربات قبل أن آتي. كلهن كن جميلات. ورأيت حينها أن بعض الأماكن لها شروط مسبقة.”
“……”
“…جلالتك، أتساءل، ماذا ستقول الصحف عني مجددًا صباح الغد؟”
كل كلمة قالتها، وإن بدت مبعثرة، كانت تحمل سببًا. أسبابًا كثيرة لِمَ لا ينبغي أن تقف إلى جانب تيزيت.
استدارت سيسيليا نحوه.
ظنت أنه سيغضب من غرورها.
هذا ما كانت تأمله. فقط… اغضب.
بيننا—
“…هل أنا عبء عليك؟”
نبضة خفيفة دقّت في صدرها.
نظرة تيزيت كانت أعمق من تلك الليلة التي كذبت فيها، حين قالت إنها لا تحبه بما يكفي لتتحمل كل شيء.
“إذًا، ما كان عليك أن تلتقطني في ذلك الشتاء.”
مدّ يده، ووضعها على خدها. ظل صامتًا لوقت طويل، كأنه غارق في التفكير.
ما الذي تفكر فيه الآن؟
“هل أنا عبء عليك؟”
أخفضت سيسيليا نظرتها. كان عليها أن تتظاهر بأنها لم تسمع كلماته الأخيرة، التي تمتم بها برقة.
“سأستدعي وصيفة. أكملي ارتداء الفستان وتعالي.”
ما إن خرج تيزيت وأُغلق الباب، حتى راحت سيسيليا، المرتجفة، تفتش جيوب زيها.
أخرجت علبة بيضاء، أخذت منها حبّة بنفسجية، وابتلعتها. كان التنفس صعبًا. أخذ وجهها يتلوّى تدريجيًا.
“أم أن منزلتي… ثقيلة عليك؟”
لماذا أجعلك تحمل العبء الذي حملته وحدي طيلة حياتي؟
—
أمام أبواب القاعة المركزية في الطابق الثاني، توقفت خطوات تيزيت وسيسيليا.
رفعت سيسيليا شعرها، وزيّنته بزينة لؤلؤية صغيرة، بينما ارتدى تيزيت الزي الأحمر الرسمي، الذي يرمز لجنيفيا، والمطرز بزخارف ذهبية فاخرة.
وقف يورغن خلفهما، يراقبهما. كانا يبدوان ثنائيًا مناسبًا للغاية، لدرجة أنه خفض بصره بدلًا من النظر إليهما.
“افتحوا الأبواب.”
تم بناء القاعة المركزية لقصر دايفي على طابقين. فُتحت الأبواب الكبرى التي تربط الطابقين الأول والثاني.
وكان أول ما يُرى هو الثريا الضخمة. كانت الأضواء المتدلية من أغصانها المتشعبة تلمع ببريق فخم.
ومع صوت المُعلِن المرتفع وهو يعلن دخول تيزيت وسيسيليا، أتجهّت جميع الأنظار نحوهما.
بعضهم بدا مصدومًا، وآخرون أظهروا بوضوح شعورًا بعدم الارتياح لرؤية سيسيليا بجانب تيزيت.
لكنهم سرعان ما تمالكوا تعابيرهم. كان ذلك دليلًا على نبل الأرستقراطيين الذين صمدوا خلال سنوات الاستبداد والحرب الأهلية.
انتشرت أنغام البيانو الناعمة والمزخرفة، وانضمت إليها الكمان، إيذانًا ببدء الحفل.
بكؤوس الكوكتيل في أيديهم، تبادل النبلاء التحيات القصيرة قبل أن ينغمسوا في أحاديث عن المشاريع التجارية أو مفاوضات رعاية الفنون.
لكن النظرات الخفية كانت تتسلل نحو تيزيت. كانت معركة إرادات حادة تدور خلف الهدوء الظاهري.
كيف يمكن الاقتراب من جلالة الإمبراطور؟ ومتى سيكون الوقت المناسب لتقديم ابنتي له؟
كأن أصوات التروس وهي تدور في عقولهم كانت مسموعة.
مرهقة على نحو مفاجئ، رغبت سيسيليا في الخروج إلى الشرفة.
“إنه لشرف كبير أن أكون في حضرة شمس جنيفيا، جلالة الإمبراطور.”
عند سماع صوت رجل في منتصف العمر بنبرة مرحة، التفت تيزيت وسيسيليا برأسيهما.
“دوق راينر.”
“شكرًا على الدعوة. إنه لشرف، يا جلالتك.”
“لا بد أن الرحلة كانت طويلة. شكرًا لحضورك، دوق راينر.”
“بالطبع كان علي الحضور. كنت سأُصاب بخيبة أمل إن لم تدعُني.”
ابتسم الدوق راينر لتيزيت بود، ثم مازحه بلطف. وسرعان ما توجهت عيناه إلى سيسيليا.
“لقد مضى وقت طويل، آنسة سيسيليا.”
كان دوق راينر أحد النبلاء الذين دعموا انقلاب تيزيت. فقد زوّده بالسلاح والمؤن التي كان يفتقر إليها، وفي يوم الانقلاب، فتح بوابة الحديقة الشمالية.
ورغم خدمته العظيمة، أعرب عن رغبته في قضاء بقية حياته في ريف بعيد بعد تتويج تيزيت.
وكان السبب مرض زوجته، داين.
الدوقة، التي كانت تعاني من مشكلات في التنفس منذ الطفولة، لم تستطع التأقلم مع المدينة التي كانت تمرّ بمرحلة تصنيع سريع.
“نعم، مضى وقت طويل. كيف حال زوجتك؟”
“شكرًا على سؤالك. داين أصبحت أفضل بكثير. باتت قادرة على الخروج في نزهات قصيرة، لذا لا داعي للقلق. آه، كان هناك خطاب أرادت أن أُعطيكِ إياه، لكنني نسيته.”
من خلال الابتسامة المرحة على وجه دوق راينر، فهمت سيسيليا مقصده على الفور.
“هل نسيته حقًا؟”
“همم، لقد أحضرتُ شايًا فاخرًا بدلًا منه، كما ترين.”
عند إشارته إلى احتساء الشاي معًا، ردّت سيسيليا بابتسامة مشرقة. فقد كانت زوجة دوق راينر من سلالة نبيلة سابقة سقطت بفعل مزاج الإمبراطور المخلوع.
وقد نجت بالكاد من الخراب بسبب زواجها من الدوق.
لكن سقوط أسرتها منح النبلاء الذين يكرهون راينر ذريعة سهلة لمهاجمته.
وربما لهذا السبب، بدا أن الدوق يكنّ اهتمامًا بسيسيليا أكثر حتى من تيزيت. قال ذات مرة إن رؤيتها تذكّره بزوجته حين كانت تعاني في شبابها.
“سأجلب أيضًا بعض المعجّنات الرائجة من العاصمة.”
“رائع. داين لا تسمح لي بتناول ما يكفي من الحلويات.”
وبينما استمر الحديث الودي بين الاثنين، ضاقت عينا تيزيت.
الانستغرام: zh_hima14
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 11"