دخل لوسيوس إلى متجر التحف.
كان داخل المتجر، الذي تسربت إليه أشعة الشمس الدافئة، هادئًا وسلميًا.
عندما كان يسير نحو الطاولة، غير مساره باتجاه الرفوف.
جلجلة
صدر صوت و كأن الرف قد صُدم، و كانت التحف المعروضة عليه تهتز.
توجه نظر لوسيوس نحو امرأتين واقفتين أمامه.
من مظهرهما، بدت إحداهما خادمة والأخرى السيدة التي تخدمها.
كانت الخادمة تضع وشاحًا على وجه السيدة.
لكن مهما نظر المرء، لم يكن ذلك وشاحًا بل مفرش طاولة.
بينما كان لوسيوس يراقب بهدوء، قامت الخادمة بتغطية وجه السيدة بالكامل بمفرش الطاولة.
“…….”
وقف لوسيوس بجانبهما.
‘كنتُ أشعر بنظرات طوال الوقت.’
وعندما ذهب إلى مصدر تلك النظرات، وجد امرأتين تتصرفان بشكل مريب للغاية.
تظاهر لوسيوس بأنه يتفقد المعروضات، و ركز سمعه.
“أ…أنا….أختنق…!”
“تحمّلي. تبدين جميلة. يناسبكِ تمامًا.”
أثناء استماعه لحديثهما المريب، التقط لوسيوس شمعدانًا.
في تلك اللحظة، تصلبت الخادمة فجأة بحذر.
‘لا تبدو خادمة عادية.’
شعر لوسيوس بنظراتها تتفقد الشمعدان في يده، والسيف عند خصره.
رغم أن ملابسه تخفيه، نظرت إلى كاحله حيث يُخفي خنجره دائمًا.
كانت تفحص كل موضع قد يُخفى فيه سلاح، و كأنها متدربة على ذلك.
وضع لوسيوس الشمعدان على الرف مجددًا، و اصطدم به بمرفقه متعمدًا وكأنه خطأ.
سقط الشمعدان الثقيل على الأرض محدثًا صوتًا عاليًا، فارتجف كتفا السيدة التي غطت وجهها بمفرش الطاولة.
“أعتذر.”
قال لوسيوس وهو يلتقط الشمعدان عن قدميها.
“لابد انكما تفاجأتما من إهمالي.”
بعد أن أعاد الشمعدان إلى الرف بشكل سليم، نظر إلى السيدة.
“هل أنتِ بخير؟”
“…….”
كانت راينا ، السيدة التي تغطي وجهها بمفرش الطاولة محرجة للغاية.
‘هل تسأل حقًا إن كنتُ بخير؟’
بينما تضع مفرش طاولة على وجهها، ألا تبدو كمن ليس بخير على الإطلاق؟
‘ليته اعتبرني مجنونة ومضى في طريقه.’
لكن ربما بدت مريبة جدًا، فأثارت فضوله.
‘ماذا أفعل؟’
شعرت راينا بالحرج أكثر، وازداد ضيق تنفسها.
“هاه-هاه….”
مع كل نفس يائس تأخذه، كان المفرش يدخل إلى فمها ويخرج مجددًا.
‘كارثة.’
شعرت مايا بذلك.
فـراينا، التي كانت تغطي وجهها بمفرش الطاولة وتتنفس بصعوبة، بدت وكأنها على وشك أن تُعتقل من قبل دورية في الحال، لشدة ريبتها.
“أ-أنا…”
تمكنت راينا بصعوبة من التحدث.
“أنا بخير.”
أجابت مصرة دون أن تزيل المفرش، فعمّ الصمت الثقيل بينهما.
بينما كان فم راينا يجف شيئًا فشيئًا، فتح لوسيوس فمه مجددًا.
“تبدين غير مرتاحة.”
“…….”
“هل تحتاجين إلى المساعدة؟”
لم يتراجع لوسيوس بسهولة.
من الواضح أنه كان يريد رؤية وجهها.
بدأت راينا تشعر بالضيق.
بما أنها لا تستطيع رؤية تعابير وجهه، لم تستطع أن تميز إن كان يختبرها أو فقط يعرض المساعدة بلطف.
‘إن كان لوسيوس قد جاء فعلاً بحثًا عني…’
رغم الارتباك، كان عليها أن تتصرف حسب خطتها.
‘وإن لم يكن…’
فقد تركت انطباعًا أوليًا كارثيًا.
قررت راينا أن تمسك بالمفرش و تبعده.
وأخيرًا، كُشف وجهها.
كان شعرها الفضي الجميل اشعثًا للغاية، وخداها محمران من صعوبة التنفس.
كانت راينا تعلم أنها في حالة يرثى لها، حتى دون النظر في المرآة، لكنها أجبرت نفسها على الابتسام.
“أنا حقًا بخـ، هق.”
ما إن التقت عيناها بعيني لوسيوس، حتى أصابها الفواق.
كان لوسيوس ينظر إليها بثبات وبخطوط حادة في جبينه، مما بث فيها الرعب.
تحت نظرته الثاقبة، لم تستطع راينا أن تتحرك.
ثم بدأت عيناه الذهبيتان، الهادئتان والمضيئتان، تُظهران اضطرابًا لأول مرة.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك.
بل حتى تراجع لوسيوس خطوة نصفية إلى الخلف.
‘ما هذا؟’
في تلك اللحظة…
“كنتما هنا.”
ظهر البائع كمنقذ.
أشرقت راينا، لكنها اتسعت عيناها وهي ترى القارورتين الزجاجيتين في يده.
كانت مندهشة لدرجة أن فواقها توقف.
فالأغراض التي طلبتها لإخفاء كاليكس كانت أمام أعين لوسيوس.
رغم أن الأجسام كانت مغطاة بقماش، ولم يكن من الممكن رؤية ما بداخلها، إلا أن قلب راينا كان يخفق بقوة وكأنه سيقفز من صدرها.
“لقد تم دفع الثمن بالفعل…”
لم تدع راينا الموظف يُكمل حديثه، فخَطفت القارورتين الزجاجيتين بكلتا يديها بسرعة.
“حسنًا، إلى اللقاء.”
مرّت راينا بجانب لوسيوس برفقة مايا.
راقب لوسيوس بنظره ظهرها وهي تسرع بالخروج من المتجر.
وقبل أن يخطو خطوة، تلوّنت عيناه بانزعاج.
اجتاحه صداع حاد بشكل مفاجئ، فلم يتمكن من فتح عينيه جيدًا.
غطى لوسيوس عينيه بيده و أخذ نفسًا عميقًا.
“يا سمو الدوق؟”
نظر إليه الموظف بوجه مستغرب.
“… الغرض.”
فتح لوسيوس فمه بصوت منخفض وخافت، وهو يبعد يده عن عينيه.
سارع الموظف بتلمّس جيب صدره.
كان لوسيوس زبونًا على علاقة طويلة بالسيد.
دائمًا ما كان يطلب الشيء نفسه، ودائمًا ما كان يعود خالي الوفاض.
لكن اليوم كان مختلفًا، لذا بدا صوت الموظف فيه شيء من الحماسة.
“لم نجد ما طلبتموه، لكن قيل إن هذا قد يفيدك.”
ناول الموظف لوسيوس ظرف رسالة.
أخذ لوسيوس الظرف ووضعه في صدره.
“بلّغه أن يواصل البحث عن الغرض.”
“حسنا.”
خرج لوسيوس من متجر التحف، فما إن فعل حتى وقف بجانبه رجل بدا وكأنه كان بانتظاره.
“يا سيدي.”
الرجل ذو الرداء المقنع كان سيريل، اليد اليمنى للوسيوس.
“هل وجدت الغرض؟”
“……”
“سيدي؟”
أخيرًا نظر لوسيوس إلى سيريل بعدما كان غارقًا في التفكير.
“هل أنتَ بخير؟”
بدت نبرة القلق في صوت سيريل.
“بما أن الفرسان يبحثون عن السيد الصغير في الجنوب، ألا تظن أنه من الأفضل لكَ أن تستريح قليلًا، يا سيدي؟”
كانت رحلة لوسيوس إلى العاصمة غير مخطط لها مسبقًا.
كان في طريقه إلى مكان آخر، لكن حين سمع أن السيد وجد شيئًا أخيرًا، غير مساره وجاء إلى العاصمة.
وكان سيريل يأمل أن يستغل سيده الفرصة للراحة ولو قليلًا.
“هل وجدتَ أي دليل نافع؟”
“أعتذر.”
انحنى سيريل برأسه خجلًا.
“ما زلت أندم.”
“على ماذا؟”
“لقد قتلتُ المدير بسرعة كبيرة.”
قال لوسيوس بصوت بارد.
عندما ذهب إلى المصحّة في الجنوب، علم أن كاليكس قد هرب.
وبتفقده الزنزانة التي كان كاليكس يقيم فيها، فهم السبب.
لقد حُبس كاليكس في زنزانة لا نوافذ فيها، وكان يُقدَّم له طعام بالكاد يُسمى طعامًا: عصيدة خفيفة وخبز صلب يصعب حتى مضغه.
وعند مراجعة السجلات، لم يكن هناك أي شراء للأدوية التي كان كاليكس بحاجة إليها.
كانوا يُهملونه، بل ويختلسون رسوم الإقامة الباهظة.
وكان كاليكس فردًا مباشراً من عائلة إنغرسول.
ما فعله المدير لم يكن أقل من إهانة لتلك العائلة و لسيدها.
قطع لوسيوس رأس المدير في نفس المكان.
‘ما كان ينبغي أن أنهيه بهذه البساطة.’
بالمقارنة مع الجهد الذي يبذله الآن، كان عقاب المدير خفيفًا جدًا.
كان عليه أن يُبقيه حيًا ويستخلص منه كل ما يمكن من معلومات.
نقر لوسيوس بلسانه، ثم نظر إلى سيريل.
“هل حصلتَ على القائمة؟”
“ها هي.”
ناول سيريل الأوراق التي كان قد أعدها إلى لوسيوس.
“إنها قائمة بالأشخاص الذين مروا بالجنوب في الأيام القريبة من اختفاء السيد كاليكس.”
أثناء تسلم الأوراق، أضاف سيريل
“كما تعلم، لا تُفرض رسوم مرور على الأطفال، لذا حتى لو رافق أحدهم الطفل، فلن تُسجل سوى أسماء البالغين.”
كان يعني بذلك أن العثور على من غادر مع كاليكس استنادًا إلى القائمة فقط أمر شبه مستحيل.
لكن لوسيوس لم يُعر الأمر اهتمامًا، وبدأ يقلب الأوراق حتى توقف عند نقطة ما بعينه.
كان هناك تركيز غير عادي لأسماء عائلات نبيلة مألوفة في يوم معين.
لاحظ سيريل نظره وقال
“قيل ان طلاب الأكاديمية البحرية الذين كانوا في عطلة مرّوا من هنا سويًا.”
طلاب الأكاديمية البحرية.
كان السبب الرئيسي لإرسال النبلاء أبناءهم إلى هناك واحدًا في الغالب.
لحبسهم و منعهم من ارتكاب كوارث لا يمكن السيطرة عليها.
فهم يرتدون الزي الرسمي ببذخ ، لكنهم مجرد طائشين يعتمدون على مكانة عائلاتهم لفعل أمور متهورة دون تردد.
وللصدفة، كانوا في الجنوب في ذلك الوقت بالذات.
“سيريل.”
قال لوسيوس وهو يشير إلى الجزء الذي تحوي فيه الأسماء.
“ابدأ بالتحقيق مع هؤلاء.”
ثم نظر مطولًا إلى اسم مدوّن منفصل أسفل القائمة.
جوناثان كرولوت.
“سأتولى أمر هذا بنفسي.”
التعليقات لهذا الفصل "8"