“ما هو سر ذلك الطفل؟”
سألت مايا، التي صعدت إلى العربة مع راينا، وكأنها كانت تنتظر هذا السؤال.
“رجاءً أخبريني ولو قليلاً عمّا يحدث.”
ابتلعت راينا ريقها الجاف.
كانت تنوي بالفعل إخبار مايا، لكن نظراتها الحادة جعلتها تتردد.
“في الحقيقة…”
نظرت راينا إلى مايا وقالت لها الحقيقة.
أنها تأوي سراً طفلاً محكوماً عليه بالموت من عائلة الدوق إنغرسول، وهي عائلة تخفي أمره.
كانت راينا تتوقع أن تغضب مايا.
لكن مايا لم تقل شيئاً، بل انحنت برأسها بصمت.
“سيدتي، أنتِ… التي كنت أخشى عليها دوماً من أن تُستغل بسبب طيبتها وضعف قلبها… أصبحتِ الآن مجرمة اختطاف.”
قالت مايا بصوت مخنوق ثم أخذت نفساً عميقاً.
“أتعلمين أن لوسيوس إنغرسول يُدعى الدوق الوحش لأنه يشبه أول دوق من عائلته؟”
أومأت راينا برأسها.
بعض الشائعات كانت تقول انه لا يشعر بأي ألم، لا يأكل شيئاً، لا ينام، بل يخرج كل ليلة ليصطاد البشر ويأكلهم.
كانت شائعات غريبة تُتداول عن دوق إنغرسول الأول.
“وتعلمين أيضاً أن أول دوق كان مجنوناً.”
قاد دوق إنغرسول الأول الحرب ضد الدول المجاورة وحقق النصر، وكان يُعتبر بطلاً في الإمبراطورية.
لكن مع ذلك، خاف الناس منه، واعتبروه وحشاً.
فبعد الحرب، بدأ يتصرف بغرابة.
لم يكن يأكل أو ينام بشكل طبيعي، و كان دائماً يحمل سيفه.
وفي النهاية، أصبح يقطع رؤوس كل من يقترب منه.
كما لو كان يخشى أن يأتي أحد ليقتله.
“وهل سمعتِ عن اللعنة التي أصابت الدوق الأول؟”
“لعنة؟”
كانت شائعة سرية يصعب معرفتها.
لو لم يخبرها والدها، لما كانت مايا تعرفها أيضاً.
فقد توفي أول دوق فجأة في ليلة واحدة.
وكانت وفاته بحد ذاتها غامضة، لكن جثته لم تكن عادية.
“يقال ان جسده كان مغطى ببقع سوداء لا تزول مهما غسلته. بقع مقززة.”
اتسعت عينا راينا.
تذكّرت البقع السوداء التي كانت تغطي جسد كاليكس.
“اعتقد الناس أن تلك البقع كانت دماء الأشخاص الذين قتلهم الدوق في ساحة المعركة.”
لقد قتل الكثيرين في الحرب.
و كانوا يقولون ان الدماء التي غمرت جسده آنذاك أصبحت ملعونة و سوداء وفسدت معه.
“لكن جثث الأشخاص الذين كانو دوق عائلة إنغرسول من بعده لم تكن كذلك، ولهذا اختفت شائعة اللعنة.”
شعرت مايا أن عليها تحذير راينا.
“هل تعتقدين أن لعنة ناتجة عن حقد كهذا ستزول بسهولة؟ من الأفضل ألا تتورطي مع عائلة مشؤومة كهذه، سيدتي.”
لكن راينا لم تُظهر أي خوف، بل أضاءت عيناها بالحماسة.
“نعم! كانت تلك هي اللعنة! لم يكن مرضاً عادياً. إذا فككنا اللعنة، فسيشفى كاليكس.”
“هذا ليس ما كنت أقصده…”
قالت مايا، مرتبكة.
“آه، سيدتي. حتى لو كانت لعنة، لا يمكن فكها.”
“ولمَ لا؟”
“لو كانت هناك طريقة لفكها، لكانت عائلة إنغرسول قد اكتشفتها وفكتها منذ زمن!”
لم تكن مايا تريد أن ترى راينا تبذل جهداً في أمر ميؤوس منه، أو تتعرض للخطر.
“لذلك، أعيدي الطفل إلى عائلة إنغرسول فوراً.”
“لا يمكنني ذلك. منذ اللحظة التي أحضره فيها أخي، أصبحنا مسؤولين عنه.”
“مسؤولية؟”
“أنتِ تعلمين أن شتاء الإمبراطورية يزداد قسوة يوماً بعد يوم، أليس كذلك؟”
بالطبع تعلم.
الأرض و الماء يتجمدان، والحيوانات والبشر يموتون من البرد خلال ليلة واحدة.
لكن ما علاقة ذلك الآن؟
“عائلة إنغرسول تحكم أبرد وأقسى أرض في شمال الإمبراطورية.”
اتسعت عينا مايا ببطء.
“هل هناك طريقة أسهل للحصول على أراضٍ جديدة من خوض حرب بين العائلات؟”
أرض جديدة لتحل محل أراضٍ وصلت إلى حدودها القصوى.
هذا ما كان يخطط له لوسيوس في قلبه المظلم.
“لا يمكنه ببساطة إعلان الحرب بين العائلات. لكن إن اتُّهم بقتل أحد أفراد أسرته المباشرين، فسيكون لديه مبرر مقنع.”
وفي كل الأحوال، كاليكس محكوم عليه بالموت، لذا لن ينجو.
وعندها يمكن لـلوسيوس تحميل المسؤولية لمن كان يحتفظ بكاليكس.
“لذلك يجب عليّ أن أشفي كاليكس بأي ثمن.”
فإذا لم يمت كاليكس، فلن يكون هناك مبرر لبدء الحرب.
“مايا، صدقيني.”
قالت راينا بحزم.
“يجب أن ينجو كاليكس… كي ننجو نحن أيضاً.”
وفقط حينها، أدركت مايا الحقيقة.
راينا كانت تعرف كل شيء بالفعل.
كانت تدرك جيدًا ما هي عائلة إنغرسول، وما الذي يمكنهم فعله، أكثر من أي شخص آخر.
قبضت مايا على قبضتيها بقوة.
“يا للغباء. مهمتي ليست أن أخيف سيدتي.”
الدفاع عن سيدتها و تقديم حياتها في سبيل سلامتها.
هذا هو الدور الذي كان عليها أن تلعبه من الآن فصاعدًا.
****
وصلت العربة التي تقل راينا و مايا إلى سوق العاصمة.
“بالمناسبة، ما الذي حدث ليدكِ؟”
سألت مايا وهي تنظر إلى يد راينا اليسرى الملفوفة بالشاش.
لقد كانت إصابة نتجت عن حماس غبي في الليلة الماضية.
عندما انخفضت حرارة كاليكس، أصبحت راينا مقتنعة تمامًا بأن يدها تمتلك قوة خاصة.
بل و راودها الظن بأنها ربما تكون صاحبة قوة مقدسة ظهرت حديثًا في الإمبراطورية.
نعم، لقد انتقلت إلى هذا الجسد، على الأقل يجب أن تحصل على امتياز كهذا.
و بينما كانت متحمسة لفكرة علاج كاليكس، قامت بشق راحة يدها بسكين ورق لتجرب الأمر.
‘قوة مقدسة؟ هراء.’
كانت مؤلمة بشدة، ولم تُشفَ الجرح مهما دلّكته بيدها.
شعرت راينا بالحرج و الخجل ولفت الجرح بالشاش بصمت.
“جرحت نفسي عن طريق الخطأ.”
بدت مايا غير مقتنعة تمامًا بإجابة راينا، لكنها لم تواصل السؤال.
“هل جئتِ إلى هنا اليوم من أجل ذلك الطفل أيضًا؟”
أومأت راينا و هي تدخل محل التحف مع مايا.
كان المحل الذي قصدته الأكبر في سوق العاصمة، وكان المفضل لدى الكونت كرولوت و زوجته.
كان للزوجين هواية جمع التحف النادرة والثمينة.
رغم أن معظمها كانت مهربة مشبوهة وغير مألوفة.
‘لم يكن بالإمكان الحصول على تلك الأشياء بطرق قانونية.’
بفضل تبجّح الكونت و زوجته بعمليات التهريب غير القانونية، سارت الأمور بسهولة.
نظرت راينا حول المحل، لأول مرة منذ انتقالها، وهي تشعر بالامتنان تجاه الكونت و الكونتيسة.
كان يبدو كمحل تحف عادي من الخارج، لكن الشاب الذي يديره لم يكن عادياً إطلاقًا.
كان تاجرًا في السوق السوداء يعثر على أي شيء يطلبه الزبون مقابل الثمن المناسب.
كانت راينا قد تواصلت معه مسبقًا وطلبت منه شيئًا محددًا.
قال انه من الصعب الحصول عليه وسيستغرق وقتًا، لكنها وعدته بمضاعفة أجره، فوعدها بالحصول عليه اليوم مهما كلفه الأمر.
“كيف يمكنني مساعدتكِ؟”
سألها الموظف عندما اقتربت من مكتب الداخلي.
“جئتُ لأستلم شيئًا تم حجزه باسم السيد.”
تغيرت نظرات الموظف حين سمع كلمة “السيد”.
“ما هو اسم الحاجز؟”
ترددت راينا ولم تجب بسرعة، مما جعل الموظف أكثر حدة في نظرته.
في اللحظة التي بدأت مايا تشعر بالريبة من سلوك الموظف وتستعد للحذر،
اقتربت راينا من الموظف وهمست له بصوت منخفض جدًا.
“زهرة البنفسج التي تزهر تحت ضوء القمر…”
آه، يا للإحراج!
احمر وجه راينا بشدة.
كان “السيد” يطلق أسماءً مستعارة غريبة لضمان سرية الزبائن دون أن يعرفهم شخصيًا.
‘كيف يجرؤ على منحي هذا الاسم المبتذل وهو لا يعرف حتى من أكون؟’
لم تلتقِ به من قبل، لكنها كانت متأكدة من أنه شخص غريب الأطوار بشدة.
“انتظري قليلاً من فضلكِ.”
دخل الموظف، وقد هدأت ملامحه، إلى الغرفة الخلفية ، بينما أمسكت مايا بذراع راينا.
“آنستي، هل هو سلاح؟ أم سم؟”
رفعت راينا حاجبيها بدهشة من سؤال مايا المباشر.
“قلتِ إنكِ جئتِ من أجل الطفل، لكن ما تفعلينه يبدو و كأنه صفقة مشبوهة تمامًا.”
استنتجت مايا الوضع بسرعة وأعطت راينا تحليلها.
“أنتِ هنا لشراء أداة للتخلص من الشهود، أليس كذلك؟”
“…ماذا؟”
“لا بأس، أنا أيضًا كنت أفكر في التخلص من الشهود.”
كانت بحاجة إلى وقت لإيجاد طريقة لعلاج كاليكس، ولكي تحصل على ذلك الوقت، كان عليها ألا يُكشف أمره.
“من هو؟ من رآه؟”
كانت نظرات مايا حازمة بل و شرسة.
“سأتولى الأمر بهدوء. سيدتي الطيبة لا يمكنها فعل ذلك…”
وبينما كانت تهمس و هي تلتفت يمينًا ويسارًا، تجمد جسد مايا فجأة.
حدّقت من خلال النافذة الزجاجية الواسعة واتسعت عيناها ببطء.
“مايا؟”
كانت راينا على وشك أن تدير نظرها نحو ما كانت تنظر إليه مايا.
لكن مايا أمسكت بذراعها فجأة و سحبتها خلف رفوف المتجر.
“ماذا هناك؟”
“شش.”
كانت مايا تراقب رجلاً دخل لتوه إلى المتجر من خلال الرفوف.
لم تفهم راينا ما يجري، لكنها حبسَت أنفاسها ونظرت إلى الرجل.
كان يملك ملامح منحوتة بدقة لافتة للنظر.
شعره أسود كالليل، وعيناه بلون الذهب الفاتح.
كان تعبير وجهه الخالي من المشاعر يضفي عليه هالة باردة تليق به كثيرًا، فبدلاً من أن يبدو مخيفًا، بدا رائعًا.
“هل تعرفينه؟”
“إنه الدوق الوحش.”
اتسعت عينا راينا فجأة بينما كانت تتأمل وجه الرجل بفضول.
‘الآن أدركت! إنه لوسيوس!’
كان ذلك الرجل تمامًا كما تم وصفه في الرواية الأصلية.
لقد استغرقت راينا لحظة لتدرك من هو، إذ كانت مأخوذة بجماله.
“لِـ، لـماذا الدوق الوحش هنا؟ هل هو بسببي؟ لا، لا يمكن… ليس بعد…”
أصابها الذعر وبدأت تتحدث بارتباك، لكن مايا سارعت إلى تغطية فمها.
كانت خطوات لوسيوس تقترب منهما أكثر فأكثر.
التعليقات لهذا الفصل "7"