بعد أن أوكلت كاليكس إلى دار الأيتام، قضت راينا أيامها في قلق مستمر.
كان هناك الكثير مما يجب أن توليه اهتمامًا.
اضطرت لمواجهة جوناثان الذي أمطرها بالأسئلة بعد عودتها وحدها، ثم واجهت الكونت والكونتيسة بعد مغادرة جوناثان في نهاية عطلته.
استغرب الكونت و زوجته من قرار راينا بالإقامة في دار الأيتام والمشاركة في إدارتها.
اضطرت راينا إلى تبرير ذلك بأنها تريد أن تملأ الفراغ الذي شعرت به بعد رحيل جوناثان بالعمل.
عندها فقط تمكنت راينا من زيارة كاليكس.
عارضت مايا مغادرتها في الحال بسبب الطقس الماطر بشدة، لكن راينا كانت حازمة.
‘رغم أنني تلقيت تقارير من أوليفيا عن حال كاليكس…’
لم تستطع راينا التوقف عن القلق بشأن حالته الصحية.
ولها الحق في ذلك، فحسب القصة الأصلية، أصيب كاليكس بحمى شديدة بعد وقت قصير من لقائه مع البطلة.
توجهت راينا مسرعة إلى دار الأيتام كما توقعت مايا، وانتهى بها الأمر مبتلة تمامًا.
“سيدة راينا، سأحضّر لكِ ماءً دافئًا أولًا.”
أخذت أوليفيا معطفها المبتل وغادرت للحظات لتحضير ما طلبته.
وفي تلك الأثناء، رأت راينا طفلًا ينزل الدرج وقد غطى نفسه ببطانية بإحكام.
‘ما الذي يفعله؟’
بدت خطواته غير مستقرة، ثم تعثر وسقط إلى الأمام، فتحركت راينا تلقائيًا.
‘هذا خطير!’
تمكنت بالكاد من إمساكه، وعندها فقط أدركت أن الطفل هو كاليكس.
“لا، لا…!”
كان كاليكس يتلوى ويهذي بكلمات غير مفهومة، ثم توقف عن الحركة فجأة.
“كاليكس؟”
أمسكت راينا بكتفيه وهزته، وظهر على وجهها القلق الشديد.
كان جسد كاليكس ساخنًا جدًا.
سخونة غير طبيعية لا يمكن الشعور بها إلا من لهب.
فزعت راينا واحتضنته وهو ملفوف بالبطانية.
“سيدة راينا؟”
ظهرت أوليفيا من جديد وقد ارتسمت الدهشة على وجهها.
“ما الذي يجري هنا؟ لماذا كاليكـ…”
رفعت صوتها دون قصد لكنها سارعت إلى إغلاق فمها.
توجّه الاثنان بصمت إلى غرفة كاليكس.
“…بيل؟”
فتحت أوليفيا باب غرفة كاليكس واتسعت عيناها.
كان بيل يحاول الاختباء تحت السرير، لكنه تأخر لحظة.
“لماذا أنتَ هنا؟”
سألت أوليفيا وهي ترفعه من الأرض.
“أم… هذا…”
تردد بيل و تلعثم، وعندما وقعت عيناه على راينا، أغلق فمه فورًا.
‘إنها الساحرة!’
صرخ في داخله.
كان الأطفال يلقبون راينا، التي كانت تزور دار الايتام من حين لآخر، بـ”الساحرة”.
امرأة مخيفة تحدق في الأطفال بقسوة كلما اقتربوا منها.
“أوليفيا.”
وكما هو متوقع، جاء صوتها باردًا كما لو أنها ساحرة حقًا.
“أحضري ماءً باردًا ومناشف.”
“حسنًا. بيل! تعال معي.”
أخذت أوليفيا بيل و غادرت، فأطلقت راينا تنهيدة كانت تحبسها.
لماذا كان هذا الطفل في غرفة كاليكس؟
‘هل رآه؟’
شعرت راينا بالإحباط، لكنها ركزت على كاليكس الآن.
حين وضعته على السرير، بدأ يتحرك قليلًا كأن وعيه لم يغب كليًا.
ثم استدار على جانبه، و لـفّ جسده و احتضن نفسه بذراعيه.
كان جسده النحيل يهتز مع كل نفس لاهث يخرجه.
جلست راينا على حافة السرير، و مدت يدها مرة أخرى لتتحقق من حرارته.
كانت جبهته ساخنة كما لو كانت تحترق.
‘يجب أن أطلب إحضار أعشاب لخفض الحرارة.’
لكن بمجرد أن سحبت يدها ونهضت…
“لا… تذهبي…”
فتح كاليكس فمه بصعوبة.
“لا تذهبي…”
“…”
نظر إليها بعينين لم تركز جيدًا، ربما بسبب الحمى.
كانتا محمرتين أكثر من المعتاد.
“سأكون بخير عندما أستيقظ.”
“…”
“حقًا، أنا لا أكذب. لذا…”
كان صوته يائسًا و هو يتوسل إليها.
ترددت راينا للحظة، ثم جلست مرة أخرى.
“لن أذهب.”
“…”
“لن أذهب إلى أي مكان.”
أطلق كاليكس تنهيدة صغيرة من الارتياح.
أغمض عينيه ببطء بعد أن رمش بجفنيه الثقيلين.
مدّت راسنا يدها بحذر ولمست خده.
أزاحت شعره المبلل بالعرق البارد، ومسحت حرارة خده بظاهر يدها.
ربما ساعدته برودة يدها التي ابتلت بالمطر، إذ بدا وجه كاليكس مرتاحًا بوضوح.
تغيّر تنفسه من مضطرب إلى منتظم.
‘كاليكس…’
لا بد أنه تحمّل كل هذا بمفرده طوال الوقت.
نظرت راينا إليه وهو يحتضن جسده وكأنه لا يعتمد سوى على نفسه.
‘على الأقل فلأجعل وضعه أكثر راحة.’
أعادته إلى وضعية مستقيمة وغطته بالبطانية دون أن يشعر بالاختناق.
ثم مدّت يدها تحت البطانية وأمسكت بيده.
تحركت أصابع كاليكس قليلاً، ثم أمسك بيدها ببطء.
رغم أنه بدا تصرفًا غير واعٍ، إلا أن قبضته كانت قوية.
كانت غريزة تبحث عن شيء تعتمد عليه.
‘ليتني كنت أملك قوة الشفاء المقدسة…’
القوة المقدسة كانت قوة يمتلكها كهنة المعبد الإمبراطوري، وتشفي الناس.
لكن قوة الكهنة المقدسة كانت تضعف يومًا بعد يوم، والآن لم يعد يولد أحد يمتلك تلك القوة.
أطلقت راينا تنهيدة صغيرة ثم قطبت جبينها فجأة.
‘ما هذا؟’
ياقة ملابس كاليكس النظيفة تحولت فجأة إلى اللون القاتم وكأنها دُحرجت فوق الطين.
شعرت راينا بالغرابة، فرفعت الغطاء.
كانت الأوساخ تغطي ملابسه العلوية والسفلية.
منطقة البطن و الصدر كانت مغطاة بطين أسود كثيف، و الأتربة متفرقة حولها.
تفقدت راينا الغطاء، فكان نظيفًا من الداخل والخارج.
‘من أين علقت به هذه الأوساخ؟’
مدّت راينا يدها بحذر إلى ياقة كاليكس.
وعندما نفضت الأتربة بأطراف أصابعها، حدث أمر غريب.
فالغبار الأسود، الذي ظنته طينًا، تلاشى كالدخان عند لمسها له.
‘لا أعرف ما هذا، لكن عليّ تنظيفه بسرعة.’
ارتعشت راينا من الرعب، وبدأت في نفض ملابس كاليكس بيديها.
دون الحاجة لبذل جهد كبير، كانت حركة يدها كافية لتبدد الدخان شيئًا فشيئًا.
و رغم معاناة راينا وحدها في نفض ذلك، لم يستيقظ كاليكس من نومه.
وأخيرًا، بعد أن اختفى ذلك الأثر المزعج، وبدت ملابس كاليكس نظيفة، شعرت راينا بالارتياح.
‘ما كان هذا بحق الجحيم؟’
وبينما كانت راينا تميل برأسها في حيرة، عادت أوليفيا.
“سيدة راينا. الأشياء التي طلبتِها…!”
لكنها لم تستطع إكمال كلامها.
فقد وضعت الصينية التي كانت تحمل عليها الأشياء بسرعة على الأرض، وبدأت تسعل بعنف.
“كح كح!”
“أوليفيا، هل أنتِ بخير؟”
“لا تتحدثي!”
صرخت أوليفيا في استعجال وهي تغطي فمها وأنفها بذراعها وتوجهت نحو النافذة.
فتحت النافذة بسرعة، و بدأت تلتقط أنفاسها من الهواء البارد الممزوج بقطرات المطر.
“سيدة رينا، كح، هل أنتِ بخير؟”
سألت أوليفيا بعدما هدأت قليلاً.
“الهواء هنا خانق و مليء بالدخان. وأنتِ لديكِ رئة ضعيفة من الأساس.”
بدت راينا مستغربة.
‘هواء خانق؟’
لو كان الهواء في الغرفة سيئًا إلى هذا الحد، لكانت هي أيضًا بدأت بالسعال.
لكنها لم تشعر بشيء على الإطلاق.
نظرت أوليفيا إلى راينا التي لم تتأثر، وبدت عليها الحيرة.
“غريب. بالتأكيد…”
تمتمت أوليفيا وهي تتفقد الغرفة بنظراتها.
فقد اختفى الهواء السيئ الذي كان يملأ الغرفة قبل قليل، بعد التهوية.
و بينما كانت تنقع المنشفة في الماء البارد، وضعت راينا يدها على جبهة كاليكس.
“هل حالة كاليكس سيئة؟”
سألت أوليفيا وهي تعصر الماء من المنشفة، لكن راينا لم ترد.
“سيدتي راينا؟”
أجابت راينا ببطء، وعيناها لا تزالان مثبتتين على كاليكس.
“الحمى انخفضت.”
“عفوا؟”
“كانت حرارته مرتفعة بشكل غير طبيعي…”
تمتمت راينا، و وضعت يدها على خده وعنقه.
كان جسده الذي كان كالجمرة قد برد تمامًا.
سحبت راينا يدها من عليه.
ثم نظرت إلى يدها في صمت.
*****
في اليوم التالي الصافي، وصلت مايا إلى الميتم حاملة أمتعة راينا.
تفقدت المكان الذي ستمكث فيه راينا لبعض الوقت.
كان بسيطًا للغاية مقارنة بقصر كرولوت.
‘لكنها كانت تتعذب دومًا في القصر.’
منذ أن أصبحت خادمتها الخاصة، عرفت مايا أن راينا لم تكن من النوع الذي ينسجم مع عائلة كرولوت.
بغض النظر عما يقوله الآخرون، في عيني مايا، كانت راينا مجرد فتاة طيبة و حنونة.
وكانت تخشى أن تُستغل طيبتها وتُصاب بالأذى.
‘لكنني لم أتوقع أن تستعجل بهذا الشكل لأجل ذلك الصبي.’
تذكرت مايا كيف غادرت راينا نحو الميتم رغم الأمطار الغزيرة.
حتى أنها كانت تملك موعدًا اليوم في العاصمة.
‘لو كانت قد أنهت أمورها في العاصمة أولًا ثم أتت، لكان الأمر أسهل.’
لكن راينا، مع علمها بذلك، ذهبت لرؤية الصبي دون تأخير.
‘لماذا تودّ سيدتي أن تساعد ذلك الصبي، رغم أنها تراه لأول مرة؟’
بل وبشكل سري للغاية.
شعرت مايا بالقلق من كل هذا، لكنها تذكرت أن الفارس الحقيقي يتبع أوامر سيده بصمت.
رغم أنها أصبحت خادمة بعد سقوط عائلتها، فإن روح الفروسية لم تفارقها.
استجمعت مايا شجاعتها، وذهبت مع أوليفيا إلى غرفة كاليكس.
كانت راينا تجلس على كرسي بجانب السرير تراقب كاليكس النائم.
“هل الطفل مريض؟”
سألت مايا، فأشارت أوليفيا بيديها بالنفي.
“آه، لا تسألي! لقد أصيب بحمى شديدة الليلة الماضية. ولحسن الحظ، وصلت السيدة راينا في الوقت المناسب و امسكته عندما سقط من على الدرج.”
ضاقت عينا مايا قليلًا.
في الوقت المناسب.
وكأنها كانت تعلم مسبقًا أن الطفل سيمرض.
“ويبدو أن حرارته لم تعد مرتفعة.”
قالت راينا وهي تنهض.
“أوليفيا، سأعتمد عليكِ في العناية بكاليكس. إنه نائم بعمق، فلا توقظيه بالقوة. وأيضًا…”
“إن كنتِ تقصدين بيل، فلا تقلقي. سأجعل فمه مغلقًا تمامًا.”
أومأت راينا، ثم نظرت إلى مايا.
“لننطلق الآن.”
أثناء خروج مايا مع راينا، ألقت نظرة خاطفة على كاليكس و أوليفيا.
كان حدس مايا الحاد يهمس لها بتحذير.
بأن أمرًا غير عادي بدأ يحدث… بسبب ذلك الصبي.
التعليقات لهذا الفصل "6"