نظر كاليكس إلى المرأة التي أمامه بعينين مملوءتين بالتوسل.
من أجل قول هذه الكلمات، استجمع آخر ما تبقى له من شجاعة.
لكن وجه المرأة ظل بلا تعبير.
ضوء القمر انعكس على شعرها الفضي و عينيها البنفسجيتين الواضحتين.
حتى عينيها المرتفعتين ببرود كانت جميلة، لكنها بدت باردة.
رغم توسلات كاليكس، كانت المرأة تحدق فيه بعينين متسعتين حادتين، و شفتيها المغلقتين بإحكام لم تبدُ عليها نية للإجابة بتسامح.
الرجاء الذي كان يملأ عيني كاليكس تحول بسرعة إلى يأس.
يبدو أن ما فعله كان عبثًا.
أخفض كاليكس رأسه ببطء.
“لذلك…”
الشخص الذي تكلم أخيرًا لم يكن المرأة بل الرجل.
الرجل الذي وقف على الجرف يطل على البحر الليلي المظلم و قال له بلطف أن يذهب معه.
لكن، جوناثان الذي لم يكن لطيفًا كما صوته، جلس على ركبتيه ليواجه كاليكس بنظره.
“أيعني هذا أنكَ ستتصرف كطفل جيد؟”
هز كاليكس رأسه بسرعة.
لن يرى شيئًا، و لن يسمع شيئًا، و لن يقول شيئًا.
سيبقى هادئًا وكأنه غير موجود، كطفل مطيع.
لأن الناس أرادوا منه أن يكون كذلك.
“أحسنت.”
فتح كاليكس عينيه على وسعهما عند مدح جوناثان له.
“لكننا لا نحتاجك.”
عند كلماته التالية، شعر كاليكس وكأن قلبه سقط إلى الأرض.
“أحضرتكَ لأجل أن أجعل أختي سعيدة.”
أمسك جوناثان بكتف كاليكس.
“لكنكَ عديم الفائدة.”
“آه…”
“سأرسلكَ بدلاً من ذلك إلى شخص طيب. رغم أن عمله عنيف، لكنه لطيف مع الأطفال.”
عندما كان جوناثان يتحدث بصوت ناعم إلى كاليكس…
“أخي.”
نادته راينا التي كانت صامتة طوال الوقت.
“لقد غيرتُ رأيي.”
ارتفعت حاجبا جوناثان بدهشة.
“ألم تقولي أنكِ لا تحبين هذا الطفل؟”
“قلتُ ذلك لأنني شعرت بالتقدير من قلبك الطيب، أخي.”
عندما فهمت راينا مشاعره، أضاء وجه جوناثان بالسعادة.
“إذًا سأبدله لكِ بطفل آخر. هذا الصغير جميل الشكل لكنه غامض في كلامه…”
توقف جوناثان عن الكلام وهو ينظر إلى كاليكس.
ثم ضيّق عينيه ومد يده إلى كاليكس.
“ما هذا؟”
فجأة أمسك بالخيط الذي كان ظاهرًا من بين ياقة قميص كاليكس.
كان ذلك الخيط عبارة عن قلادة من جلد يتدلى منها تمثال صغير مصنوع من الخشب.
“آه!”
تفاجأ كاليكس و مد يده. لكن جوناثان دفعه بلطف جانبًا وهو يراقب التمثال الخشبي.
“ما هذا الشيء المزعج؟”
سأل جوناثان بصوت بارد فجأة وهو ينظر إلى كاليكس.
كان التمثال القديم المتآكل من كثرة اللمس يشبه تماثيل اللعنة التي يستخدمها السحرة.
وطفل يحمل شيئًا مشؤومًا كهذا يجب طرده فورًا من القصر.
“أجِـبني.”
عند تغير سلوك جوناثان المخيف، فتح كاليكس فمه بوجه خائف.
“إنه… لعبة. تمثال لبطل في قصة خيالية…”
“آه، هكذا إذًا.”
عندها فقط خفف جوناثان من تعبير وجهه.
“من أين حصل يتيم مثلكَ على شيء كهذا؟ سرقته، أليس كذلك؟”
“لا، لم أفعل!”
هز كاليكس رأسه بعنف.
“أرجوك، أعده إليّ.”
كاليكس الذي بدأ يشعر بالقلق خشية أن يُؤخذ منه، أمسك بالخيط و جذبه.
ضحك جوناثان ساخرًا وهو يترك القلادة من يده ونظر إلى راينا.
“أنظري، هجم عليّ لمجرد أنني لمست لعبته البائسة. يبدو أن لديه عادة سيئة أيضًا. الأفضل أن نختار طفلًا آخر.”
“لا، أنا أحب هذا الطفل. مثلما قلت، هو يشبه تلك القطة الضالة التي كنت أحبها.”
بالطبع، راينا لم تكن تعرف شكل تلك القطة الضالة التي كانت تحبها.
“كنت أشعر بالملل، فهذه فرصة جيدة. سأخرج مع الطفل لأستنشق بعض الهواء.”
“ستأخذينه للخارج؟ وماذا تنوين أن تفعلي هناك؟”
لم يكن في وجه جوناثان أي قلق وهو يسأل.
بل فقط كانت عيناه تلمعان بالاهتمام والفضول.
“هل أتي معكما؟ أنتِ لم تحظي بلعبة كهذه من قبل، سأريكِ كيف تستمتعين بها.”
راينا لم تكن تريد أن تعرف على الإطلاق.
‘لا خيار أمامي سوى استخدام هذه الطريقة.’
إن تركته، سيظل يلاحقها بإلحاح.
“أخي.”
تنهدت راينا بهدوء.
رفعت يدها ونظرت إليها بلا مبالاة.
“لماذا أنتَ…”
ثم، وهي تحك ظفر الإبهام بظفر السبابة، واصلت كلامها.
“مزعج إلى هذا الحد؟”
عند همهمتها الباردة، اتسعت عينا جوناثان.
ثم انفجر بالضحك.
“حسنًا، حسنًا. سأتوقف عن إزعاجك.”
كما هو متوقع.
‘يبدو أن هذا ينفع مع جوناثان أيضًا.’
كانت راينا تتصرف بهذه الطريقة كلما لم تكن ترغب في التعامل مع الكونت وزوجته.
علمت ذلك من خلال تنصتها على أحاديث الخادمات، يبدو أن راينا كانت تعاني من مشكلة في التحكم بالغضب.
كانت تتفاعل بلا مبالاة في معظم الأحيان، و لكن عندما تغضب كانت تفقد السيطرة وتصل إلى حد نوبات من الغضب.
بسبب هذا، انقلب القصر رأسًا على عقب عدة مرات، لذا كان الجميع حذرًا حتى لا يثيروا غضب راينا.
‘كانوا يقولون ان العبث بأظافرها بهذه الطريقة هو علامة تحذيرية.’
بعدما عرفت راينا ذلك، بدأت تستخدمه كلما احتاجت، و كان يأتي بنتيجة في كل مرة.
“سأعيركِ خادمي، خذيه معك.”
اقترح جوناثان، الذي بدا وكأنه قد تراجع بسلاسة.
“هو كتوم ويمكن الوثوق به.”
يبدو أنه ظن أن راينا ذاهبة لدفن شخص ما.
“لا بأس، سأصطحب خادمتي.”
أوقفت راينا عبثها بأظافرها ونادت على خادمتها.
“مايا.”
كانت مايا خادمة راينا الخاصة.
ضيّق جوناثان عينيه قليلًا عندما رأى الخادمة التي ظهرت عند مناداة راينا.
“خادمة لم أرها من قبل؟”
وذلك لأن مايا كانت خادمة جديدة جلبتها راينا بعد مغادرة جوناثان.
“وأين الخادمة السابقة؟”
“كانت ثرثارة.”
أجابت راينا باختصار ثم نظرت إلى مايا.
“سأخرج مع الطفل، فاستعدي.”
قالتها بهدوء، لكن يد راينا كانت تتعرق من التوتر.
*****
في تلك اللحظة، كان قصر إنغرسول يعج بالحركة.
فقد عاد دوق إنغرسول من مهمة أُرسل فيها إلى منطقة نزاع بأمر من الإمبراطور.
“يا دوق، لقد بذلت جهدًا كبيرًا.”
استقبل كبير خدم القصر لوسيوس بأدب شديد.
“أين عمي؟”
“لقد غادر مكانه لبعض الوقت.”
قال كبير الخدم وهو يأخذ معطف لوسيوس.
“لقد جهزنا لكَ ماء الاستحمام. هل تفضل تناول الطعام بعد أن تزيل عنكَ تعب الرحلة؟”
أومأ لوسيوس برأسه وتوجه إلى الحمام.
رفض الخدم الذين أرادوا مساعدته، و استحم بمفرده.
بعد الاستحمام، بدل ملابسه إلى زي مريح.
وكان شعره الأسود الذي اعتاد ترتيبه بعناية يتدلّى الآن على جبينه.
على عكس لحظة دخوله القصر مرتديًا درعًا لامعًا مثل شفرة مصقولة، بدا الآن كنبيل عادي.
جلس لوسيوس على الأريكة و أسند جسده إلى ظهرها براحة.
أغمض عينيه ببطء، عينيه اللتين شعرتا بخشونة كأن رملًا فيهما.
اختلط صوت تنفسه المنتظم بسكون الغرفة.
طَرق… طَرق…
في اللحظة التالية، استيقظ لوسيوس ببطء على صوت الطرق.
كانت استراحة قصيرة، لكن عينيه حين فتحتا أصبحتا أكثر حدة مما سبق.
“العشاء جاهز.”
عندما وصل لوسيوس إلى غرفة الطعام بإرشاد من كبير الخدم وجلس على المائدة، وُضعت أمامه أطباق الطعام الشهي واحدًا تلو الآخر.
نظر إلى الأطباق بلا مبالاة ثم حول نظره إلى المقعد المقابل.
كان ذلك الكرسي خاليًا، ولم يكن عليه حتى أدوات الطعام، ناهيك عن الطعام.
“أين كاليكس؟”
سأل لوسيوس بجبين معقود، و ارتسمت ملامح الارتباك على وجه كبير الخدم.
“ألم تسمع بعد، سيدي؟”
“عن ماذا؟”
“السيد الصغير كاليكس موجود حاليًا في مصحة في الجنوب.”
توجهت نظرات لوسيوس ببطء نحو كبير الخدم.
تحولت نظرته، التي كانت هادئة في البداية، إلى حادة في لحظة.
“مصحة؟ ما الذي تقصده بذلك؟”
“أعتقد أن هناك خطأ ما. السير مارتن قال انه أوصل الخبر إليك بالتأكيد…”
“هل عمي هو من أرسل كاليكس إلى المصحة؟”
كان السير مارتن عم لوسيوس.
وفي نفس الوقت، كان الوصي الذي ربّى لوسيوس و أخاه الأصغر بعد وفاة والديهما في سن مبكرة.
أدار شؤون قصر إنغرسول والأراضي التابعة له بصفته رب العائلة المؤقت حتى بلغ لوسيوس السن المناسب لتسلم اللقب.
وحتى الآن، في حالات مثل هذه عندما يغيب فيها لوسيوس عن القصر لفترات طويلة، كان مارتن يتولى مهامه بشكل طبيعي.
“نظرًا لتدهور صحة السيد كاليكس بشكل مفاجئ، تم إرساله إلى مصحة في منطقة استجمام في الجنوب من أجل العلاج.”
مصحة في منطقة استجمام.
ضحك لوسيوس ساخرًا.
يبدو أن عمه استغرق وقتًا طويلاً في لعب دور رب العائلة المؤقت حتى نسي أنه مجرد وصي مؤقت، و ظن نفسه رب العائلة الحقيقي.
“دوق…”
نظر كبير الخدم إلى تعابير لوسيوس وبدأ يتحدث بحذر.
“هل تود تناول الطعام الآن…؟”
“لا.”
قاطع لوسيوس كلامه بحزم.
“سأخرج، لذا لا حاجة للطعام.”
“ماذا؟ ستخرج؟ ألم تعد لتوك إلى القصر بعد عام كامل؟”
عند محاولة كبير الخدم منعه، ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتي لوسيوس.
نهض من مقعده وتجاوز كبير الخدم.
“إلى… إلى أين ستذهب؟”
سأله كبير الخدم على عجل وهو يلاحقه.
“سأذهب إلى الجنوب.”
“إلى المصحة التي فيها السيد الصغير كاليكس؟”
“نعم. قل لعمي إنني ذاهب لأسترجع كاليكس، لا تنسَ توصيل هذه الرسالة.”
و بينما كانت نظرات التوتر تعلو وجه كبير الخدم، أسرع لوسيوس في خطاه.
التعليقات لهذا الفصل "3"