نظرتْ راينا إلى إيليا من رأسهِ إلى أخمص قدميه وهي في حالةٍ من الصّدمة.
‘هل هذا الرجل هو السّيد؟ سمعتُ أنّه شاب، لكن…’
كانَ السّيد الذي تخيّلته راينا مختلفاً تماماً عن إيليا.
‘توقعتُ رجلاً ذا مظهر خشن، ربّما مع ندبةٍ على وجهه.’
لكن إيليا بدا كنبيلٍ نشأ في رقّة تحت أشعة الشمس، لا يعرف شيئاً عن التّجارة المشبوهة.
‘لا، لَيس كذلك.’
ربما كان لقبُ السّيد مجرّد واجهة، وكان يوكل الأعمال الصعبة لمرؤوسيه.
مع هذه الفكرة، توقّفتْ راينا عن تفحّص إيليا وعدّلت تعابيرها.
“هل انتهيتِ من التأمل؟”
سألَ إيليا بابتسامةٍ ودودة.
أدركتْ راينا أنّها كانت تنظرُ إليه بصراحة مفرطة، فشعرتْ ببعض الإحراج.
تنحنحت وتحدثت بنبرة صلبة:
“لماذا لمْ تقل من البداية؟”
“ماذا؟”
“أنّكَ السّيد.”
كانَ إيليا هو من وضعَ اسم الحجز المحرج لها.
كانَ من الواضحِ أنه يعرف مظهرها و معلوماتها الشخصية.
في متجرِ الألعاب، و على الطّريق إلى المقهى، كانت لديهِ فرصٌ كثيرة للكشفِ عن هوّيته.
“بصراحة، هذا مزعج.”
رفعَ إيليا حاجبيه ببراءة عند كلامٍ راينا.
“هل استمتعتَ برؤيتي مرتبكة؟”
أنْ يتبع آنسة تسير وحدها و يتعمّدَ مضايقتها، أليس هذا مزاحاً سيّئًا؟
عندها فقط، اختفتْ ابتسامتهُ المستمرّة. رفعَ يديه كمن يدافعُ عن براءته.
“هذا سوء فهم.”
“سوء فهم؟”
“حاولتُ التّحدث إليكِ بطبيعية من أجل تحيّتكِ، لكنكِ كنتِ شديدة الحذرِ منّي.”
تذكّرت راينا محاولاته لإجراءِ محادثةٍ غير ضروريّة.
“هل كانَ ذلك من أجل تحيّة طبيعية؟”
عندما فكّرت في الأمر، لم تكن كلماتهُ تحمل أيّ مشكلة.
لكنّه بدا مشبوهًا وهو يتبعها و يتظاهرُ بالودّ ، مما جعلهَا مضطرةً للحَذر.
نظرتْ إليه بعينينِ غير مقتنعتين، فضحكَ إيليا بنبرةٍ محرجة.
“رافقتكِ إلى المقهى لأنني كنتُ قلقًا عليكِ حقًّا”
نقلَ نظره إلى النّافذة.
“هل ترين هؤلاء الرّجال هُناك؟”
تبعت راينا نظره إلى النافذة.
أشارَ إيليا إلى رجلين يقفان في زقاق مقابل المقهى.
“إنّهم لصوص الشّوارع.”
اتّسعتْْ عينا راينا. كانا الرّجلين اللذين رأتهما وهي تمشِي مَع إيليا.
“كانا يراقبانكِ بعيونٍ متلهّة.ف”
“….”
“ربما استهدفاكِ منذ لحظة خروجكِ من المتجر وحيدة.”
أعادَ إيليا نظره إلَى راينا.
“عندما تظاهرتُ بأنني مرافقكِ، تخليا عنكِ.”
لم تجدْ راينا ما تقوله.
“كانَ يجبُ أن تقولَ ذلكَ منذ البداية.”
تحدثتْ بنبرةٍ أقل حدّة، فضحكَ إيليا.
“كنتُ سأخبركِ تدريجيًّا في المقهى عَلى أيّ حال.”
علَى الرّغم من زوالِ سوء الفهم، ظلّت راينا تشعر بالضّيق.
لم يكنْ تصرفه خاليًا من المزاح، وإلا لكانَ كاذبًا.
“ماذا عن الشّيء الذي طلبتُه؟”
انتقلت راينا إلى صلب الموضوع، ففتّشَ إيليا في جيبِ سترته.
“ها هو.”
أخرجَ إيليا زجاجةً زجاجيّة صغيرةً بحجم نصف إصبع.
كانتْ تحتوي على سائلٍ بلونِ العسل الفاتح.
“كنتِ محظوظةً من نواحٍ عديدة. أنا هنا بالصدفة، ولديّ خبرةٌ بهذا الشيء.”
“خبرة؟”
“بسببِ صديق.”
ردّتْ راينا بلامبالاة، متجاهلةً كلامه.
كانَ السّائل في الزجاجة هو الأهم بالنسبة لها الآن.
أمسكت راينا الزّجاجة و قامتْ بتقريبها من عينيها.
“هل هذا هو…”
“نعم، منوّم قويّ بمَا يكفِي لإخماد فيل.”
اتّسعتْ عينا راينا.
كانتْ نبرة إيليا عَالية جدًا.
نظرتْ حولها مذعورة، لكنها اطمأنتْ عندما رأتْ أنَّ لا أحد يهتمُّ بهما.
“ما الأمر؟”
“لا شيء.”
“الكمّية قليلة، لكن الفعاليّة مضمونة.”
“لا أشكّ في جَودة ما يَتعاملُ به السّيد.”
لو كانَ إيليا محتالاً يبيعُ أشياءًا مزيّفة بأسعارٍ باهظة، لما كان لديه هذا العددُ من العملاء، و لما طلبتْ راينا منه شيئًا.
‘إذاً، هذا المنوّم يُمكنه إخمادُ لوسيوس.’
فَكّرتْ راينا في استخدام المنوّمِ لسرقة تمثال بومر من لوسيوس.
‘سأجعلُ لوسيوس ينام، ثمّ أستبدلُ تمثاله بالتمثال الذي اشتريته.’
كانَ هذا هو سببُ ذهابها إلى متجرِ الألعاب لشراء تمثال بومر.
“يبدو أنكِ قلقة للغاية.”
رفعتْ راينا عينيها فجأةً عندَ سؤال إيليا، وهي غارقة فِي أفكارها.
هل بدا أنّني أطلبُ هذا بنيّةٍ سيّئة؟
“ألا تعانينَ مُن الأرق؟”
“آه…”
أومأتْ راينا بِرأسها متأخرةً.
كانتْ قَد أخبرتْ إيليا أنها تعاني من أرقٍ شديد عندما طلبتْ المنوّم.
“القلقُ المفرط يمنعُ النّوم.”
“بالتأكيد.”
“حتّى لو كنتُ مكانكِ، لما استطعتُ النّوم.”
توقّفت راينا عن إخفاءِ الزجاجة في صدرها ونظرت إلى إيليا.
“أنتِ الآن مع الدّوق إنغرسول، أليس كذلك؟”
“كيفَ عرفتَ…”
ارتبكتْ راينا، فضحكَ إيليا و هزَّ كتفيه.
“كم شخصاً رأى الاثنين معًا؟ الإشاعات تنتشرُ بالفِعل.”
“إشَاعات؟”
“شخصان مِن عائلتين بلا صلة يَسيران معًا فجأة، لهذا يُقال إنّ هُناك خُطوبة.”
عبستْ راينا دونَ وعي.
“إشاعاتٌ سخيفة.”
“حقًا؟”
قالَ إيليا بِدهشة.
“لكن وِفقًا لكلام الكونت و الكونتيسة كرولوت، ليستْ سَخيفة.”
عند ذِكره للكونت و الكونتيسة كرولوت، شعرتْ راينا بقشعريرة.
“ماذا قال والداي؟”
“قالا إنّكما وعدتما بمستقبل معًا.”
كما توقعت، لم تخبْ ظنونها السّيئة.
‘مستقبل معًا؟’
ربما بالغَ لوسيوس في حديثهِ عن ردّ الجميل يومًا ما.
‘آمل ألاّ تكونَ هذهِ الإشاعة قد وصلتْ إلى أذنيّ لوسيوس.’
شَعرتْ راينا بالإحباط.
“إنها إشاعةٌ مبالغٌ فيها. أنا فقط أساعدُ الدّوق بشكلٍ مؤقّت.”
أضافتْ بحذر:
“إذا سمعتَ أحدًا يقول هذا أمامك، قمْ بتصحيحه من فضلك.”
“ألا تعجبكِ هَذه الإشاعة؟”
“بالطبع، إنها تضرّني و تَضرّ الدّوق إنغرسول.”
رفعَ إيليا حاجبيه.
“لا يبدو أنكِ تخافيَن مِن الدّوق الوحش.”
ابتسمَ إيليا بخفّة وهو ينظرُ إليها.
“يقال إن الدّوق الوحش نشأ و هو يشربُ دماء البَشر.”
عبستْ راينا.
لم تكن تعلمُ بوجود مثلِ هَذه الإشاعة.
“ألم تسمعي؟ هناكَ قصّة وراءَ هذه الإشاعة.”
إشاعة لها أساس؟
بغضِّ النظر عن صَدمة راينا، بدأَ إيليا يروي القصّة.
“عندما هاجمَ الغزاة حدود الإمبراطورية، أُرسل لوسيوس بأمرٍ الإمبراطور إلى تلكَ المعركة.”
كانَ عُمره آنذاك سبعة عشر عامًا.
قدّر الإمبراطور مهاراتِ لوسيوس القتاليّة، فأرسله إلى المعاركُ مبكرًا.
كانَ الهدف اكتسابَ الخبرة، لكن لوسيوس تفوّقَ على توقعات الإمبراطور.
“هل تعرفينَ ماذا فعلَ أحد الفرسان بدافعِ الغيرة؟”
هزّتْ راينا رَأسها.
“تحتَ ذريعة طقوس التّرحيب، جعلهُ يشرب وعاءً من دمِ حيوانٍ مذبوح حديثًا.”
“… ماذا؟”
“معظمُ النّاس يرفضونَ حتى لمسه، لكنه شربه دفعةً واحدة دونَ تردّد.”
غطّتْ راينا فمَها بيدها.
شعرتْ بالغثيان مِن التّفكير في الأمر.
“بالطبع، لم يكنْ دمًا حقيقيًّا ، كانَ ماءً ممزوجًا بصبغة حمراء و منكّهات.”
هزّ إيليا كَتفيه.
“هل عرفَ الدّوق الوحش أنّه دم مزيف؟ يقال إنه كان يصعب تمييزه بالعين.”
“….”
“علَى أيّ حال، بعدَ هذا الحادث، عاشَ بسلامٍ نسبيًا بين الفرسان الخشنين.”
بسببِ إشاعة أنه يستمتعُ بشربِ دماء البشر، بدأ الجميعـ يتجنّبونه.
“لهذا أراكِ مذهلةً أكثر. لوْ كنتُ مكانكِ، لما تجرأتُ علَى مرافقته.”
“….”
“أنتِ أقوى ممّا كنتُ أظنّ.”
اهتزّتْ شجاعةُ راينا التي امتدحَها إيليا بعد سماعِ هذه القصّة.
‘لم أكن أعلم…’
أدركتْ راينا سبب تسميةِ لوسيوس بالدّوقِ الوحش.
“أنصحكِ بخلطِ الدواء مع شاي قويّ الرائحة.”
استعدّ إيليا للمغادرة.
“معذرة، لديَّ موعد مع صديق، سأغادر أولاً.”
أشارَ إلى موظف.
بينما كانَ يطلبُ منه مرافقةَ راينا إلى العربة، استعادتْ راينا رباطةَ جأشها.
“آه، أجرة الطّلب…”
“لا دَاعي لذلك.”
اتّسعتْ عَينا راينا.
“حتّى أنا سأشعرُ بالذّنبِ إن أخذتُ مالاً مقابل هذا.”
تمتمَ إيليا لنفسه وهوَ يبتسم.
“إذا احتجتِ شيئاً آخر، تواصلي معي. سأساعدكِ بكل إخلاص.”
قالَ ذلك وغادرَ مقعده.
نظرتْ راينا إلى ظهرهِ وهو يغادرُ دون تردّد، وشعرت بالحيرة.
‘ما هذا الشّعور المُزعج؟’
التعليقات لهذا الفصل " 23"