ركبتْ العربة التي تقلّ راينا و لوسيوس واتجهت دون توقّف نحوَ دار الأيتام وايت فيلد.
قرّرتْ راينا أن تغفو قليلاً أثناء الرّحلة.
فقد رأتْ أوهاماً و تعرضت للسرقة، مما جعلها تشعر بإرهاقٍ مضاعف.
أمالَتْ راينا رأسها نحو نافذة العربة، ونظرتْ إلى المناظر الطبيعيّة الهادئة.
بينما كانتْ تشاهد ضفّة النهر تتلألأ تحت أشعة الشّمس، بدأت عيناها تتثاقلان.
في اللّحظةِ التي أوشكت فيها جفونها على الانغلاق تماماً، رأتْ راينا شيئًا.
رأتْ مياه النهر تتحوّل إلى لونٍ داكن.
أحست راينا بحدسها أنها إن أغمضت عينيها الآن، ستحلمُ بكابوسٍ لا محالة.
ولم تخب توقعاتها.
أدركتْ هذه المرة أيضاً أنها تحلم.
لكنها لم ترَ شكلَ الوحش.
‘أين هذا المكان؟’
كانت راينا داخل قصرٍ واسع مزين بأسلوب عتيق.
كانَ القصر هادئاً، كما لو أنه خالٍ من البشر.
سارت راينا في القصر دونَ أن تصدر صوت أقدام عالٍ، و هي تستطلع المكان.
‘هذا القصر واسعٌ جدًّا ‘
بينما كانتْ راينا تسير في الممرّ، وهي تفكر أنها قد تضيع، سمعتْ صوتاً خافتاً يأتي من مكانٍ ما.
اتّجهتْ راينا نحوَ مصدر الصوت.
كانَ الصّوت ينبعث من غرفة بابها موارب قليلاً.
ألقت راينا نظرة من خلال الفتحة.
‘كاليكس!’
كانَ كاليكس هناك.
كانَ يتحدّثُ مع شخصٍ ما.
لكن الشّخص الآخر كان مخفياً خلف الباب، فلم ترَه.
“… هكذا.”
تحدًثَ كاليكس بهدوء، لكن كلامه بدا متقطعاً.
أمالتْ راينا رأسها أكثر لترى الشخص الآخر، وألقت نظرة أعمق داخل الغرفة.
فجأة، اتّسعت عيناها.
كانَ الشّخص الذي يتحدث مع كاليكس ليس سوى الوحش.
‘ما هذا؟’
على عكسِ ما رأته في حلمها الأول، لم يبدُ كاليكس خائفاً من قرب الوحش.
بل كانَ يتحدّث إليه بهدوء وثبات.
أمّا الوحش فبقي ساكناً، لا يردّ على كاليكس، كما فعل مع راينا سابقاً.
‘لماذا لا يهرب كاليكس من الوحش؟’
بينما كانتْ راينا تشعرُ بالحيرة، رَفع كاليكس ذراعه فجأةً و مدّها نحوَ الوحش.
ارتجف الوحش قليلاً و تراجع خطوةً إلى الخلف.
“لا بأس.”
قال كاليكس ذلك و اقتربَ من الوحش.
عندما لمست يد كاليكس جسد الوحش، حدث شيء غريب.
بدأ شكل الوحش يتفكّك تدريجياً، و انتقلَ إلى كاليكس.
‘لماذا…’
في اللّحظة التي لامست فيها أصابع كاليكس مسحوقاً أسود يتسرب من الوحش، ابتسم كاليكس بصوتٍ خافت.
شعرت راينا غريزياً أنها لا تستطيع الوقوف مكتوفة الأيدي أكثرَ من ذلك.
“كاليكس!”
فتحتْ راينا الباب بعنف و هيَ تنادي كاليكس.
فجأةً ، سحبَ كاليكس يده بسرعة ونظر إلى راينا.
“… راينا؟”
اتّسعتْ عينا كاليكس بدهشة.
أخفى يده التي لمست الوحش خلف ظهره.
“كاليكس، هل أنتَ بخير؟ للتّو…”
بينما كانت راينا تقترب و تسأل، تراجعَ كاليكس إلى الخلف.
“لماذا أنتِ هنا، راينا؟”
“ماذا؟”
“هذا المكان… لا ينبغي أن تكوني فيه، راينا.”
قالَ كاليكس بصوتٍ مرتجف بالقلق.
بدأ المشهدُ المحيط يتشوّه تدريجيًّا.
مالت الأرض فجأةً ، ففقدت راينا توازنها للحظة.
‘لا يمكن أن يستمر هكذا.’
عندما بدأ الفضاء ينهار، شعرتْ راينا أن عليها أن تأخذ كاليكس و تهرب فوراً.
“كاليك…”
[لا تلمسي كاليكس.]
رنّ صوتُ الوحش في رأسها.
فجأة، انحرف الفضاء تماماً و تحوّلَ إلى ظلامٍ دامس.
“كاليكس؟”
[كاليكس هرب.]
“هرب؟”
ليس من الوحش، بلْ منّي؟
لم تستطع راينا أن تفهمَ الأمر.
[هذا داخل حلم كاليكس.]
“حلم كاليكس؟”
هل كلّ الكوابيس التي رأيتها كانت أحلام كاليكس؟
[لقد رأيتِ ذلك بنفسكِ، أليس كذلك؟]
اقتربَ الوحش من راينا و هو يتحدّث.
[لقد رأيتِ ما يريده كاليكس منّي.]
“يُريد؟”
استعادتْ راينا المشهد الذي رأته للتّو في ذهنها.
مدّ كاليكس يده نحو الوحش، وعندما لامس جسده المسحوق الأسود المتسرب منه، ابتسم.
[كاليكس يريد قوّتي الشّريرة.]
لم تصدّق راينا ذلك.
كيفَ لكاليكس الوديع أن يرغب في قوّة الوحش؟
[أنا كائن يُعذب كاليكس، لكنه يستمرُّ في استدعائي.]
“….”
[منذ أن تحوّلت إلى هذا الوحش.]
غرقَ صوت الوحش في نبرة منخفضة.
[راينا، هذه ليست صورتي الحقيقية. لكن قوتي ضعفت، فلم أعد قادراً على الظهور بصورتي الأصلية كتمثال بومر، و صرت هكذا.]
“إذاً، ما هي هيأتكَ الحقيقية؟”
[لن أخبركِ إلا إذا عقدتِ معي صفقة.]
“لماذا؟”
[ألستِ بلا أيّ صلة بعائلة إنغرسول؟]
“….”
[اسمعِي جيدًا، راينا.]
شرح الوحش لراينا كيف يمكنها عقد الصفقة.
[لعقد صفقة معي، تحتاجين إلى دمِ سيّد عائلة إنغرسول.]
دم لوسيوس؟
فجأةً ، خطرت فكرة لراينا و سألت الوحش بسرعة
“هل تعني أنّ الشّيء الذي طلبتَ مّني جلبه هو دم لوسيوس؟”
هزّ الوحش رأسه.
[ليس دمه مباشرة، بل شيء يحتوي على دمه.]
أوصى الوحش راينا قائلاً:
[عندما تحصلينَ على ذلك الشيء، اذهبي إلى كاليكس. و.أمامه، ضعي دمكِ على ذلك الشيء. عندها ستتم الصفقة، و سأتمكّن من الظهور بصورتي الأصلية.]
“ألم تقل إن قوتكَ ضعفت فلا تستطيع الظهور بصورتك الأصلية؟”
سألت راينا وهي لا تزال مرتابة.
ضحكَ الوحش بصوتٍ أجشّ.
[راينا، ألستِ إنسانة مميزة؟ إذاً، هذا ممكن.]
قال الوحش إنه سيخبرها بكل شيء إذا عقدت الصّفقة معه.
“أخبرني، ماذا يجبُ أن أحضر؟”
[الأمر بسيط. أحضري تمثال بومر الذي يملكه.]
“… تمثال بومر؟”
شعرتْ راينا أن الاسم ليس غريباً.
تذكّرت فجأةً قصة بومر التي رواها لها كاليكس.
كانَ بومر دباً يظهر في تلك القصة.
“سرقة شيء يحمله لوسيوس معه لن تكون سهلة.”
[لكنها أسهلُ من الحصولِ على دم لوسيوس مباشرةً، أليس كذلك؟]
لم تستطع راينا الرّد للحظة.
[عليكِ العودة إلى كاليكس قبل أن تنتقل البقعة السوداء إلى عينيه. بمعنى آخر، قبل أن يمتص كاليكس قوّتي الشّريرة.]
اختفى الوحش في الظلام بعدَ هذه الكلمات.
“… انتظر!”
فتحتْ راينا عينيها فجأة.
استيقظتْ مرّةً أخرى و كأنها طُردت من الحلم.
“هل أنتِ بخير؟”
التفتتْ راينا مذعورة.
كانَ لوسيوس ينظر إليها و هي تلهث بعد استيقاظها من النوم.
“أنا بخير.”
هزّت راينا رأسها، لكن لوسيوس لم يُحوّل نظره عنها.
ألقتْ راينا نظرة خاطفة على لوسيوس.
‘أين يمكنُ أن يحتفظَ لوسيوس بذلك التّمثال؟’
و كيفَ سأسرقه؟
***
وصلت راينا و لوسيوس أخيراً إلى دار الأيتام وايت فيلد.
عندما نزلا من العربة، استقبلتهما مديرة الدار، آنا.
لم تستطع آنا إخفاء دهشتها عندما رأت الاثنين يدخلان غرفةَ الاستقبال.
كانتْ تعلم مسبقاً أن راينا ستزور الدار بناءً على رسالة سابقة، لكنها لم تتوقع وجود مرافق.
فوجئت آنا أولاً بوسامة الرّجل الذي رافق راينا، وهو وجه لا يُنسى بسهولة، و ثانياً عندما رأت قفازاته تحملُ شعارَ عائلة إنغرسول.
لم يكن مجرّدَ نبيلٍ عادي، بل الدّوق الوحش نفسه، فبدأت آنا تقلق على راينا.
تذكّرت آنا أول لقاء لها مع راينا.
قالت راينا إنها تخطط لإدارة دار أيتام، و كانت تزور عدّة دور في الإمبراطورية بِنفسها.
تساءلت آنا لماذا تريد ابنة نبيل إدارة دار أيتام.
افترضت أنّ رعاية الأطفال ربما كانت موضة بين السيدات و الآنسات، لكن راينا كانت جادّة.
أعجبت راينا بطريقة آنا في إدارة الدار و أرادت أن تتعلّمَ منها.
كانَ واضحاً من عينيها أنّها تهتم بالأطفال بصدق، فلم تستطع آنا إلّا أن تحبّها.
كانت راينا تبدو باردة في تعابيرها و نبرتها، لكن كلماتها كانت دافئة على عكس ما يُتوقع من نبيلة.
بدت كآنسة متمرّسة في التعامل مع الناس في الأوساط الاجتماعية، لكنها قالت إنها كانت مريضة و تقضي معظمَ وقتها في القصر.
لذلك، شعرت آنا بقلقٍ خاص تجاه راينا.
‘مثل هؤلاء الفتيات إذا وقعن مع الرجل الخطأ، تصبح حياتهنّ صعبة.’
لأنهن لا يملكن القدرة على تمييز الرجال الجيدين. و مِن بين كل الرجال، اختارت الدّوق الوحش!
“… آنا!”
خرجت آنا فجأةً من أفكارها عندما نادتها راينا.
“آسفة، هل يمكنكِ تكرار ما قلتِ؟”
“الطّفل الجديد الذي أخبرتِنا عنه في الرسالة.”
“آه، الفتى ذو الشعر الأسود و العينين الحمراوين. سأرافقكما إليه.”
“لا، سأذهب وحدي.”
قال لوسيوس ذلك و اتّجه نحو مكان تجمع الأطفال.
استمرت آنا في خفض رأسها حتى بعد اختفائه.
“آنا.”
لم ترفع آنا رأسها إلا عندما نادتها راينا.
تأكدتْ آنا من اختفاء لوسيوس، ثم قالت لراينا:
“الآنسة راينا، أنتِ مع الدّوق بسبب قضية البحث عن الطفل، أليس كذلك؟”
“نعم.”
“إذاً، لا توجدُ علاقةٌ بينكما، صحيح؟”
رفعت راينا حاجبيها بدهشة.
“قد يكونَ تدخّلاً مني، لكن… من الأفضل ألا تقتربي منه كثيراً.”
تردّدت آنا ثم سألت:
“ألم تَسمعي تلكَ القصّة؟”
“أيّ قصّة؟”
التعليقات لهذا الفصل " 20"