هل يمكن أن تكون هناك مشكلة في عقولهم؟
كان أفراد عائلة كرولوت يقومون بإيقاف ضمائرهم أو ما تبقى من إنسانيتهم حسب الظروف كما يشاؤون.
‘الكونت و زوجته اللذان كانا يبدوان طيبين، كانا في الحقيقة نبلاء فاسدين أعماهم المال.’
وماذا عن جوناثان الذي كان يبتسم بود أمام راينا؟
كان مجنوناً لا يرى البشر الآخرين كبشر ما لم يكونوا من عائلته.
فكيف يمكن أن تكون راينا، التي نشأت في هذه العائلة، مختلفة؟
بعد أن تجسدت في جسد راينا، كان عليها أن تصغي بوجه هادئ لأحاديث الكونت و زوجته عن طرق التهرب الضريبي كي لا تثير الشكوك.
‘مهما كانوا أناساً عديمي الأخلاق…’
خطفهم لطفل بلغ حداً لا يُحتمل!
“وأيضاً راينا، كيف تسمين هذا خطفاً؟”
في اللحظة التي شعرت فيها راينا بقشعريرة في ظهرها، تحدث جوناثان بنبرة مستاءة.
“هذا الطفل يتيم متشرد. وجدته مرمياً على شاطئ الجنوب، فأحضرته معي لا أكثر.”
…شاطئ الجنوب؟
نظرت راينا مجدداً إلى الفتى.
شعر أسود و عيون بلون الدم.
جسد ضعيف يبعث على الشفقة.
و…
يتيم متشرد من شاطئ الجنوب.
‘هذا مستحيل.’
شحبت ملامح راينا حتى أصبحت مثل الفتى.
“راينا.”
ناداها جوناثان بلطف، و هو يراها تحدق في الصبي دون أن تبعد عينيها عنه.
“مع هذا الطفل، لن تشعري بالوحدة. فهو إنسان، و سيعيش أطول من القطط.”
ابتسم جوناثان برضا، متمنياً أن تملأ راينا فراغ أخيها بهذا الطفل.
“هل…”
“همم؟”
اقترب جوناثان من راينا عندما لم يسمع صوتها المنخفض.
و كانت تلك اللحظة.
“هل جننت؟! هل جننتَ يا أخي؟!”
صرخت راينا وبدأت تضرب ظهر جوناثان بكلتا يديها.
من يكون هذا الصبي الذي أحضره جوناثان؟
‘إنه كاليكس!’
ذلك الأخ الأصغر المحتضر للدوق لوكيوس إنغرسول، الذي يُعرف في الإمبراطورية بـ”الدوق الوحش”.
شعرت راينا برغبة في البكاء.
‘الآن عائلة كرولوت ستُباد بالكامل على يد لوسيوس!’
لم يمضِ وقت طويل بعد مغادرة جوناثان إلى الأكاديمية البحرية حتى رأت راينا اسم لوسيوس في الصحيفة الإمبراطورية.
الدوق لوسيوس إنغرسول الذي أُرسل بأمر من الإمبراطور إلى مناطق النزاع مع الدول المجاورة.
حينها فقط، تذكرت راينا الرواية التي تجسدت فيها.
تبدأ الرواية حين تتبنى البطلة كاليكس، اليتيم المتشرد.
ولم تكن جريمتها سوى الاعتناء به بإخلاص حتى وفاته، لكنها واجهت خطر إبادة عائلتها بالكامل.
لأن الشرير في الرواية، لوسيوس، أصبح مظلماً بعد فقدان أخيه و أعلن الحرب على عائلة البطلة.
‘لأنه اتهم البطلة باختطاف كاليكس والتسبب في موته.’
شعرت راينا بالشفقة تجاه البطلة التي ينتظرها طريق مليء بالمعاناة.
لكن ذلك لم يدم طويلاً، فالأمر لم يعد يعنيها.
عائلة الكونت كرولوت التي تنتمي إليها راينا لم تُذكر حتى في الرواية الأصلية.
أي أنها ليست الشريرة التي ستنال جزاءها، و لا الشخصية الجانبية التي تموت ظلماً.
كان عليها فقط أن تترك الأبطال يهزمون الأشرار كما في الرواية، و تعيش حياتها الثانية بسلام.
ولأجل تلك الحياة السلمية، كان عليها فقط أن تقطع علاقتها تدريجياً بعائلتها التي قد ينتهي بها المطاف في السجن في أي لحظة.
‘هكذا يجب أن يكون الأمر!’
لكن جوناثان، الذي عاد إلى المنزل بعد غياب طويل، ألقى قنبلة موقوتة وسط حياتها الهادئة.
“راينا.”
أمسك جوناثان بمعصم راينا.
“لقد تغيرتِ.”
آه.
شعرت راينا بالذعر.
فقد أظهرت انفعالها في هذا الموقف الكارثي.
وجوناثان يظن أن راينا شخص لا يُظهر مشاعره بسهولة.
كان إظهارها للمفاجأة والغضب كما فعلت للتو كافياً لإثارة شكوكه.
‘لا ينبغي أن يحدث هذا .’
تذكّرت راينا الحادثة التي مرت بها في شهرها الأول بعد التجسد.
ماذا حدث عندما حاولت منع الكونت و زوجته من إنزال عقوبة قاسية جداً على أحد الخدم بسبب خطأ بسيط؟
نظراتهم اللطيفة تحولت في لحظة إلى برود قاسٍ، و بدؤوا يشكون في أن عقلها قد أصابه خلل خطير.
كادت راينا تُساق إلى مكان مشبوه وخطير يُدعى “مستشفى تقويم العقل”، و هو ليس حتى مستشفى حقيقياً.
“لقد أصبحتِ… أضعف من ذي قبل.”
قالها جوناثان وهو يحدق في راينا المتوترة.
“ماذا؟”
“كنتِ في السابق تصفعينني.”
كان جوناثان يتلقى صفعة منها بين الحين والآخر عندما يزعجها.
وكان يفتقد الخدوش التي كانت تتركها أظافرها على خده، لذا بدا عليه الأسف لأن ضرباتها الآن على ظهره لم تكن مؤلمة.
‘لحسن الحظ.’
جوناثان مجنون.
شعرت راينا بالارتياح في داخلها وسحبت يدها من قبضته.
“ولِمَ ذهبتَ إلى شاطئ الجنوب أساساً؟”
كيف يعقل أن يكون جوناثان، وليس البطلة، هو من أحضر كاليكس؟
“شاطئ الجنوب كان نقطة توقف في طريق العودة إلى المنزل. مكثت هناك مع زملاء و توقفت معهم أيضاً.”
شعرت راينا بالذهول.
فبما أن مجموعة من الرجال كانوا يتجولون وهم يرتدون زي الأكاديمية، فلا بد أن الناس هناك لاحظوهم جيداً.
‘وإذا كان قد أحضر كاليكس بينما كان مع أصدقائه.’
فكلما زاد عدد الشهود، كان وصول لوسيوس إلى عائلة كرولوت مسألة وقت.
“شاطئ الجنوب مشهور بكونه مكاناً للاستجمام. أرسلت زملائي قبلي، و بقيت وحدي لأقضي بعض الوقت الإضافي. أردت أن أشعر بأنني في عطلة، لذا ارتديت ملابس مريحة.”
“إذاً… هل التقيتَ بالطفل عندما كنتَ لوحدك؟”
أومأ جوناثان برأسه.
حينها فقط، استرخت عضلات جسد راينا قليلاً بعدما اعتقدت أنها نجت من الأسوأ.
“التقيت بالطفل ليلة اليوم السابق للمغادرة، عند الجرف القريب من الشاطئ.”
نظر جوناثان إلى كاليكس بطرف عينه، ثم عاد لينظر إلى راينا.
“رؤيتي لطفل واقف وحده في منتصف الليل على الجرف ذكرتني بكِ. كانت عيناه تشبهان عينيك في آخر مرة رأيتكِ فيها.”
رؤيته لكاليكس ذكرته بي؟
ما هذا الهراء الآن؟
“عندما قلتُ ان قلبي تألم و أنا أغادر، لم أكن أبالغ.”
وضع جوناثان بهدوء يده على كتف راينا.
“لقد كنتِ في حالة من الحيرة و عجزتِ عن الكلام فجأة. وبما أننا كنا مقربين كالأصدقاء، فلا بد أنكِ حزنتِ كثيراً.”
كان جوناثان هو الوحيد الذي تتحدث إليه راينا، لأنها كانت ضعيفة و لا تستطيع الخروج بحرية.
وكان يعرف أنها، رغم أنها لم تُظهر أي شيء، لا بد أنها شعرت بوحدة عميقة بعد مغادرته.
“حتى بعد ذهابي إلى الأكاديمية البحرية، ظلت ملامح وجهكِ الأخيرة تراودني باستمرار.”
مستحيل.
انفتح فم راينا قليلاً وهي تستمع بصمت إلى كلماته.
“لذا، عندما فكرت أن أترك هذا الطفل، شعرت و كأنني أترككِ أنتِ هناك.”
يعني الآن…
‘السبب الذي جعل جوناثان يحضر كاليكس هو صمتي التأملي؟’
فقدت راينا القدرة على الكلام.
لقد كانت قد استيقظت لتوها بعد أن صدمتها شاحنة، و وجدت نفسها قد تجسدت داخل رواية، فما الذي كان بوسعها فعله؟
و بما أنها كانت مشوشة، فقد قررت التزام الصمت إلى أن تكتشف في أي رواية تجسدت.
‘كنت أحاول فقط تجنّب أي خطأ قد يؤثر على مجرى الرواية.’
لكن تصرفها هذا هو ما تسبب بانحراف القصة الأصلية!
شعرت راينا بالذهول والظلم في الوقت ذاته.
“عندما عرضتُ عليه المجيء معي، وافق بسهولة. لم يتحدث، لكنه أومأ برأسه بوضوح.”
استرجع جوناثان ذكرياته، ثم نظر فجأة إلى كاليكس وكأنه تذكّر شيئاً.
“الآن وقد فكرت بالأمر، لم أره يتكلم قط. هل يعاني من فقدان النطق؟”
نقر لسانه بخفة.
“آه، إن لم يكن يتكلم، فلن يكون أفضل من قطة.”
هز كتفيه، ثم التفت إلى راينا.
“راينا. هذا إنه هدية أعددتها لأجعلكِ سعيدة، لكن إن لم تعجبكِ، فلا بأس إن لم تقبليها.”
كانت راينا قد فقدت تركيزها عندما أدركت أنها السبب في تشويه مجرى الرواية، لكنها استعادت وعيها فجأة.
“هل ستعيد الطفل إلى مكانه الأصلي؟”
“هذا متعب جداً. سأبيعه لتاجر عبيد، ببساطة.”
شعرت راينا بالرعب.
فحتى إن بقي كاليكس عندهم، سيأتي لوسيوس ليتهمهم بالخطف، و إن باعوه لتاجر عبيد، فسيأتي لينتقم.
‘فلوسيوس سيخوض الحرب مهما حصل.’
هل تظن أن لوسيوس صار الشرير في الرواية من فراغ؟
كان يتظاهر أن سبب الحرب هو حزنه على موت أخيه، لكن كاليكس لم يكن إلا مجرد أداة.
فالحقيقة أن لديه دافعاً خفياً مظلماً يجعله مضطراً لخوض الحرب.
‘هل يمكنني تدارك الأمر إن أعدت كاليكس إلى مكانه الأصلي الآن؟’
نظرت راينا إلى كاليكس.
وفي تلك اللحظة التقت نظراتها بنظراته.
وعندما رأت عينيه الحمراوين الغارقتين في الظلمة، عجزت راينا عن الكلام للحظة.
لقد كانت منشغلة بالموقف لدرجة أنها لم تنتبه لحالة كاليكس.
كيف سيكون شعور طفل سمع نفسه يُوصف بهدية أو عبد؟
في الوقت الذي كانت راينا تفتح فمها لتتكلم دون أن تستطيع النطق.
“لن… لن أسمع شيئاً، ولن أرى شيئاً، ولن أقول شيئاً. لذا أرجوكِ…”
لأول مرة، فتح كاليكس فمه بعد صمت طويل.
وبصوته المرتعش تابع قائلاً
“دعيني فقط… أبقى هنا من فضلك.”
التعليقات لهذا الفصل "2"