في اليوم التاّلي، تناولت راينا و لوسيوس وجبةَ الإفطار معًا.
لم تتمكّن راينا من التّركيز على الطعام بسبب الحلم الذي رأتهُ اللّيلة الماضية.
‘لم يعد هناك وقت.’
كانَ الوحش قد قال ذلكَ بوضوح.
كأنّ خطرًا كبيرًا يقتربُ مِن كاليكس.
وفقًا لما تتذكّره راينا من القصّة الأصليّة، كانَ على كاليكس أن يمرّ بنوبتي حمّى أخريين قبل أن يفقد حياته.
‘لم يبدُ أنّ الوحشَ يتحدّث عن الحمّى.’
هل هُناكَ خطرٌ آخر؟
لم تكنْ راينا متأكّدةً إلى أي مدى يمكنها تصديق كلام الوحشِ، لكنّها لم تستطع تجاهله تمامًا.
رفعت راينا عينيها قليلاً.
رأتْ لوسيوس جالسًا مقابلها.
‘إذا كان سيد عائلة إنغرسول، فهو يعرف شيئًا عن اللّعنة.’
إذن، يجبُ أن يكونَ لوسيوس على درايةٍ بالرّابط بين طريقة رفع اللّعنة و الوحش.
‘ما الذي طلب مني الوحش أن آخذه من لوسيوس؟’
بينما كانت راينا غارقة في التفكير و تنظر إلى لوسيوس بخفية، تحدّث
“هل لديكِ شيءٌ تريدينَ قوله؟”
نظرَ لوسيوس إليها، فارتجفتْ راينا عندما تقاطعت أعينهما مباشرة.
“هل لديكِ شيء تريدين قوله؟”
كرّرَ لوسيوس سؤاله.
“ربّما لأنّنا غادرنا القصر، لم أنمْ جيّدًا.”
“……”
“كنتُ أرى كابوسًا مخيفًا، و عندما استيقظت، وجدت صعوبةً في العودة إلى النوم.”
لم يبدُ لوسيوس متأثّرًا بكلامِ راينا.
كانَ وجهه يقول إنّه لا يهتمّ إن كانت قد نامت جيّدًا أم لا.
لم تستسلم راينا و واصلتْ بحزم:
“هل ترى الكوابيس أيضًا، سموّك؟”
أخيرًا، أظهر لوسيوس ردّ فعل.
تقلّصت عيناه بحدّة.
“هل هذا ما يهمّكِ؟”
بدتْ نبرته و كأنّه يجد الأمرَ سخيفًا أن تطلب تناول الطعام معًا فقط لتسأل عَن هذا.
“عادةً، لكلّ شخصٍ كوابيس متكرّرة.”
واصلتْ راينا و هي تراقب تعبيراته
“بالنسبة لي، تكونُ عن وحش.”
ضاقت جبهة لوسيوس قليلاً.
أرادتْ راينا اختباره لمعرفة إن كانَ يرى أحلامًا عن الوحش أيضًا.
“وحشٌ ضخم، أسود، مثلُ كائنٍ غامض لا يمكن رؤيته في الواقع.”
“……”
لم يُجب لوسيوس.
نظرَ إليها بهدوء للحظة، محاولاً فهم نواياها.
“لا أرى أحلامًا.”
“ماذا؟”
“أنا لا أحلم.”
شعرتْ راينا بالإحباطِ من إجابته القصيرة.
كانَ هناك اتفاق ضمني بأنّ لوسيوس سيجيب بصدق على أسئلتها خلال وقت الطعام.
إذن، إجابته الآن تعني أنّه لا يكذب.
‘لو كان لوسيوس يرى أحلامًا عن الوحش، لكان قد استحضر صورته فور سماع وصفي.’
لكن وجهه الآن لم يظهرْ أيّ دهشة، بل بدا منزعجًا من كلام راينا العشوائي.
‘إذن، لماذا ذكرَ الوحش لوسيوس؟’
أصبحت أفكار راينا أكثرَ تعقيدًا.
في تِلك اللحظة، رفع لوسيوس كوب الشاي إلى فمه.
بينما كانت راينا تنظر إليه بلا مبالاة، اتّسعت عيناها فجأة.
“سموّك!”
نادته راينا بسرعة.
توقّف لوسيوس و نظرَ إليها.
“لا تشرب هذا الشاي.”
عبسَ لوسيوس و أنزلَ الكوب من فمه.
“في الشاي…!”
تلعثمتْ راينا.
نظرت إلى الكوب و شعرت بالذهول.
“ما الأمر؟”
“كنتُ متأكّدة…”
مالت راينا رأسها بدهشة.
لقد رأته.
لون الشاي الذي كان يشربه لوسيوس تحول إلى الأسود.
لكن عندما نظرت مجدّدًا، كانَ الشاي برتقاليًا صافيًا كما لو لم يتغيّر قطّ.
‘هل أخطأتُ الرؤية؟’
كانَ المشهدُ واضحًا جدًا ليكون مجرّد خطأ.
“لا شيء، أعتذر.”
شعرتْ راينا بالضّيق لكنّها اعتذرت إلى لوسيوس.
نقل لوسيوس نظره منها إلى الكوب.
حدّقَ في الشاي بهدوء.
لمعت عيناه ببرود.
فتح لوسيوس شفتيه كأنّه سيُعلّق بشيء، لكنّه أغلق فمه مجدّدًا.
وضعَ الكوب ون ظر إلى راينا.
كانتْ راينا غارقةً في أفكارها.
استغلّ لوسيوس الفرصةَ ليفحصها بعينيه.
مرّتْ نظراته عبر رموشها الكثيفة المنخفضة، ثمّ إلى خدّيها النّاعمين.
ثم انتقلت إلى أذنها المكشوفة بعد أن أزاحت شعرها.
كانت أذنها الرّقيقة تلمع بشفافيّة تحت ضوء الشّمس.
تنفّس لوسيوس بعمق بهدوء.
حدّقَ فيها بعمق، ثمّ أشاحَ بنظره فجأة.
***
بعدَ انتهاء الطعام، استعدّ الاثنان للتوجّه إلى دار الأيتام.
بينما كانتْ راينا تخرجُ مِن النّزل متّجهة إلى مكان العربة، اصطدمت فجأةً بشخص يركض نحوها.
“آسف!”
انحنى فتى يرتدي قبّعة منخفضة ليعتذر لراينا، ثم مرّ بها مسرعًا.
لم تُعِـر راينا الأمر اهتمامًا.
لكن لوسيوس كانَ مختلفًا.
كان ينتظرها أمام العربة، و مدّ ساقه قليلاً.
“آه!”
تعثّر الفتى بساقهِ و سقط.
انحنى لوسيوس على الفور و أمسك الفتى من قفاه.
“ما هذا؟ اتركني!”
تلوّى الفتى الذي رفعه لوسيوس.
مدّ لوسيوس يده إلى جيب بنطال الفتى بلا تعبير. سرعانَ ما خرج بشيء من الجيب.
اتّسعت عينا راينا.
كانَ الشيء في يد لوسيوس هو محفظتها.
تحسّست راينا خصرها لتتأكّد.
كانتْ المحفظة التي كانت تتدلّى من خصرها قد اختفت تمامًا.
“كان لصًا؟”
نظرتْ راينا إلى الفتى بدهشة.
بدلاً من طلب العفو بعد أن تم ضبطه، بدا الفتى أكثر غضبًا.
“اتركني!”
تجاهل لوسيوس كلامه و أمسكَه بقوّةٍ أكبر. ثمّ ناولَ المحفظة إلى راينا.
“شكرًا.”
تلقّت راينا المحفظة بوجهٍ مرتبك.
“كح!”
بدأ الفتى يصدر أصواتًا كأنّه يختنق.
يبدو أنّ لوسيوس أمسكَ ياقته بقوّة شديدة لدرجة أنّه ضغط على حلقه.
“اتركه.”
“إنّه يتظاهر.”
أجاب لوسيوس بنبرةٍ فاترة.
توقّفَ الفتى عن إصدار أصوات الاختناق. ثمّ بدأت كتفاه ترتجفان، و بدأ بالبكاء.
“لقد أخطأت…”
مسحَ الفتى عينيه بظهر يده و أخد يحاول اسعطافهما.
“كنتُ جائعًا جدًا. لم آكل سوى نصف رغيف خبز خلال ثلاثة أيّام…”
يا له من جوع.
بينما كانت راينا تشعر بالشّفقة على الفتى الباكي، أمر لوسيوس
“ارفع رأسك.”
شعرَ الفتى بالرّهبة مُن نبرته المنخفضة، فرفعَ وجهه بتردّد.
كما قال لوسيوس، كانَ وجه الفتى خاليًا من الدّموع، بل بدا ناعمًا و جافًا.
ضحكتْ راينا بسخرية.
سألت لوسيوس و هي تضع ذراعيها على صدرها
“كيف ستتعامل مع هذا اللصّ؟”
نظرَ لوسيوس إليها للحظة ثمّ أجاب
“سأسلّمه للحرّاس.”
عند ذكر كلمة “حرّاس”، اتّسعت عينا الفتى.
“لا، لا يمكن!”
جمع الفتى يديه و بدأ يتوسّل بشدّة
“أرجوك، سامحني هذه المرّة فقط! إذا أمسك بي الحرّاس، سيعاقبونني!”
“إذا ارتكبتَ جريمة، يجب أن تُعاقب.”
قالت راينا بنبرةٍ باردة.
امتلأت عينا الفتى بالدّموع. هذه المرّة، لم تكن دموعًا مزيّفة.
“أقسم، هذه أوّل مرّة!”
صاح الفتى بإحساسٍ بالظلم.
“اليوم كانت المرّة الأولى التي أسرق فيها. لم أفعل شيئًا كهذا من قبل.”
ضيّقتْ راينا عينيها.
“حقًا، كنتُ جائعًا جدًا… لم أتمكّن حتّى من تناول نصف رغيف خبز…”
تنهّدَ الفتى و هو يمسح أنفه.
نظرت راينا إلى لوسيوس.
“لم يكن في جيب بنطاله سوى محفظتكِ.”
“……”
“بالنسبة إلى لصّ ، كانت مهارته رديئةً جدًا.”
كان يعني أنّ راينا وقعتْ ضحيّة لصّ مبتدئ، لكن يبدو أنّ الفتى كانَ فعلاً مبتدئًا كما ادّعى.
اقتربتْ راينا خطوةً من الفتى وقالت
“لكن لو نجحتَ؟”
“ماذا؟”
نظرَ الفتى إليها وهو يمسحُ أنفه.
“لو لم يتمّ القبض عليك، لكنتَ اشتريتَ خبزًا بالمال المسروق، أليس كذلك؟”
“….. ”
“كنتَ ستعتقد أنّ سرقة المحافظ تجعل ملء معدتك أمرًا سهلاً، و ستستمرُّ في سرقةِ الآخرين، أليس كذلك؟”
“……”
“هل تستطيع إنكارَ ذلك؟”
لم يستطع الفتى الإجابة.
“التفكير في سرقةِ المال لملء معدتك شيء، و القيام بالسرقة فعليًا شيء آخر. الفرق بينهما كبير.”
نظرَ الفتى إلى راينا وهو يمسح أنفه.
“هل تعتقد أنّ العودة إلى الجانب الصحيح بعد تجاوز هذا الخطّ أمر سهل؟”
تشوّهتْ ملامح الفتى تدريجيًا.
سرعانَ ما انفجر بالبكاء و هو يتوسّل بالمغفرة.
حدّقت راينا في الفتى بهدوء. كانَ وجهها باردًا.
“ما اسمك؟”
“ماذا؟”
“اسمكَ و مكان سكنك. قل كلّ شيء.”
بدت تعابير الفتى متعجّبة، لكنّه أجابَ كما أمرته راينا.
“الآن أعرف اسمكَ و مكان سكنك، يمكنني العثور عليكَ في أيّ وقت.”
“…… ”
“إذا سلّمتُ معلوماتكَ إلى الحرّاس، سيتمّ تسجيلك كشخصٍ تحت المراقبة.”
تحوّلَ وجه الفتى إلى اللون الأبيض.
“إذا ارتكبتَ هذا الفعل مرّة أخرى، سيجدك الحرّاس على الفور و يأخذونك. هل فهمت؟”
أومأ الفتى برأسه بسرعة.
نظرت راينا إلى لوسيوس.
بما أنّ لوسيوس ظلّ صامتًا، أشارتْ إليه بعينيها نحو يديه.
أخيرًا، أطلق لوسيوس الفتى.
“أنا آسف، أنا آسف جدًا!”
انحنى الفتى لراينا و لوسيوس ثم ركضَ بعيدًا.
“هل هذا كل شيء؟”
“إنّه مبتدئ. إذا فعلَ ذلك مرّة أخرى، فعندها يستحقّ العقاب.”
قالتْ راينا بهدوء.
حدّقَ لوسيوس في راينا للحظة.
“ما الأمر؟”
“لا شيء.”
أشارَ إلى العربة بعينيه و أخبرها أن تركب.
التعليقات لهذا الفصل " 19"